المطران إيلاريون كبوجي... رائد «لاهوت المقاومة»

05-01-2019

المطران إيلاريون كبوجي... رائد «لاهوت المقاومة»

في الذكرى الثانية لغيابه، نستذكرُ المطران إيلاريون كبوجي (1922-2017)، علّنا نستخلص الدروس والعبر: عندما احتلّت «إسرائيل» الضفة الغربية في الخامس من حزيران (يونيو) 1967، وشاهد أمام عينيه الجثث والظلم، تحوّل مطران المحبة والسلام إلى ثائر ضد الاستبداد، فأسّس مطران القدس إيلاريون كبوجي أول خلية فدائية في المدينة المقدّسة، جاعلاً من عباءته الكهنوتية درعاً لمقاومة سلطات الاحتلال. وتحوّل راعي الأبرشية إلى همزة وصلٍ سريّة بين المقاومين في الداخل وقيادتهم في الخارج، فراحَ ينقل من الخارج كلّ ما يحتاج إليه الداخل، متسلّحاً بإيمانه، وشجاعته، وحصانته الدبلوماسية، ومعتبراً أنه لا يستطيع أن يكون محايداً وهو يرى شعبه يُقهر ويُقتل. فقرّر مقاومتهم بكلّ ما أوتي من قدرة، وبشتى الوسائل، فسار على طريق المسيح الذي استعمل العنف لطرد لصوص الهيكل.

أقام المطران كبوجي في ضيافة «راهبات دير الصليب» في العاصمة الإيطالية، وهناك التقينا مع المطران أنا وزميلي أنطوان فرنسيس، حيث تم تسجيل ذكريات المطران، خلال أسبوعين من اللقاءات اليومية المتواصلة حيث بلغ عدد الأشرطة المسجلة عشرة، روى فيها مذكّراته من الولادة حتى السجن. لكن، بعدما تمّت صياغتها بإشرافه، حصل تدخّل من السلطات الكنسية، فقرّر المطران عدم نشر ذكرياته. وتحدّث لنا بلباقة، وأبوّة، ومحبة، وكان خلاصة ما قاله: «لا أستطيع أن أنشر أيَّ شيء عن حياتي الآن، وخاصة كل ما يتعلق بفترة سجني في «إسرائيل»»..اليوم، بعد مرور 38 سنة على لقاءات روما، رحل «مطرانُ القدس والقضيةِ» في اليوم الأول من عام 2017، وبقيت مذكّراته، فقررنا إخراجها إلى النور ونشرها للأسباب التالية:

أولاً: تحيةً منا للمناضل الكبير الذي أمضى حياته كلّها مدافعاً عن فلسطين والشعب الفلسطيني، وعن مدينة القدس، ولم يصدر أيُّ كتابٍ يُوثّق حياته ونضاله في داخل السجن.ثانياً: لأن المطران إيلاريون كبوجي بات رمزاً لتمسُّك المسيحيين المشرقيين بالمسألة الفلسطينية، وبمدينة القدس بالذات التي حملَها في قلبه وضميره ووجدانه، وسوف يبقى مطرانها في الحضور والغياب.


ثالثاً: نظراً إلى ما تتضمّنه المذكّرات من معلومات وآراء قيّمة، وغير معروفة، لا بدّ من أن ننقلها إلى الأجيال الآتية، إيماناً منا بأن قضية فلسطين هي قضيتنا جميعاً... ومدينة القدس سوف تبقى أبد الدهر عاصمة فلسطين ومركزاً روحياً للإنسانية، خاصة في هذه الأيام حيث تحاول «إسرائيل» تهويدها. فقد كان المطران يُمثّل من خلال سيرته ونضاله مجموعة قيم أبرزها تجسيده «لاهوت المقاومة»، وهو نهج نضال سبق لاهوت التحرير والمواقف البابوية المتطوّرة والمتحرّرة من قيود التقليد والتحالف مع الاستبداد والسلطة. وقد تكرّس هذا النهج بنداء «وقفة حق» التي سجّلها ممثّلون عن الطوائف المسيحية في فلسطين ضد الاحتلال ومع شرعية المقاومة.

أعطى المطران كبوجي بنضاله من أجل المسألة الفلسطينية، بُعداً قومياً وإنسانياً:

- فقد كان رمزاً للحياة المشتركة، بقدر ما هو مطران مسيحي، فقد كان مسلماً «لرب العالمين» بالتقوى والتسامح، وكان مع الحوار المسيحي - الإسلامي ومع القضايا الإسلامية المحقّة.

- كان عروبياً بكلّ ما للكلمة من معنى. ورغم كونه من مدينة حلب السورية، فقد كان يعتبر نفسه فلسطينياً بقدر ما كان سورياً ولبنانياً، وعروبياً بشكل عام مدافعاً عن القضايا العربية المحقة. وهكذا كان حاسماً في مسألة هويته المشرقية العربية في زمنٍ ما زال البعض يطرح سؤال الهوية ويشكّك في هويته لأرضه وشعبه.- كان يؤمن بالإنسان أولاً بغض النظر عن طائفته وملّته. كان رجلاً عملياً من خلال تجسيد كلامه فعلاً، فخلق نهجه وطبّقه على نفسه غير آبهٍ بما تعرّض له من تعذيب في السجن والمنفى.ومن خلال سيرة نضاله، أكد المطران كبوجي أن حربنا مع «إسرائيل» هي حرب وجود لا حرب حدود، مهما ضاقت أو وسعت، لأنها صراع على الأرض، فهذه الأرض إمّا لنا وإمّا لهم. فكان المطران ضدّ التسويات والمساومات وأيّ شكل من أشكال التنازل والمهادنة حتى لا تفقد القضية بُعدها الجذري والاستراتيجي وحتى لا يفسح المجال أمام «إسرائيل» حتى تعمل على تفكيك وتفتيت العرب، مما يبقيهم في حالة تخلّف وتبعية.كم نفتقده في زمن نشهد فيه محاولة لتصفية المسألة الفلسطينية عبر «صفقة القرن»


كم نفتقد المطران كبوجي في زمن نشهد فيه محاولة لتصفية المسألة الفلسطينية عبر «صفقة القرن» بجعل القدس عاصمة لـ«إسرائيل»، ورفض حقّ العودة وفرض التطبيع على العرب، كما أن بعض العرب بدأ يُجاهر بالتحالف مع «إسرائيل»، مما يؤكد أن الصهيونية أصبحت ثلاثية الأبعاد/ صهيونية يهودية، صهيونية مسيحية، وصهيونية عربية.

ومن الدروس التي يجب أن نأخذها من خلال نضال المطران كبوجي أن القدس والدفاع عنها ضرورة لما لها من رمزية دينية ووطنية، لكن علينا في الوقت نفسه أن لا ننسى فلسطين كل فلسطين، التي يتطلب الدفاع عنها تضامناً عربياً نفتقده هذه الأيام، والتأكيد على أن الدول العربية مرتبطة مصيرياً بالدفاع عن فلسطين. فقد أثبتت الأحداث أننا لا نستطيع استعادة فلسطين من دون نهضة عربية شاملة وجذرية ومستمرة، وكما لا نستطيع أن نحقق نهضة عربية بالتخلّي عن فلسطين.


والذين جرّبوا التطبيع والتسويات تبيّن لهم أن «إسرائيل» غير جادّة في تنفيذ تعهّداتها، فقد رفضت المبادرة العربية وما زالت تنتهك المقدسات وتهوّد فلسطين، ومن جهة أخرى لم يتمكّنوا من تحقيق التنمية والعمران أو الاستقرار، لذلك فلسطين ما زالت مرتبطة عضويّاً بقوّة العالم العربي وبحرّيّة المواطن العربي لأن التحرّر والحرّية كلٌ لا يتجزأ.


هكذا كان المطران كبوجي، وعلى طريقه نسير من أجل تجديد العروبة، وتجديد مسيرتنا من أجل تحرير فلسطين، وتحرر المواطن في العالم العربي من قيود الاستبداد والتبعية والتخلف والجهل.



وطوال ست سنوات استمرت رحلاته المكوكية بين لبنان وفلسطين غير عابئ بالخطر على حياته، متحدّياً الإسرائيليين إلى أن اعتقلوه في 18 آب (أغسطس) 1974، وضبطوا كميّة من الأسلحة والمتفجّرات في سيارته. وبعد استجواب طويل، ومحاكمة مُضنيَة، حاكمه الإسرائيليون كمجرم لكنّه رفض عدالتهم، ونظر إليهم كما نظر المسيح إلى لصوص الهيكل. وخلال محاكمته، رفع صوته عالياً في وجه القضاة، متحدّياً رافضاً عدالة المغتصِب له، معتبراً أن ما قام به فعل دفاع مشروع عن الأرض والمقدّسات، طالباً عدالة السماء، صارخاً: «إن الله وحده هو الديّان الذي أقبلُ دينونته».
 حُكم على مطران القدس بالسجن لمدة 12 سنة أمضى منها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً خلف القضبان، ذاق خلالها جور السجّان الطاغية، وأضرب عن الطعام أكثر من مرّة، فكاد يلفظ أنفاسه على أرض زنزانة نتِنة، لولا تدخُّل البابا بولس السادس مباشرة في قضيته، وتفاوض الفاتيكان مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية لإطلاق سراحه، واشترطت أن يكون منفاه بعيداً عن أرض فلسطين، وأن لا تسمح له مرجعياته الروحية بالعودة إلى أيِّ دولة عربية، ولا سيما إلى لبنان وسوريا. لكنّه تمرد أحياناً على هذا القرار.

في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1977، خرج المطران إيلاريون كبوجي من سجن العدو الإسرائيلي، وانتقل سيادته ليعيش في مدينة روما بعدما أمضى أكثر من سنة في أميركا اللاتينية. كان في قرارة نفسه، يتمنّى العودة إلى المدينة المقدسة، ويتوق إلى أن يعيش ويموت في أرضه المشرقية التي وُلِد فيها، وأحبّها، وكان مستعداً للاستشهاد في سبيلها. لكنّه نفّذ أوامر كنيسته التي أوجبت عليه أن يقضي حياته في المنفى. 

وبسبب عشقه اللامحدود لفلسطين وللمدينة المقدّسة، أراد أن يحمل معه لقب «مطران القدس» إلى مثواه الأخير. فقد أضحت القدس محور حياته، وعلّة وجوده، وهدف نضاله.

 

الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...