ماذا سيأتي بعد "داعش

06-03-2019

ماذا سيأتي بعد "داعش

دانييل بايمان (Daniel Byman)-ترجمة محمود حرح


تمتاز الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكريّة لهزيمة الإرهابيين – ولكن سيظلُّ التهديد قائماً إذا لم تكن هناك خطة لإنشاء حكم مؤَهَّل في المناطق التي كان يحكمها تنظيم "داعش".

أعلن أبو بكر البغداديّ، منذ أكثر من أربع سنوات مضت، في حزيران/يونيو 2014، إنشاء "دولة الخلافة" في العِراق وسورية، ونصّب نفسه كـ "خليفة". وقد سيطرت جماعته على مساحة تعادل حجم بريطانيا وبتعداد سكانيّ وصل إلى 10 ملايين نسمة –وقد أعاد تسميتها لتصبح "الدولة الإسلاميّة" ليترك علامة على هذا الحدث المهم– ما أدى إلى تقزيم الإنجازات التي حقّقها تنظيم "القاعدة" والجماعات "الجهادية" الأخرى.

لقد روّع تنظيم "داعش" أرجاء العالم بسبيِه للنساء واستخدامهن لأغراض جنسيّة، وتبنّي الهجمات الإرهابية، وتصوير مقاطع فيديو لقطع رؤوس الرهائن، وترويج قضيته بلا هوادة على وسائل التواصل الاجتماعية. ففي الولايات المتحدة، ارتفعت المخاوف من الإرهاب، الأمر الذي ساعد في دفع الحملة الرئاسية لدونالد ترامب. ولكن كان ذلك في الماضي، فقد ذهبت "الخلافة" اليوم، بالإضافة لغزو منطقتها الأخيرة من قبل القوات الكرديّة المدعومة من الولايات المتحدة. هناك الكثير لتَعَلُّمِه من النجاح السريع لـ تنظيم"الدولة الإسلامية" وسقوطه الخاطف.

السيطرة على الأراضي نعمة ونقمة للمجموعات "الجهاديّة"من ناحية، كانت "الخلافة" بمثابة أغنية ساحرة لـ "الجهاديين" المحتملين، إذ جذبت عشرات الآلاف من المتطوِّعين من العالم العربيّ وأوروبا وآسيا الوسطى. كان بمقدور المجموعة [آنذاك] فرض الضرائب على الأراضي المستخدمة من قبل المزارعين وعلى المنتجات التي قاموا بتنميتها وبيعها، واستغلال احتياطيات النفط الواقعة تحت سيطرتها، وتجنيد الشبان للقتال. لقد مكّنته هذه الموارد من بناء جيش أقوى والحصول على ملايين الدولارات كل شهر.

ربما يكون "داعش" قد حصّل 800 مليون دولار كضرائب سنوياً حين كان في ذروته. وقد تمكّن نشطاء "داعش" من التخطيط لعمليات إرهابية وهم آمنون داخل حدود "الخلافة"، مثل هجمات باريس عام 2015 التي أودت بحياة 130 شخصاً، وتمكنوا أيضاً من تدريب المجنّدين الآخرين والتأثير فيهم لينفّذوا هجمات في بلادهم. وربما يكون الأهم من ذلك هو أنَّ "الخلافة" استوفت الشروط اللازمة لوجود سبب "جهاديّ" يتيح لها حكم السّكان، بموجب القانون "الإسلاميّ" الصارم.

هناك سببٌ جزئيّ وراء نجاح "الخلافة" منذ البداية، وهو أنها كانت في قلب العالم العربيّ، وحصلت "الحرب الأهلية" في سورية بدورها على اهتمام عالميّ، على عكس مسارح "جهاديّة" أخرى مثل الصومال واليمن والقوقاز. والأهم من ذلك أنَّ "الجهاديين" في سورية تمتعوا بدرجة عالية من حرية التحرك طوال السنوات الأولى من الصّراع.

كلما اكتسبَ "الجهاديون" قوَّة على المستوى المحليّ بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يدعمون الحكومات ضدهم. وقد استغل الجهاديون "الحروب الأهليّة" في العراق والصومال واليمن ودول أخرى، لكن المساعدات الأمريكية لتلك الحكومات، والضربات الجويّة لطائرات بدون طيار، وغيرها من الوسائل، أمورٌ دفعتهم إلى الوراء واحتوتهم وعطّلتهم. ولعبت فرنسا دوراً مماثلاً بعد استيلاء "الجهاديين" على أغلب مساحة مالي في 2012 و 2013.

بدت الولايات المتحدة في السَّنوات الأولى من الحرب، وكأنَّها أقرب لقصف "النظام" السوريّ عوضاً عن "الجهاديين"، ثم تحدث الرئيس باراك أوباما آنذاك والقادة الحلفاء علناً عن الإطاحة [بالرئيس] الأسد. لم تتدخل الولايات المتحدة، إلا عندما بدأت "الدولة الإسلاميّة" بذبح اليزيديين وعندما كانت على وشك الوصول إلى بغداد.

وعندما جاء التدخل، كان بمثابة كارثة لـ "الدولة الإسلاميّة"، الأمر الذي يوضّح مخاطر السيطرة على الأراضي. حاولت "الدولة الإسلامية" الدفاع عن "خلافتها"، وقُتِل عشرات الآلاف من مقاتليها، بالإضافة للعديد من مُخططيها ومُروِّجيها. كانوا جسورين وعنيدين، لكن "الخلافة" لم تسقط. إلا أنها تقهقرت بشكل مطّرد، ما يثبت أنه حتى مجموعة جهادية وافرة الموارد لا توازي القوة العسكريّة للولايات المتحدة وحلفائها.

لم تبهت جاذبية "داعش" بعد، لكنها قد تضاءلت الآن بما أنَّ المجموعة لم تعد ذلك الرابح الذي يستطيع التبجُّح بإقامة دولة يسود فيها "شرع" الله. وبالحديث عن المجنّدين الغربيين مثل شميمة بيغوم من بريطانيا وهدى مثنى من الولايات المتحدة الأمريكية، اللتين غادرتا بلديهما للعيش في "دولة الخلافة" وللدعوة إلى شنّ هجمات على الغرب، فهما الآن تتوسّلان للعودة إلى ديارهما.

لطالما أدرك تنظيمُ "القاعدة" هذا التوتر، وهو رفيق لتنظيم "الدولة الإسلاميّة" ولكنه منافس لها. ولطالما رأى أسامة بن لادن "الخلافة" كهدف نهائيّ، إلا أنه أدرك أنَّ الإعلان عنها قبل أوانها سيجعلها ببساطة هدفاً للغضب الأمريكيّ.

وقد كان خليفته أيمن الظواهري حذراً أيضاً، لكنه كان أكثر تعاطفاً بشكل علنيّ، نظراً لشعبية "الخلافة" بين المجندين المحتملين. وفي عام 2019، يبدو أن حذر بن لادن كان حكيماً.

هذا، وما أثار دهشة الكثيرين الذين أرعبهم قطع الرؤوس وطبيعة الحكم القاسية من قبل "الدولة الإسلاميّة"، هو أنَّ "الخلافة" أثبتت في أغلب الأحيان أنّها كانت ذات شعبيّة بين من كانوا تحت حكمها. كما هو الحال مع "حركة الشباب" في الصومال، و"القاعدة" في شبه الجزيرة العربيّة في اليمن، وحركة "طالبان" في أفغانستان، وغيرها من الجماعات، ولم تأتِ هذه الشعبيّة من أيديولوجيتها، بل من قدرتها على تحقيق أهم المهام الحكومية: تطبيق القانون والنظام، وتقديم اليسير من الخدمات الاجتماعية.


في أطروحته المسماة باسم يليق بها، "إدارة التوحّش"، دعا المحلل الاستراتيجي "الجهادي" أبو بكر ناجي إلى استخدام العنف الإرهابي لخلق مناطق من الفوضى في بلد ما. وبذلك ستسيطر الجماعات "الجهادية" وتتغلب على الشعب المنهك عبر فرض القانون والنظام، وقد اتّبع تنظيم "الدولة الإسلامية" هذا المخطط، مثلما ادّعى أحد رجال شرطة "الدولة الإسلامية" في العراق: «كنا نعلم أننا سنستميل قلوب الناس إذا ما نجحنا بتحقيق العدالة».

يعترف السكان في مدن مثل الموصل –الذين لم يهربوا عندما وصلت "داعش" إليهم– بأن حكم "داعش" الوحشي قد حسَّن الخدمات، كتزويد الكهرباء ومكافحة الجريمة. وأدرك المهندسون الحكوميون أن الاستمرار في عملهم هو الخيار الأسلم مع وجود تنظيم "داعش" في السلطة. لقد استمالت "الدولة الإسلاميّة" جانباً من السكان بهذا السلوك، وكان لها قدرة أكبر على استخراج الموارد نتيجةً لذلك. ومع تلاشي ذكرى وحشيةِ "الدولة الإسلاميّة" وعودة القادة المحليين الفاسدين وغير الأكفاء إلى العمل، سيحنّ بعض العراقيين والسوريين لوقت لم تنقطع الكهرباء خلاله.تُعَدُّ الصراعات المحلية طاحنةً، وتتطلب موارد واهتمام على نحو مستمر. إن "داعش" وفروعه في ليبيا وشبه جزيرة سيناء في مصر وبلدان أخرى –مثل نظرائه من "القاعدة" في أماكن أخرى– يقاتل الحكومات المحلية بالدرجة الأولى، وليس الولايات المتحدة. قد يأخذ الحلفاء المحليون قسطاً من الراحة، إلا أن التركيز على الإرهاب الدولي يصبح أكثر صعوبة في ظروف كهذه. كما أنه من غير المرجح أن تُحمِّس هذه الصراعات المحلية الدنيوية خيال المتطوعين الأجانب المحتملين.

ومثل إدارة أوباما من قبل، تصارع إدارة ترامب لتحقيق التوازن بين الحذر والانتصار. يفضّل ترامب من ناحيته جانب الانتصار، ويتباهى بهزيمة "الدولة الإسلاميّة"، رغم مخاوف مجموعات مكافحة الإرهاب، التي تريد منه البقاء في سورية للاستمرار بالضغط عليها.

من الملائم انتقاد تباهي ترامب السابق لأوانه، ولكن من المهم أيضاً إدراك أن "الدولة الإسلامية" قد ضُرِبَت بشدة، وأن هزيمة "الخلافة" تمثل نقطة تحول محتملة. لم يعد هناك تدفّق للمقاتلين الأجانب، ومن الصعب للغاية تنظيم هجمات إرهابية دولية بعد خسارة الأراضي. إن الظروف الاستثنائية التي سمحت لـ "الخلافة" أن تزدهر لفترة وجيزة قد لا تتكرر قريباً، ومن غير المحتمل أن تستعيد "الدولة الإسلامية" قوتها بنفس المستوى على النحو القريب، أو أن تظهر جبهة أخرى بنفس الجاذبية التي كانت تحظى بها خلال وجودها في سورية.

بالطبع، لا يعني هذا نهايةَ الإرهاب "الجهادي". إذ تبقى جاذبية تنظيم "الدولة الإسلامية" وإيديولوجية "القاعدة" قوية، وستسعى أعداد صغيرة من مُتَّبِعيها في الغرب لتستلّ سيوفها. إلا أنّ التهديد اليوم أقل ترهيباً مما كان عليه في عام 2014، وينبغي على صنّاع السياسة أن يدركوا بأن النجاح الجزئي قد يكون أفضل شيءٍ يكسبونه.



الجمل ـ بالتعاون مع مركز دمشق للدراسات 


المصدر : فورين بوليسي (Foreign Policy)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...