«خلفك عار العرب»... أيتها الحرية الطالعة من البطون الخاوية

13-05-2017

«خلفك عار العرب»... أيتها الحرية الطالعة من البطون الخاوية

مع دخول الأسرى الفلسطينيين أسبوعهم الرابع في «إضراب الحرية والكرامة» وتزامن ذلك مع ذكرى النكبة (15 مايو)، نخصّص عروضنا هذا الشهر للقضية الوطنية الفلسطينية، التي هي قضية قومية وأممية بامتياز.

عندما ننظر في قوائم المؤلفات التي لا تزال تصدر بمختلف جوانبها، لكن من دون المساس بالحقائق وبالمقاربة الأكاديمية العلمية الضرورية، نجد أن معظمها يصدر في الغرب وبأقلام كتاب وعلماء غربيين شجعان يرفضون الخضوع لابتزاز العدو الصهيوني القاتل، الذي يحاول بكل الوسائل الدخول في جسد القتيل، ليدّعي أنّه هو الضحية. وقد اخترنا أربعة مؤلفات، حديثة الصدور، عن جوانب من صراعنا مع العدو الصهيوني، كياناً وفكراً.

زياد منى

إيلان بابه يواصل تعرية الكيان الصهيوني
ilan pappe, ten myths about israel. verso, london 2017. 192 pp.
القارئ المتابع يعرف الكاتب إيلان بابه من مؤلفات عديدة صدرت له من قبل أهمها «التطهير العرقي في فلسطين» الذي ترجم إلى العديد من اللغات، منها العربية. دفع بابه ثمناً غالياً لكتابته، وقد عرض معاناته تلك في مؤلفه المهم الذي صدر باللغة العربية تحت عنوان «خارج الإطار: القمع الأكاديمي والفكري في «إسرائيل»».
في «أساطير إسرائيل العشرة»، يمضي الكاتب قدماً في تعريته كيان العدو وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني، غير آبه لاستسلام سلطة قصبية كاريكاتورية أضحت إلى حدّ بعيد ذراع «إسرائيل» في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أي حكومة «فيشي» الفلسطينية. بل إن حكومة فيشي الفرنسية العميلة للاحتلال النازي، لم تجرؤ على ارتكاب جريمة محاكمة أي فرنسي سقط وهو يحارب المحتل الألماني كما تفعل ميليشيا رام الله التي تحاكم باسل الأعرج الذي سقط في مواجهة مع قوات العدو.

يواصل إيلان بابه تقصّيه العلمي والفكري لكيان العدو، ومحاربة جوهره العنصري غير مكترث بالاستسلام المخزي لأغلب المثقفين الفلسطينيين والنخب الفلسطينية، الحقيقية وتلك التي تتوهم كذلك، والتحاقهم أفراداً وزرافات بمسيرة استسلام الزعامات المليشياوية الفلسطينية، والقبول بما يرمي به العدو من فتات. بدأت هذه «النخب» بالخضوع لإملاءات مؤتمر القمة العربية المنعقد في الاسكندرية عام 1970 الذي فرض على العمل الفدائي تسليم السلاح وحلّ القوات الشعبية التي كانت بقيادة الأسطوري الراحل أبو داود، والاندحار إلى مناطق جبلية معزولة في غور الأردن حيث قضت عليها قوات بادية نظام عمان المتصهين.
قسم الكاتب عمله إلى ثلاثة أجزاء أولها «مغالطات الماضي» حيث يتناول بالفضح ادعاءات العدو عن تاريخ فلسطين الحديث، وهي أن فلسطين كانت أرض خواء، وأنَّ «اليهود» كانوا شعباً بلا أرض، وأن الصهيونية هي اليهودية، وأن الشعب الفلسطيني غادر أراضيه ومدنه وقراه عام 1948 طواعية، وأن عدوان عام 1967 كانت حرباً فرضت على كيان العدو. هذه الأكاذيب الرئيسة، يوظفها العدو وحلفاؤه في الغرب الاستعماري لتبرير دعمهم اللامحدود للعدو وعدائهم لقضية الشعب الفلسطيني.
الجزء الثاني «ميثولوجيا أوسلو» ومن بعد «ميثولوجيا غزة»، خصصه الكاتب للحديث في مغالطات الحاضر، ودحضها، وفي مقدمة ذلك الادعاء بأن كيان العدو هو الديمقراطية الوحيدة في جنوب المتوسط وشرقه (الشرق الأوسط)، إضافة إلى فضح اتفاقيات أوسلو التي بدأ الإعداد لها في مدينة فافو النروجية وتعد استكمالاً لمؤتمر مدريد الذي عقد عام 1991 عقب حرب الكويت، وبدأت بإعلان مبادئ وقعت عليها الزعامات المليشياوية وكيان العدو في 13 أيلول (سبتمبر) 1993.
يوضح الكاتب أن اتفاقيات أوسلو قادت في نهاية المطاف إلى عرض رئيس وزراء كيان العدو إيهود باراك على الطرف الفلسطيني كياناً كاريكاتورياً مسخاً مجرداً من السلاح يقوم على أراض فلسطينية احتلها العدو عام 1967، تكون عاصمتها قرية أبو ديس. أما منطقة غور الأردن والقدس «الكبرى» والمستوطنات وسياسات الدويلة الخارجية والمالية، فتكون خاضعة للعدو!
يخصص إيلان بابه جزءاً خاصاً يطلق عليه صفة «ميثولوجيا غزة» للحديث عما يسمى «قطاع غزة» وهو الأراضي الفلسطينية المحررة، لكن الواقعة تحت حصارين، مصري وصهيوني، وعن الأوضاع التي تطورت فيه منذ ما يعرف بالانتفاضة الأولى التي انطلقت شرارتها في مخيم جباليا الواقع في «القطاع» يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 1987. كما يعرض رأيه في ولادة حركة «حماس» تحت نظر الاحتلال الصهيوني [وبموافقته وتسهيل أعماله، إن لم يكن بدعمه]. كانت مؤسسة خيرية في البداية، ثم تحولت إلى تنظيم ديني/ عسكري.
يتطرق الكاتب في هذا الفصل إلى فكر بعض قادة كيان العدو ونظرتهم إلى الفلسطينيين حيث يوضح انتماء بعضهم إلى الفكر الرومانطيقي مثل غُبينو وفِيشت الذي أكد ضرورة الصفاء العرقي شرطاً للتفوق، ومن ثم تشكل القوميين! المعاناة الهائلة لشعبنا في «القطاع» هي ما وسع من دائرة التعاطف الدولي الشعبي مع قضيتنا الفلسطينية الوطنية/ القومية العربية، لا قومية أعراب العمالة والعمولة في الخليج الفارسي. لذا نجد أن هذا الفصل هو الأطول في هذا المؤلف المهم.
الجزء الثالث والأخير «نظرة إلى المستقبل» خصصه الكاتب للحديث في ميثولوجيا ما يسمّى حل الدولتين واعتباره الطريق الوحيد للحل، وما يحكى عن أنّه يقع على قارعة الطريق، وكل ما يحتاج الأمر إليه هو التقاطه. يوضح الكاتب أن ما يسمى حلّ الدولتين، وهو توصيف تضليلي مقيت، هو اقتراح صهيوني بالأساس هدفه تدوير المربع (سنعود إلى هذا الأمر قريباً في مبحث منفصل). أما الهدف، فهو وضع فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967، أي «الضفة الغربية» تحت حكم العدو مباشرة وترك لهم إدارة بعض أمورهم الذاتية مثل جمع القمامة والنفايات والمجاري، وهذا بعد قرن ونصف على انطلاق الحراك الوطني في فلسطين!
يؤكد الكاتب أنّ مشروع ما يسمى الدولتين هو جثة تخرج من المشرحة بين الفينة والأخرى، لمداعبة أحلام من لم يستفق بعد من تأثير مخدر الحلول السلمية.
يختم إيلان بابه مؤلفه بالحديث عن كيان العدو كونه دولة استعمارية استيطانية، ليؤكد ختاماً أن الحل الوحيد الممكن لهذه القضية الاستعمارية الاستيطانية يكمن في إقامة دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.

 

مْيا غوارنيري جرادات: العنصرية بكل تجلياتها
mya guarnieri jaradat, the unchosen: the lives of israel›s new others. pluto press, london 2017. 276 pp.

كيان العدو عنصري، هذه حقيقة ليست في حاجة إلى إثبات. لكن من يبحث عن براهين، سيعثر عليها في أحداث يومية تقع فيه، ومنها ما يرد في كتاب «الآخرون غير المختارين: حيوات الغويم في إسرائيل» للصحافية الأميركية مْيا جرادات.
المسألة هنا ليست كيفية معاملته الفلسطينيين، أهل البلاد وأصحابها، فالعنصرية في هذا المجال أمر بديهي، بل شرط أساس من شروط تأسيس ذلك الكيان. الحديث في هذا المؤلف، يخص طالبي اللجوء من الأفارقة والعمالة الجنوب-الآسيوية، الذين تمكنوا من التسلل إلى فلسطين المحتلة عبر صحراء سيناء، قبل بناء العدو السور على حدود فلسطين المحتلة مع مصر.
بناء الأسوار على الحدود أحد تجليات العنصرية. عندما وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ببناء سور على حدود بلاده مع المكسيك، انتفضت القوى الليبرالية الغربية ووصفته بأنه تصرف عنصري.

لكن بناء العدو ما يسمى مجازاً «جدار الفصل العنصري» وسور النقب/ سيناء، أمر مسموح به ولا يتم الحديث عنه في المجتمعات السياسية الغربية، الليبرالية ونصف الليبرالية. هذا ما تؤكده الكاتبة. هي تؤكد أن هدف العدو من بناء «جدار الفصل العنصري» هو منع العمالة الفلسطينية الرخيصة الباحثة عن أي عمل من أجل العيش، من التسلل إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. الهدف لم يكن أمنياً إطلاقاً، بل عنصرياً.
عنصرية كيان العدو تتجلى أيضاً من خلال كيفية التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين من الإفريقيين على نحو محدد، مع أن كيان العدو كان من الموقعين عام 1951 على وثيقة الأمم المتحدة بخصوص حقوق اللاجئين، وعرّفت اللاجئ وواجبات الدول الموقعة على تقديم اللجوء إليه.
تلاحظ الكاتبة أنّ كيان العدو اتبع بعد «الانتفاضة الثانية» سياسة الاستغناء عن الأيدي العاملة الفلسطينية واستعان بخبرات مشيخات الخليج الفارسي باستحضار عمالة من الخارج لاستخدامهم كأيدي عاملة رخيصة للعمل في البناء والخدمة وتنظيف مدارج البنايات، وفرض قيود صارمة على الكفيل والعمالة. ومن ضمن ذلك طرد كل امرأة تحمل أثناء وجودها في الكيان.
عشرات الآلاف من المهاجرين الأفارقة يطردون سنوياً، يرسلون إلى أوغندا وغيرها، ليموتوا لاحقاً على يد التنظيمات التكفيرية في منطقة الساحل عند محاولاتهم الوصول إلى شمالي إفريقيا للهجرة عبر البحر المتوسط، أو يغرقون فيه.
المدينة الفلسطينية يافا، التي عمل العدو على دثر القسم الأكبر منها وإلحاقه بتل أبيب، تعرف بالمدينة السوداء، وهو تعريف عنصري المظهر والجوهر حيث يتجمع الآلاف من المزراحيم والمهاجرين غير الشرعيين من الأفارقة والجنوب- آسيويين هناك.
تستعرض الكاتبة مختلف تجليات عنصرية العدو عبر عرض حالات أشخاص من مختلف الجنسيات، من السودان وإريتريا والفيليبين وتايلندا وغيرها، كل على حدة، عبر فصول منفصلة أثرتها بمجموعة من المصورات. يطلع القارئ على الممارسات العنصرية الرسمية لكيان العدو. كما تفضح ما يسمى باليسار «الإسرائيلي» الذي يختفي كلما اندلع صراع بين أولئك «السود» والسلطة الإشكنازية.
توضح الكاتبة أن معاملة كيان العدو للمهاجرين غير الشرعيين تماثل معاملتها للفلسطينيين، مما ينفي أساس ادعائه الدائم بأنّ السبب أمني. آخر مثال هو قيام قوات العدو بإطلاق النار على مهاجر إرتيري. قضى الأخير عن بعد على يد الغوغاء التي قتلته أمام عدسات التلفزيون. لم تحتجّ أي من دول الغرب الاستعماري ومعظم وسائل تضليلها على هذه
الجريمة.
تأخذ الكاتبة القارئ عبر عرضها في رحلة على مختلف تجليات العنصرية الإشكنازية تجاه الآخر، غير المختار، في الوقت الذي تفتح فيه أبواب الهجرة أمام «اليهود» الذي كانوا يملكون حق الهجرة فقط بسبب دينهم. لكن الحق بالولادة انتهى، إذ ينبغي لـ «اليهودي» الحصول على إذن وزير داخلية العدو للإقامة في فلسطين المحتلة. والمتحول إلى «اليهودية» لا تعترف به حكومة كيان العدو، إلا إذا تم بإشرافها ووفق قوانينها التي يصيغها الأرثوذكس على غير المتدينين وهم الأغلبية!
حصول اللاجئ على «التبعية الإسرائيلية» أمر مستحيل، علماً بأنه ليس ثمة من تبعية للدولة. فوفق قوانين التبعية في ذلك الكيان، ثمة يهود ومسلمين ودروز ومسيحيين.
خلاصة الحقيقة في المؤلف أنه على المرء أن يصاب بالدهشة إذا عثر في قوانين العدو العنصري على أمر غير عنصري. كيان قام على العدوان وعلى تمييز الإشكناز من المزراحيم والعرب الفلسطينيين، وعلى تمييز الإشكناز من بقية البشر، لا يمكن أن يكون إلا ما هو عليه: كيان عدواني عنصري الجوهر والتجلي.

 

أهلاً بكم في دولة «داعش» اليهودية
ofra yeshua-lyth, politically incorrect: why a jewish state is a bad idea. skysraper, uk 2016. 378 pp.

الكاتبة «الإسرائيلية» افرا يشوا ـ ليث وهي من أصول أشكنازية روسية/ أوكرانية ومزراحية من اليمن، قالت: «الفلسطينيون كانوا يطالبون بإقامة دولة ديمقراطية علمانية، وكنت أردد دوماً إن هذا المطلب يعني القضاء على «إسرائيل». هذا صحيح أيضاً اليوم، لكنني مع هذا الهدف». في «اللااستقامة السياسية: دولة يهودية فكرة سيئة»، تستعرض أفرا الحياة في كيان العدو عبر استعادة ذكرياتها الخاصة وتفاعلها مع محيطها الاجتماعي والسياسي في فلسطين المحتلة. هذا المؤلف المثير يغطي دور الدين في الكيان الصهيوني، في مجالات الحياة كافة، من الطعام إلى اللباس إلى التعليم إلى الزواج إلى الموت وإلى الدفن. الصهيونية، من منظورها، ذات هدف علماني كما ورد في مؤلف هرتسل (altneuesland)، لكن «إسرائيل» دولة دينية، منذ البدايات. هي تلاحظ أن مشروع تأسيس الكيان السياسي في فلسطين لم يكن معنياً بالعرب اليهود، أو اليهود من البلاد العربية، الذين يعرفون بالصفة مزراحيم أو سفارديم.

فقط عندما سيطرت العصابات الصهيونية على فلسطين، صارت في حاجة إلى سكان فقررت الالتفات إليهم، وإن ما زالت تنظر إليهم على أنهم من طبقة دنيا: هم بولنديو العرب، تقول، كما كان يهود ألمانيا يطلقون على إشكناز أوروبا الشرقية اسم «يهود بولونيا». فهم، بنظرهم، من طينة دنيا متخلفة غير قابلة للتطور. في منظورها، كان يفترض أن تكون إسرائيل جنة في الشرق، لكنها أضحت تعمل بجد على جعل جيرانها لا يتمنون أمراً سوى توافر المزيد من «الانتحاريين». تعترف الكاتبة بأن الكيان اليهودي أقيم على أرض يملكها عرب، وتعيد سبب الطرد إلى الدور الأساس الذي يؤديه الدين في ذلك الكيان. على «اليهودي» عدم الاختلاط بغيره. هكذا هي تعاليم الهلاكة، أي تعليقات الحاخامات على التوراة والتلمود. من هذا المنظور، فإن اليهودية تعني الانفصال الذاتي الاختياري عن العالم، في زمن تحول فيه الأخير إلى قرية صغيرة. من يعزل نفسه في هذا العالم، فإنه يحول نفسه إلى دولة منبوذة. هذا هو وضع كيان العدو في منظور كل من يعرفه حقاً. فمَن مِن قادتها السياسيين والعسكريين، يجرؤ على مغادرة أراضي الدولة خوفاً من أن يلقى القبض عليه بتهمة ارتكاب جرائم حرب؟ الكاتبة معادية لليهودية، أو لنقل «معادية للدولة الدينية». وهذا يعني بالضرورة معاداتها لكيان العدو. ومن هذا المنظور ترى أن الطريق الوحيد للمضي قدماً نحو مستقبل أفضل للمنطقة، يكمن في الدولة الديمقراطية العلمانية، دولة لكل مواطنيها، دولة المواطنة. وتنظر في بنية مجتمع كيان العدو، فترى تركز الثروات في أيد قليلة وزيادة الفقر وتصاعد معدلات الجريمة والفساد، في كافة الطبقات آخرها ــ عند كتابة المؤلف ـــ فضيحة مياه الشفة الملوثة. تتابع الكاتبة الهجوم المستمر الذي تشنه وسائل الإعلام في الكيان على كل من لا يخضع لتعاليم الحاخامات، وتسجل أن اليهودية الأرثوذكسية هي اليهودية الوحيدة المعترف بها في الدولة، وهي التي تسن مختلف القوانين، ولا يسمح لكلمة غيرها من الطوائف اليهودية. واليهود الأرثوذكس يشنون الحملات المستمرة على الجيل المتماهي مع الغرب. الحاخامات الأرثوذكس يحتجون بأن كيان العدو أصبح نسخة عن أميركا. لذلك، فملابس الجينز ممنوعة شرعاً، حتى لباس الأطفال بدءاً من الثلاث سنين يفرضه الحاخامات الأرثوذكس.
الدولة التي تدّعي أنها علمانية وأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تمنح المتدينين أفضليات في مختلف مجالات الحياة، في التعليم والمسكن والصحة والدخل والإعفاء من الخدمة العسكرية، وغير ذلك. على العلمانيين، بمعنى غير المتدينين، أن يدعموا المتدينين الذين لا يقدمون أي خدمة للبلاد أو للدولة. هؤلاء الأرثوذكس يعيشون في أحياء خاصة بهم ولا يسمح لغيرهم بالسكن فيها. تراهم يعايرون غير المتدينين الذين لا يلتزمون بما يفرضه الحاخامات من ملبس ومأكل (أهلاً في دولة داعش اليهودية).
الدولة التي أقيمت بهدف تحرير الإشكناز من أثقال الغيتو في أوروبا الشرقية استحالت غيتو. الفارون من جحيم الغيتوات والاضطهاد، أعادوا إنتاج أنفسهم في فلسطين، والاضطهاد الذي تعرضوا له صاروا يمارسونه هم على الآخرين [الذين ليسوا هم!]. فكرة المهاجرين الأوائل بخلق مجتمع مزدهر حر، ظلّت سراباً لأنهم ربطوها بالرؤية المسيحانية، فاستحالت الدولة كابوساً. تؤكد الكاتبة ــ وإن ليس بتعبيرات واضحة ــ أنّ اليهودية ديانة، لا قومية، وأن محاولة صهرها «اليهوديات» في يهودية واحدة، تعني الانعزال الاختياري، وبالتالي التحول إلى منبوذين في العالم القرية. «إسرائيل» غير قادرة على الاستمرار لأنها غير قادرة على استيعاب الآخر، غير اليهودي. حتى فكرة ما يسمى «حل الدولتين» هو حل عنصري: فليكن لهم دولتهم ولنا دولتنا. هذا ما يعنيه حل الدولتين الذي أخذ به اليسار الصهيوني ومنه «حركة السلام الآن» وحتى اليسار الراديكالي. هي دعوات انعزالية لا دعوات لإقامة السلام في فلسطين. رفض فكرة أو حلّ الدولة الديمقراطية العلمانية، يعني لدى بعضهم مؤامرة هدفها القضاء على الدولة اليهودية. هذا بالتالي يوضح أن اليهودية لا يمكن أن تكون ديمقراطية تعترف بالآخر متسامحة ومتعايشة مع محيطها. هي انعزالية، وهذا تحديداً ما تعنيه مقولة «الشعب المختار» ورفض التهود. اليهود «الأصليون» فقط هم الشعب المختار، وقد اختارهم إله التوراة يهوه ليتحملوا معه عناءه من البشرية وذنوبها. فكرة الانعزال والتفوق على الآخرين من صميم فكر الدولة اليهودية.
أُفرا كانت مخدوعة بالدعاية الصهيونية عن الكيان الناشئ عندما ولدت وتعلمت فيه، لكنها اكتشفت الحقيقة المرة بعدما صار لها أن تفكر على نحو مستقل وتتحرر من دعاية قادة الكيان. أدركت أن كل ما كان يقال عن علمانية الدولة والأمة اليهودية أمر غير صحيح، فصارت معادية لتلك التعاليم والشعارات البراقة الكاذبة.

 

المقاطعة سلاح يزداد فعاليةً كل يوم

assuming boycott: resistance, agency, and cultural production (kareem estefan, carin kuoni, and laura raicovich, eds.). or books, new york 2017. digital copy (304 pp).

المقاطعة سلاح مشروع وفعال في يد من يحسن استخدامه. يكفي إلقاء نظرة على حملات المقاطعة السابقة، لندرك أهمية هذا السلاح حيث يقوم الفنانون بوضع ضوابط أخلاقية بالارتباط بأعمالهم. ولنا أمثلة في مقاطعة حافلات الفصل العنصري في الولايات المتحدة، وفي حركة مقاطعة نظام بريتوريا العنصري.
كتاب «التزاماً بالمقاطعة: مقاومة، حراك فعال وإنجاز ثقافي» (مجموعة من الكتّاب) يحوي مداخلات مجموعة من الفنانين من مختلف أنحاء العالم مثل ناصر أبو رحمة، وأريلا أزولاس، ونورا بركات، وتشلسي هاينز، ونعيم مهيمن، وسفتلانا مِتشفا، وإيال وايزمن، وردهيكا سبرمَنيام، وغيرهم، اجتمعوا في مجموعة من الندوات أو الحلقات الدراسية، في «مركز فيرا لِست للفنون والسياسة في ذَ نيو سكول» إضافة إلى تعقيبات المحررين.

يهدف المؤلف إلى مناقشة المقاطعة والانسحاب كمفهوم لنشاط ثقافي في الحاضر.
تتعامل المداخلات مع حملات عديدة وتنظر إلى مسألة المقاطعة من زوايا مختلفة، كما تتعامل مع حملات محددة، وكذلك كيفية تعامل فنانين مع الدعوة للمقاطعة.
من الأمور التي تم بحثها في المؤلف: ما مدى إثمار حملة ما بالعلاقة مع مطالب سياسية؟ ما هي الشروط التي تمكن المقاطعة من الانطلاق؟ ما مدى تأثير البعد الجغرافي في رؤية الفنان وكيفية تعامله مع موضوع المقاطعة والدعوة إليها؟ ما مدى فعالية هذه المقاطعة وتأثيراتها بعيدة المدى؟ ما تأثير الخبرة التاريخية في الدعوة إلى المقاطعة؟ ما العلاقة بين المقاطعة والرقابة الذاتية وحرية التعبير؟ وكيف تؤثر هذه الممارسات في مسألة المقاطعة ككل، بصرف النظر عما إذا كان المرء يؤيدها أو يعارضها؟
قسم المحرران المداخلات إلى أربعة أجزاء أولها بحث حملة مقاطعة النظام العنصري في جنوب إفريقيا. الجزء الثاني والأطول مخصص لحملة «حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها» الفلسطينية المنشأ، عالمية العمق والانتشار. الجزء الثالث مخصص لمسألة من يسمح له بالحديث ومن وجب إسكاته، أي فرض المقاطعة عليه. الجزء الرابع مخصص لتقويم نتائج المقاطعة.
في توضيحها لمفهوم مقاطعة الفنانين، تستعين مقدمة العمل بكتابات الفيلسوف الألماني (اليهودي) والتر بنيامين، صديق برتلد بريشت وقريب حنا أرندت، الذي سيَّس مفهوم الفنان بصفته منتجاً، وحوّله بالتالي إلى إثنوغرافي وناشط سياسي وأرشيفي ومؤرخ وشاهد وناقد ومعلم ومنظم، والقائمة تطول إن رغبنا. لذا، فمن البديهي أن الحكم في هذه الأيام على الفنان ـ أياً كان مجاله ــ ينطلق من مدى التزامه السياسي. لذا نرى في هذه الأيام أن عدداً كبيراً من الفنانين يربطون عرض منتوجهم الفني بنقد النظم القائمة والتشويش عليها.
هذا بالتالي يقودنا إلى حملات مقاطعة اشتهرت في العالم ومنها حملة مقاطعة بينالي مدينة سيدني الأسترالية التاسع عشر، بسبب ارتباطه بمراكز حجز المهاجرين. كما نشأت حملة مقاطعة بينالي مدينة غوانغجو الكورية الجنوبية بسبب قيام القائمين عليه بسحب لوحة فنية استجابة لضغوط سياسية. وتضاف إلى ذلك حملة مقاطعة بينالي مدينة ساو باولو البرازيلية الحادي والثلاثين بسبب تلقيه دعماً من قنصلية كيان العدو الصهيوني. مثل أخير في هذا العرض هو قيام تجمع «تحالف عمال الخليج» بالإعلان عن رفضهم الفنانين عرض لوحاتهم في «متحف غوغنهايم» الذي كان قيد البناء في أبوظبي ما لم تتحسن ظروف عمال البناء.
وتضاف إلى ذلك حملات المقاطعة إثر انتشار «الربيع العربي»، ومن قبل في إسبانيا والولايات المتحدة حيث اشتهرت حملة «أُكيُبَاي» (احتلوا/ occupy) وتطورت لتطالب باحتلال المتاحف وصالات العروض وغيرهما من المؤسسات الخاصة المرتبطة بها. ذلك أن هدفها هو الربح، مما يفرض بالضرورة رقابة على مواد المعارض كون المبتاعين من الرأسماليين، وما يعني بالضرورة فرض رقابة على الفن ككل. وهذا كله يبين مدى تأثير حملات المقاطعة الأولى في انتشار حملة المقاطعة الحالية حيث مارست وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في ذلك.
بعض المداخلات عن حملات المقاطعة الفلسطينية تأخذ في الاعتبار تجربة مقاطعة جنوب إفريقيا. الحملة الفلسطينية التي انطلقت عام 2005، تدعو إلى إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وحق العودة ومساواة الفلسطينيين داخل كيان العدو. هذه الأمور أثارت ردود فعل مختلفة في الملتقيات والندوات بين مؤيد ومعارض كلياً أو جزئياً، تحت مختلف الحجج التي نقرأها في هذا المؤلف المهم.

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...