إسرائيل بعد فشل «المعركة بين الحروب»: ماذا نفعل بالتهديد الإيراني؟

08-11-2019

إسرائيل بعد فشل «المعركة بين الحروب»: ماذا نفعل بالتهديد الإيراني؟

صحيح أن التحذيرات الإسرائيلية من «التهديد الإيراني» تقليدية، وهي تهدف عادة إلى قلب الحقائق وتظهير إسرائيل على أنها الضحية، لكن الصراخ هذه المرة مرتفع ولافتٌ، ويخفي في طيّاته تهديدات. حملة التحذير يقودها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، إلى جانب وزراء حكومته، إضافة إلى المؤسسة العسكرية وكبار ضباط الأركان العامة. إذ لا يكاد يمرّ يوم من دون تحذير يصدر عن مسؤول سياسي أو عسكري، متطرقاً إلى إمكانات أعداء الكيان من دول وجماعات مقاومة، بدءاً من إيران نفسها، مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان وغزة، من دون إغفال الوافد اليمني الجديد. آخر المحذرين كان رئيس «شعبة العمليات» في الجيش الإسرائيلي، أهارون حاليفا، الذي تحدث في محفل مغلق (وفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، 06/11/2019)، عن إمكانية تلقّي العمق صواريخ إيرانية، مرجّحاً أن يكون 2020 عاماً سلبياً من المنظور الأمني بسبب التهديد الإيراني المتزايد؛ إذ «لا أحد بإمكانه القول إن الهجمات على المنشآت النفطية في السعودية لا يمكن أن تتكرر هنا». وسبق حاليفا رئيسُ أركان الجيش، أفيف كوخافي («هآرتس»، 24/10/2019)، الذي قال إن «التهديد الاستراتيجي الرئيس لإسرائيل يكمن في الساحة الشمالية، مع ترسيخ القوات الإيرانية والقوات الأخرى في سوريا ومع مشروع الصواريخ الدقيقة» لحزب الله، مضيفاً: «لن نسمح بإيذاء إسرائيل، لكن إن حدث ذلك، فسوف نرد بقوة». كذلك، لم يوفر نتنياهو أيّ مناسبة في الأسابيع الأخيرة ليذكّر بسعي إيران إلى تدمير إسرائيل، مع التشديد على «الجرأة المتزايدة» لدى طهران، والتهديد بأن الإيرانيين سيدفعون «ثمناً باهظاً» إن هاجموا الدولة العبرية.

لكن، ما هي حقيقة هذا الصراخ واستهدافاته؟ هل هو تعبير عن تقدير في تل أبيب مفاده أن البيئة الاستراتيجية مقبلة على تغيير؟ أم أنه يستبطن تموضعاً دفاعياً تمهيداً لشنّ اعتداءات في هذه الساحة أو تلك؟ أو ربما هو تهويل لأغراض داخلية؟ قد يكون من أهم العوامل المُسبّبة له توصّل إسرائيل إلى عدم فاعلية السياسة التي اتبعتها في السنوات الماضية ضد أعدائها، أي «المعركة بين الحروب»، والتي سعت من خلالها إلى إضعاف أعدائها ومنعهم من تعظيم قدراتهم النوعية، عبر استهداف مواضع الثقل لديهم، بالهجمات العسكرية وغيرها. وهي سياسة حاولت إسرائيل توسيع نطاقها الجغرافي إلى العراق ولبنان، قبل دخولها مرحلة الاحتضار. بحسب صحيفة «يسرائيل هيوم»، فإنه «لا حاجة إلى كثير جهد كي يدرك المتابع أن شيئاً أساسياً في السياسة الأمنية الإسرائيلية تَغيّر في الأسابيع الأخيرة. لقد تلاشت المعركة بين الحروب التي كانت درّة تاج النشاط الأمني الإسرائيلي لسنوات، ومن دون صوغ سياسة بديلة». هل هذا التلاشي هو الذي يقف خلف تعالي التحذيرات والتهديدات؟ السلبيات المتوقعة في إسرائيل بعد توقف «المعركة بين الحروب» كافية في ذاتها كي تدفع إلى الصراخ عالياً، علماً بأن ذلك التوقف يدلّ على إخفاق إسرائيل في وجه أعدائها، ولا يبعد معه أن كلّ ما كانت تعمل على الحؤول دونه بات في حكم المتحقق. إسرائيل مقبلة فعلاً على عام ــ وربما أعوام ــ فيه من السلبيات ما يزيد على الإيجابيات، وفي حدّ أدنى هو عام مغاير جداً لما كانت عليه الأوضاع في السنوات الماضية التي كانت أكثر مواءمة من المنظور الأمني.وعليه، يمكن الإشارة إلى الآتي:

- أولاً: يفترض الامتناع عن الوقوع في خطأ ردّ التحذيرات الإسرائيلية إلى الأزمة الداخلية التي يعاني منها نتنياهو، والقول إن ذلك يساعده في الضغط على الداخل باتجاه تشكيل حكومة وحدة تضمن له البقاء السياسي على رغم ملاحقته قضائياً، إذ إن المنفعة الشخصية لا تلغي حقيقة التهديد الوارد على لسانه، والذي هو موضع تأكيد أيضاً من الجيش كما من خصومه ومنافسيه السياسيين. لكن هذا لا يعني أنه لا يعمد إلى استغلال وجود التهديد في تحقيق مصلحته الخاصة.

- ثانياً: يُفترض أيضاً الامتناع عن الوقوع في خطأ ردّ المتغيرات السلبية على البيئة الإستراتيجية لإسرائيل إلى كونها إخفاقاً أو سوء إدارة أو قبح اختيار، أو حتى إرادة شخصية «غير موفقة» لهذا الرئيس أو ذاك. فصمود أعداء إسرائيل وإفشالهم المخططات لإسقاطهم، مع تعذر البدائل في تحقيق هذه الأهداف، هي السبب الرئيسي في الانكفاء والتراجع ثم الغلبة المقابلة، رغم أن الهجمة تتواصل بأساليب مغايرة، كما يحدث الآن في أكثر من ساحة.

- ثالثاً: غياب العامل الردعي الأميركي، بعد سلسلة ردود سلبية على «اعتداءات» إيرانية عبر تواضع الردّ أو انتفائه، ألحق ضرراً بقدرة إسرائيل الكلّية في مواجهة أعدائها، وذلك من جرّاء انكشاف انكفاء واشنطن، ورفضها أيّ تصعيد أو رد فعل حتى وإن كان مبررّاً ضد طهران. وفي الموازاة، فَهِم أعداء إسرائيل، عن خطأ أو صواب، أن الانكفاء الأميركي قد يسري أيضاً على إسرائيل إن تعرّضت لهجمات، سواءً ابتدائية أو في إطار الرد. ومن المفيد هنا الإشارة إلى مقالة نُشرت في موقع «ذا اتلانتيك» (03/11/2019)، للسفير الإسرائيلي لدى واشنطن (2009 - 2013)، وهو عضو في الكنيست ونائب وزير في مكتب رئيس الحكومة (2015 - 2019)، مايكل أورين، الذي تجاوز البحث في تبعات الانسحاب الأميركي من المنطقة على إسرائيل سلباً، إلى طرح سؤال لافت حول ما إذا كانت «الإدارة الأميركية ستسارع إلى نجدة إسرائيل إن وقعت الحرب بينها وبين إيران وحلفائها» واستعصت عليها المواجهة؟ مهما كان الجواب، تبقى أهمية السؤال في دلالات إثارته من قِبَل دبلوماسي وسياسي إسرائيلي أميركي المولد، ومحاضر في الجامعات الأميركية، وكاتب في أهم منشوراتها، بل ومعايش للساحة الأميركية وآليات قراراتها والعوامل المؤثرة فيها، ومدرك للتغيرات التي طرأت أخيراً على عوامل اتخاذ القرار في واشنطن مع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.

- رابعاً: أثبتت الضربة التي تلقتها المنشآت النفطية في السعودية ثلاثة مركبات في القدرة الإيرانية على الإيذاء، كانت تل أبيب تشكّك في اثنين منها: الإقرار بامتلاك إيران القدرة المادية من صواريخ جوّالة وطائرات مسيّرة مسلحة، في موازاة التشكيك في قدرتها التشغيلية، وأيضاً في القدرة على اتخاذ القرار خشية تبعاته اللاحقة. لكن ثبت لتل أبيب أن العوامل الثلاثة موجودة، أي إن تلقيها ضربة عسكرية إيرانية، ابتداءً أو رداً على اعتداء، قائم وممكن بل ومن المتعذر التشكيك فيه، وهو معطى بات حاضراً على طاولة القرار الإسرائيلي في هذه المرحلة تحديداً. وعلى خلفية ذلك، لم تعد استراتيجية إسرائيل في منع التمركز الإيراني في الساحات القريبة منها كفيلة بحرمان إيران القدرة على استهداف الكيان.

- خامساً: بات واضحاً أن المعركة بين الحروب وصلت إلى خواتيمها، ليس لأن إسرائيل لم تعد قادرة على توجيه ضربات هنا وهناك، بل لأن هذه الضربات تواجه جملة موانع، من بينها ما تسمّيه تل أبيب «جرأة» الطرف الآخر على الردّ، وهو ما يستلزم منها ردّاً، يأتي بعده الردّ على الردّ... وصولاً إلى مواجهة واسعة، كانت إسرائيل قد وضعت استراتيجية «المعركة بين الحروب» وعمدت إلى تنفيذها كي تتجنّبها. لكن يبقى السؤال: هل إيران الآن في صدد الرد على اعتداءات إسرائيل بمفعول رجعي يستلزم من تل أبيب هذا المستوى من التحذير، أم أن إسرائيل تريد المغامرة من جديد، وتسعى إلى شنّ هجمات وقائية تقدّر أن الردّ الإيراني آتٍ في أعقابها؟

يبدو أن كل الفرضيات تتجاذب مراكز القرار في تل أبيب. وما يجب التنبيه إليه هنا هو أن حجم التهديد ومستواه بما سيترتب على أيّ ردّ من إيران أو من أحد حلفائها من تبعات ستؤثر سلباً على أهمّ ما تملكه إسرائيل في الدفاع عن وجودها ومصالحها، وهو حرية تحركها، وهامش المناورة لديها، وقدرتها على المبادرة في توجيه الضربات الوقائية لأعدائها. هذا المحذور يعيد إثارة التساؤلات حول الفعل الإسرائيلي المقابل، الذي يبدو أنه إلى الآن غير محدّد، ويحوطه عدم اليقين، الأمر الذي يفسر تكثيف جلسات «المجلس الوزاري المصغر» (الكابينت) في المرحلة الأخيرة، والساعات الطويلة التي تستهلكها هذه الجلسات لبحث سلبيات العام المقبل و«التهديد الإيراني»، وإن جاء إعلان هذه الجلسات تحت عناوين مغايرة، إيرانية وغير إيرانية.

 

 


الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...