حارة اليهود في دمشق أكثر أمانا من تل أبيب

29-04-2006

حارة اليهود في دمشق أكثر أمانا من تل أبيب

الجمل ـ تحقيق ـ سعاد جروس

على خارطة مدينة دمشق نتتبع الطريق العريض المنبسط بين منطقة ابن عساكر وسوق الخضار الشعبي الشاغل لساحة الأمين التي يصب فيها شارع الأمين الرئيسي حيث مدرسة (الإليانس) إحدى أشهر مدارس اليهود، التي تعود اليوم لوكالة الغوث الفلسطينية (الاونروا)، نلاحق خط شارع الأمين المنتهي بسوق البزورية، لتطالعنا مدرسة (اليوسفية) للإناث نسبة" للحاج يوسف بيضون" و(المحسنية) نسبة "للعلامة محسن الامين" الذي أسس المدرستين في بداية القرن الماضي. هانحن عند تقاطع شارع الأمين مع الشارع المستقيم "سوق مدحت باشا" الذي يشطر المدنية القديمة إلى شطرين.
 فلنمضي في قراءة خارطة جغرافية، وديموغرافية، تكاد ان تشكل مدخلاً لتهجئة مشهد أكثر اتساعاً يمتد على مساحة بلاد الشام عامة: يتفرع شارع الأمين الرئيسي إلى أزقة متشعبة، ننحرف إلى اليسار نحو زقاق المدار ونتوقف عند دخلة الشرفا التي سكن فيها العلامة الأمين ما يقارب النصف قرن واطُلق عليها اليوم اسم (إبراهيم صندوق) احد الشخصيات الوطنية التي عاشت في أوائل القرن الماضي .  نتتبع على الورق متاهات حارة اليهود، المعروفة سابقاً بمحلة "الخراب "، لنلج عالماً من الإشكاليات والاحداث الشيقة والقصص الطريفة: بيوت مهجورة، محال أغلاقها موصدة، أكوام من الأتربة والغبار وراء نوافذ تتحدى الغبش، بقايا من تاريخ يومي ترويه الذاكرة الشعبية عن السكان اليهود:  اللحام مراد ، المبصر أبو خضر،الصيرفي رمانو، الخياط شعيا والمغنيات الجميلات بنات شطاح ، وحسيبة اتشي، وهانولا، الطبيب طوطح، والصيدلاني إبراهيم، تجار الأقمشة وحرفي النحاسيات في باب توما. قصص أناس كانوا هنا وربما سيعودون.
على الجدران تسميات حديثة مثلاً اسم (الأمين) الذي أطلق على محلات بيع الزهور، والكهرباء،  والمحامص، والمكاتب العقارية، على جانبي الشارع العريض، إلى جانب تسميات إسلامية وعربية في الأزقة والدخلات والدخاليج، لا يظهر بينها اسم يهودي ينم عن الذين سكنوا هنا وتقاسموا العيش مع الدمشقيين، نحاول أن نتقصى سبب ذلك، فتطالعنا قصة متداولة: أن الشارع الرئيسي الذي يسمى بالأمين شٌق فترة الحرب العالمية الأولى. حين كان الواقع الاقتصادي لسكان الحي من العائلات المسلمة وبالأخص الشيعية بائساً جداً فاستغل اليهود فرصة تدني الأسعار للخروج من الحارات الضيقة إلى الشارع العريض فأخذوا يشترون البيوت المتهدمة على جانبي الشارع ليعاد بناؤها بشكل حديث، وهكذا سيطر اليهود على الحي . بينما ظلت غالبية العائلات المسلمة تقطن الدخلات الفرعية المغلقة. سيطر اليهود على الواجهة أرادوا بالاتفاق مع سلطة الانتداب أن يطلقوا اسم واحد من شخصياتهم على الحي، فوضعوا لوحة تحمل الاسم في رأس الشارع العريض، فاقتلعها أهل الحارة ليلاً. فبقي أسمها على حاله، إلى أن جاء الحكم الوطني عام 1937، فتبدل اسم حي الخراب وأطلق عليه اسم (الأمين) تكريماً للسيد محسن الأمين. وظل حتى يومنا هذا، كما أطلقت أسماء شخصيات وطنية عديدة على دخلات الحي، ممن لعبوا دوراً وطنياً ودينياً في تلك الفترة.
 يعتبر حي الأمين اليوم من أهم مناطق توطن الشيعة الدمشقيين، ومن عائلاتهم المعروفة، آل صندوق، لحام، ومرتضى، ونحاس، وبيضون، والروماني. إلى جانب بقايا عائلات يهودية كانت تسكن من آل مراد وزقزوق وسلمون وحمرة وساعاتي والرمانة وجاجاتي ورمانو وبلة والسكروج وشامة وقطش وطوطح أوظن وندافيت اشكنازي ... إلخ.  إلى جوار لاجئي الـ 48 من الفلسطينيين، مع أقلية من المسيحيين من أصول ريفية. إلا أن هذه الحارة عرفت بالماضي كمركز لتجمع اليهود في دمشق كما عرفت باب توما و القصاع كمركز لتجمع النصارى. وقد شهدت دمشق هجرة واسعة لليهود  في عقد  التسعينيات  لدى انطلاق مباحثات السلام في مدريد. وغادرها في عام 1993  حوالي 2500 يهودي من أصل رقم تقديري وهو  4500 يهودي سوري أغلبهم كانوا يعيشون في دمشق، تحت ضغوط خارجية، و سرعان ما عاد منهم حوالي 200 شخص، ويتوقع أن يعود المزيد منهم. وأحد السكان وهو صيدلاني  أكد أن اليهود في سورية ينعمون بامتيازات تفوق غيرهم من السوريين، ولا يمكن لأي بلد في العالم أن تمنحهم القدر البسيط والطبيعي مما منحته سورية لهم وبالأخص خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
نتوقف على الخارطة داخل السور القديم من جهة الجنوب، حيث نشأت حارة اليهود كمنطقة هجينة، أو ما يشبه مدن الصفيح. التي أخذت صفتها الشعبية من  كونها استقطبت غالبية الغرباء من الوافدين إلى المدينة لظروف مختلفة من أبناء طوائف وملل وجنسيات متعددة، كان غالبيتهم من اليهود في القرن التاسع عشر، حيث بلغت نسبتهم  في تلك الفترة 4  / 630 من عدد سكان دمشق، الذي قدره بعض الرحالة بـ 150 ألف نسمة، لكن لا يمكن الوثوق بتلك الأرقام في مجتمع يفتقر للإحصاءات الدقيقة بسبب العادات والتقاليد. ومع ذلك فهناك من يرى أن عدد اليهود في دمشق بدأ في التراجع منذ منتصف القرن التاسع عشر بسبب هجرة طائفة منهم إلى استنبول والمدن العثمانية.
تعتبر أن أهم  موجات يهودية التي وفدت إلى دمشق موجة مهاجري يهود (الأندلس) المبعدة مع العرب المسلمين منها، وسمي هؤلاء (السفارديم)، وكانوا يتكلمون فيما بينهم لغة (اللادينو) ثم أصبحت العربية لغة مشتركة بينهم وبين اليهود المحليين المتوطنين في بلاد الشام منذ حقب بعيدة. ومع بداية  القرن التاسع عشر جاءت موجة يهودية جديدة من أوروبة الشرقية هم اليهود الأشكنازيون ويتكلمون لغة (البيدش). وهنا لا بد من ذكر أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد تزايداً في عدد المهاجرين اليهود إلى بلاد الشام ومن ثم إلى فلسطين كان  مرافقاً  لظهور وتصاعد  الحركة الصهيونية، بينما كان عددهم في دمشق يتناقص. وقبل عام 1948 كان من المتعذر الفصل بين اليهود وعموم أهل البلاد كونهم  تغلغلوا في المجتمع الشعبي السوري وتكلموا لغته مع المحافظة على تقاليدهم وعقائدهم ولغتهم التي كانوا يستخدمونها بشكل خاص في يوم السبت. تاجر دمشقي من سكان الحي قال: أن اليهود في سورية لغاية عام 1948 كانوا مثل غيرهم من المواطنيين السوريين، وقد شغلوا مناصب هامة في الدولة فكان منهم مدير بنك، و نواب في البرلمان، لكن الظرف السياسي وقيام مايعرف بدولة لليهود في فلسطين كان له أثر كبير في انكفاء اليهود السوريين.
توطن يهود دمشق في  أحياء أخرى غير محلة الخراب، مثل حي السامرة الكائن فوق العنابة بالقرب من برج الروس حالياً ويقع ضمن السور من الناحية الشمالية ، وحارة القرائين في محلة الزيتون قرب السور القديم في الناحية الشرقية الجنوبية من المدينة. ثم حل محلهم المسيحيون الكاثوليك بعد 1832 م، حيث تقوم بطركية الروم الكاثوليك اليوم. كما تشير المصادر التاريخية إلى  وجود كنيس يهودي قديم جداً في منطقة جوبر في ريف دمشق، ويقال أن سبب بناءه اعتقاد اليهود بأن النبي إلياهو "إيليا" مر من هناك. كما يقال أيضاً أن يهود  دمشق توطنوا بدايةً في شارع البدوي في حي الشاغور، لكن مع بداية القرن العشرين كاد أن ينحصر وجود اليهود في محلة الخراب "حارة اليهود" التي كانت تدعى في حالات قليلة "ثلاج" شرقي المدينة القديمة، حيث أكبر تجمع لهم، في محلة تنقسم إلى أزقة ودخلات غير نافذة. إذا حاولنا التجوال فيها، نصل إلى حارة  جامع الإحسان، ثم تطالعنا  مدرسة ابن ميمون القديمة، ببنائها المشرف على الانهيار، بعد أن باعها أصحابها لتاجر من مسيحيي دمشق ، اما المدرسة فقد انتقلت إلى بناء حديث في الحارة ذاتها. أحد السكان من المارة أخبرنا عن المدرسة،  انها كانت قبل عقد من الزمان تعج بالطلاب الذين يدرسون اللغة العبرية، إلى جانب المقرر الدراسي العام في سورية، ويخمن أن عدد طلابها في تلك الفترة  يقارب 200  طالباً، بينما اليوم يظن أنه لا يوجد فيها سوى قلة من الأولاد.
ندلف إلى يسار المدرسة في زاروبة ضيقة تنفتح على فسحة سماوية تنتصب فيها شجرة كينا  معمرة، ويفصل بين الأرض المحيطة بهذه الشجرة والممشى الأسمنتي أسلاك شائكة بارتفاع منخفض  تطل عليها أبواب كثيرة لبيوت حارة "جوانية" أقرب للبيئة الريفية. في تلك البيوت ما هو آهل بالسكان وأخرى موصدة على الصمت والأتربة، وثمة أطفال يلعبون  في الفسحة، أحدهم   يكتب بالطبشور على الحيطان: "فلسطين لنا"، "تحية فلسطين " على حواف خريطة لفلسطين باللون الأحمر رسمت قبل حين، امرأة تطل من خلف باب بدافع الفضول تتساءل، نرمي السلام ملبين حاجتها للكلام، فنسأل: لمن هذه البيوت المهجورة ؟
ـ تجيب بصوت مرتفع مع شيء من التذمر  " لليهود .. رحلوا وبقيت دونهم مغلقة، لا أحد يجرؤ على اقتحامها أو السكن فيها، الحكومة تحافظ عليها كما هي، فربما يعود أصحابها يوماً ما" . 
خرجت "الحاجة أم محمد" من بيتها وقد عدلت غطاء رأسها، وعظّمت علينا الَأيمان كي نلبي دعوتها بشرب فنجان قهوة في بيتها أخبرتنا أنها من فلسطينيي الـ 48 ،تقدمتنا في اجتياز دهليز الدار المظلم نحو غرفة واسعة تعج بالأطفال والأمهات الصغيرات، التفتت أم محمد نحونا بفخر وقالت: إنهن  كنائني وأولادهن. ومع  تداعيات فنجان القهوة ربطت بيننا مودة سريعة و حميمة زاد منها صخب الأطفال، علمنا أنهم عندما جاؤوا إلى الحارة كان معظم السكان من اليهود، لكن لم يبق منهم  الآن سوى أشخاص قلائل جداً . أم محمد لا تحب اليهود، فهي تتذكر جارتها اللئيمة كيف كانت ترمي الكعك الذي ترسله إليهم تقدمة في العيد "سكبة" بحجة أنهم لا يأكلون من طعام غيرهم، تلك الجارة، تقول أم محمد ، كانت تنعت أولاد نا  بالجرذان كلما ارتفعت أصواتهم أثناء اللعب.  ومع ذلك تتابع أم محمد : لم يكن هناك مشكلة بيننا كفلسطينيين ويهود. أما ملاحظاتها عليهم فلا تتعدى انهم متكبرون.  إحدى الكنائن عقبت على حديث حماتها: عندما كان شبابنا "الفلسطينيون" يحتفلون بمناسبة وطنية ويرفعون صوت الراديو على الأغاني الثورية، أو يعلقون البيانات على جدران الحارة، كانت ملامح اليهود تنكمش، وأحياناً كانوا يرفعون صوت إذاعة إسرائيل. ومع ان تلك الملاحظة لا فتة لم يحدثنا  أحد ممن قابلنهم  في البيت أو الحارة عن تصادم حدث بين اليهود والفلسطينيين،  وحسب تعبير أم محمد  "كل واحد منا كان بحالو". كما انها لا تخفي إعجابها بمهارة اليهود المهنية فتقول: "والله شطار، حين نووا على الهجرة عرضوا أثاث بيوتهم للبيع فاشتريت لأبني من عندهم غرفة نوم " لقطة"
ويمضي بنا حديث أم محمد إلى أسئلة أخرى تدور في الخاطر عن ماهية العلاقة التي قد تربط بين سكان متناقضين إلى أبعد حدود التناقض في حي واحد تتقابل أبوابهم وتتلاقى وجوههم صباح مساء !! إلى أي حد كانت القلوب  تضمر الريبة، فيما تنطق الألسن بالمجاملة؟! وربما أكثر، لكن ألا يتطلب العيش المشترك قليلاً من التعامل اللبق ؟  أحد تجار القماش من مسيحيي القصاع حكى طرفة عن جار يهودي في السوق كان كل صباح يكرر على مسامع جيرانه من المسلمين والمسيحيين لازمة واحدة، يكررها كل صباح في ما يشبه التحية : " الله لا يفرجيكم اللي شفتو، ولا يذيقكم اللي ذقته"  إلى أن حاول التاجر المسيحي ذات مرة أن يفهم منه سر هذه اللازمة ويعرف ما هو الشيء الذي يراه والشيء الذي يذوقه، فأسرّ له الجار اليهودي ضاحكاً: كل صباح عندما أنهض من فراشي آكل ملعقة عسل بلدي، ثم أمضي إلى صندوق مجوهرات زوجتي وأتمتع برؤيتها، لهذا أتمنى أن لا تذوقوا العسل ولا تروا المجوهرات. 
   ربما تلك الطرفة المتداولة في دمشق تعبر إلى حد ما عن صورة اليهودي لدى العامة، ومع ذلك فهناك نوع من العلاقات  يقوم على المصالح المشتركة بين المواطنين من مذاهب وانتماءات مختلفة، إلى جانب ما قد يفرزه الواقع الاجتماعي من روابط إنسانية تترفع عن تلك الاختلافات، أحد الأطباء أشاد بالطبيب اليهودي المعروف باسم  طوطح وهو لا يذكر اسمه الأول، ويقول: ما من عائلة دمشقية لم تزر عيادة الدكتور طوطح، حتى في الجامعة كانوا يأخذون وصفته كنموذج من خطوط الأطباء السيئة، فمن يستطيع من طلاب الصيدلة قراءتها، فهو قادر على قراءة خطوط لأطباء الآخرين كافة. 
  لكن ذلك لا يتنافى مع حقيقة أنه في العقود الأولى من القرن العشرين كان من المعيب أن يسكن أحد من أهالي حي الميدان أو الشاغور أو الدمشقيين الأصلاء حي اليهود، كونه حياً شعبياً، لا تحكمه عادات وتقاليد دمشقية أصيلة، وهذا ما جعل حارة اليهود تتميز عن غيرها من أحياء دمشق بالتنوع والغنى من حيث تعدديتها المذهبية والطائفية والجنسية، مكونة بمجملها مجتمعاً متألفاً ذا خصوصية، شارك فيها اليهودي والمسلم بمختلف طوائفه من شيعة وسنة ودروز إلى جانب المسيحيين مع كم من القادمين من لبنان وإيران والعراق، إلا أن القاسم المشترك الأهم بين ذلك الخليط من البشر هو المستوى الاقتصادي المتدني. ويذكر العلامة محسن الأمين، الذي طلب منه شيعة دمشق القدوم إليهم  للإقامة معهم في نهاية القرن التاسع عشر انه عندما وفد إلى دمشق من العراق واجه ثلاث مشكلات هي علة العلل، ملخصها الأمية والجهل المطبق،  الانقسام، والتحزبية، بالإضافة إلى سوء الواقع الإقتصادي، يمكن تحسس أبعادها من خلال النظر إلى الواقع السياسي المعقد، أثناء تقوض أكبر دولة إسلامية وقيام الدول العربية بشكلها الراهن بفضل الانتداب الأوروبي، الذي ساهم في زرع دولة إسرائيل الهادفة إلى لملمة اليهود من كل بقاع العالم وزجهم فيها. في تلك الفترة كان يصعب على المواطن العربي، الذي شهد تفتح وعيه القومي من جراء اغتصاب فلسطين، أن يفرق بين يهودي عربي، وآخر صهيوني ينتهك مقدساته في فلسطين. وفي هذا الخصوص يروي المؤرخ حسن الأمين في مذكراته عن والده العلامة محسن الأمين:" أن اليهود استقووا بسلطة الانتداب الفرنسي مما جعل الاحتكاك دائماً بينهم وبين سكان حي الخراب، وحاول مرة الحاخام الأكبر أن يتودد لأهل الحارة، ففاجأ والدي في أحد الاعياد برسول يخبره بأنه قادم لزيارته وتهنئته بالعيد، ولم يكد الرسول ينصرف حتى خرج والدي من البيت فجاء الحاخام فلم يجد أحداً. وبالرغم من أن هذا التصرف كان جافاً، وتنافى مع أخلاق والدي، فقد كان لا بد منه في رأيه، لأن معنى قبول زيارة الحاخام في العيد واستقباله في البيت، أن الوالد سيضطر لمبادلته الزيارة في عيدهم، ثم تتكرر الزيارات والاتصالات, وكان هذا عند والدي أمراً لا يمكن أن يقع، في الوقت الذي كشفت فيه الصهيونية قناعها، وأسفرت عن حقيقتها، وكان اعتقاده أن كل يهودي صهيوني."
من جانب آخر تبدو تلك الرؤية للتعامل مع اليهود غير قابلة للتعميم فثمة من كان يفرق بين اليهود الذين لم يرضوا عن قيام إسرائيل، وغيرهم من الذين هاجروا إليها بفعل ضغوطات الصهيونية العالمية وهناك من يشهد بأن اليهود السوريين أنفسهم كانوا يستنكرون ما يفعله الصهاينة في فلسطين.  
  نمضي في حارة جامع الإحسان لنستريح في مشغل النجارة مع (أبو جورج) الذي جلب لنا الشاي بعد أن شَكَلَ قلم الرصاص خلف أذنه، دعانا إلى الجلوس على قطع من جذوع الأشجار، عرفنا أنه من باب توما ، لكن أهله كانوا يملكون دكاناً في هذه الحارة من حوالي  خمسين سنة، وهو يستخدمها الآن مشغلاً للنجارة الشرقية. يقول: صار لي 30 سنة أعيش هنا والحمد لله مرتاح كثيراً. أصدقائي كثر ومن أديان مختلفة ، نقاطعه لنسأل عن طبيعة العلاقة التي تربطه بالجيران من اليهود، فتنفرج أسارير( أبو جورج) ليروي لنا بثقة معلوماته عنهم : كانوا مثل الدمشقيين من المسلمين والمسيحيين، هناك تمايز بسبب الاعتقادات الدينية التي تخلق عادات اجتماعية مختلفة إلى حد ما ، لكنهم ودودون ، كان لي صديق منهم حميم جداً حتى انه يدعوني إلى بيته لنتناول طعام الغذاء معاً، وهو أمر غير مألوف عند اليهود، وعندما بادلته الدعوة إلى بيتي، تجنب  بلباقة غالبية الأطعمة على المائدة، مستعيضاً عن ذلك بتناول البيض المسلوق فقط. بحجة أنه يشكو من ألم في المعدة، لم يزعجني ذلك التصرف لأنني أعرف أن اليهود لا يأكلون من اللحوم سوى "الكاشير" أي الذبائح الخالية من العيب والمصلى عليها من قبل "الخاخام" ـ كما يلفظها الدماشقة ـ
نسأل أبو جورج : كيف تخلو الذبيحة من العيب؟
أجاب بمعلمية: يذهب اللحام اليهودي إلى المسلخ بعدة رؤوس عجل، قد لا يعود سوى بواحد، فبعد الذبح ينظر إلى الرئتين، فإذا كانت مثقوبة أو ملتصقة بالقفص الصدري من الداخل، سميت "طاريف" ويحرم أكلها على اليهود.
أبو إبراهيم من لاجئي الـ 48 كان يتابعنا من خلف علب الزيت والصابون والمحارم في دكانه الصغير أخبرنا متحمساً : في السوق لا يوجد فرق بين شخص وآخر، المهم الشطارة مع الامانة، والله أعرف تجاراً منهم موثوقين جداً، من بينهم واحد كان ينعت نفسه " يهودي ابن حرام" اكتشفت متأخراً خطأ بالحساب كان قد تغاضى عنه، ومع ذلك حافظت على  تعاملي معه لأنه شاطر. ولعل روائح الدكان المختلطة لجملة من البضائع المتنوعة تشهد لأبي إبراهيم بصحة ما يقول وكذلك جانيت الخياطة التي التقيناها صدفة عند الفران فهي لم تتوان عن إبداء الإعجاب بمهارة اليهود المهنية، فقالت: كانوا أهم من عمل بالخياطة في دمشق، بيوتهم مشاغل,كثيرون من أهل الحارة يتذكرون مشغل (شعيا) الذي كانت تعمل فيه غالبية بنات الحارة من اليهوديات، كن يعملن بشكل دؤوب طيلة أيام الاسبوع عدا يوم السبت، من طلوع النجمة ليلة الجمعة حتى طلوع النجمة ليلة السبت حيث يحرم على اليهود توليع النار كانوا لا يقومون بأي فعل يوم السبت سوى التأنق والغندرة والتنزه وإذا احتاج الأمر توليع نار بشكل اضطراري، يستعينون بالجيران من غير اليهود،..  ياما ناودني لأشعل لهم البتوغاز.
   أمام الفرن تعبر إمرأة عجوز ضئيلة الحجم رشيقة الحركة ترتدي ملابس غريبة  وألوان متناقضة، وشعرها أشعث، نظرت إلينا بعينيها الزرقاوين بشيء من الذعر، ثم أشاحت وجهها نحو باب عتيق ودفعته بقوة لتغيب خلفه!!. سألنا عنها صبي الفران، فضحك قائلاً : إنها روز اليهودية، إمراة عازبة تعيش مع اخوتها لا تتعاطى مع أحد من الجيران، لكن الأولاد يزعجونها، وهي تحب القطط وتربي أعداداً كبيرة منها، أولاد الحارة أسموا بيتها " بيت الأطط" ، شوقنا كلام صبي الفران، وجعلنا ننتظر خروجها لنتحدث معها ، لكنها حين خرجت، راحت تتبختر  أمامنا بخيلاء دون أن  تهتم بنا، اقتربنا منها فقالت بصوت مرتفع إذا أزعجتموني أشكوكم للأمن، قلنا: لن نزعجك فقط نريد أن نلتقط لك صورة.  ضحكت بدايةَ  وما أن رأت الكاميرا حتى صرخت "بدكن تصوروني حتى تضحكوا علي الناس، والله راح اشتكي للأمن " ثم مضت مسرعة باتجاه مفرزة الأمن.. بينما رحنا نحث الخطى في اتجاه آخر للبحث عن أماكن وأشخاص تتراءى ملامحهم في أحاديث أهل الحارة .
في كل دخلة كنيس، وما أكثرها دخلات حارة اليهود، ولعل الزائر للحارة لا يمكنه تمييز أبواب الكنس عن الأبواب الأخرى. فهناك من قال أن 22 كنيساً موجود في هذه المنطقة ، وآخر أكد انه لا يفتح منها سوى ثلاثة منذ أن هاجر اليهود الذين لم يبق منهم سوى 50 شخصاً، بينما أفاد أحدهم ان جميع الكنس تفتح في الأعياد حيث يتوزع المصلون عليها وهناك من يقول: من شروط صلاة الجماعة عند اليهود ان يوجد عشرة اشخاص على الأقل في الكنيس. من حي إلى آخر، ومن قصة لأخرى نقتفي أثر مجتمع صغير شهد تحولات كبرى فتغيرت ملامحه ولم يبق سوى رجع أحاديث وذكريات. وتروي أم زياد قصة أبو خضر، المبصر فتقول: كان يأتيه بشر من كل أنحاء سورية وبالأخص البدو والفلاحين، وحسب ما كانوا يعتقدون أنه لا يخطىء وتنبؤاته صحيحة ، لكن الآن لا نعرف أين هو أوإذا كان مازال يعيش في الحارة او مات أو هاجر. وتضيف ام زياد أن اليهود شاطرين بالتبصير" بيكتبوا حجابات بالعبري و كلها بتنفد"  وهناك شخص مازال يعيش في الحارة لكنه ترك العمل، واسمه جاك . نمضي للاستدلال على درب جاك المنجم ونصل بعد لخبطات كثيرة إلى باب حديدي أخضر منغلق بوجل، نقرع الجرس الكهربائي المعلق ، فيطل من خلف الباب رجل مسن بهي الطلعة أشقر السحنة بعينين زرقاوين،  يحمل عكازاً، ويرتدي جلابية عربية رمادية اللون.
ـ قصدناك لنعرف طالعنا
يجيب بمكر: لقد تركت التنجيم منذ زمان طويل ، أشكو من مرض بالقلب، وساقي تؤلمني كثيراً.
نستجديه الدخول، فيدعونا إلى بيته المؤلف من غرفتين وفسحة سماوية صغيرة، ندخل إلى غرفة المعيشة الكئيبة والفقيرة، حيث يتوضع سرير عتيق مع أريكة تحتل الجدارين الآخرين علق فوقهما آيات قرانية، حاولنا أن نستدرجه إلى الحديث عن التنجيم، فداور، وبمكر شديد أصر على عدم البوح بأي كلمة سوى أن الكلام يرهق قلبه .. تركنا جاك ونحن نجر أذيال الخيبة لم نتمكن من التحايل على دهائه مضينا في تعرجات أخرى، لنلتقي بمن يحدثنا عّما أهملته الكتب عن حارة اليهود ، أردنا أن نستنطق الذاكرة الشعبية التي بسطتها أمامنا خارطة من خطوط ومقاييس ورموز ، وأقدار عبثت بها السياسة، وحوادث لا تخلو من الدهشة، ومشاهد اجتماعية جميلة فقدت براءتها وبعثرتها ظروف عامة طارئة على تاريخ المنطقة، فاليوم عندما نذكر اليهودي في إسرائيل لا يمكن إلا أن نهز الرأس لهول ما نسمع من قتل وتدمير واحتلال، فهل هو ذاته اليهودي عندما يذكره الدمشقي  بتسميات الطبخات المشهورة، مثل " يهودي مسافر" أو "أبو داود " ؟ وهل هم أنفسهم اليهود الذين ذكرهم فخري البارودي في مذكراته أن مغنياتهم اشتهرن في دمشق في القرن الـ19 و منهن هانولا التي ابتاعته والدته منها بربع ريال وفق تقليد دمشقي حتى يطول عمره. بلا شك الحارة تغيرت، كما تغير اليهود أنفسهم الذين هاجروا بحجة تزويج بناتهم حيث الفرص في أمريكا أوفر منها في سورية، مع أن هناك من يعرف يهوديات تزوجن من مسيحيين ومسلمين، لكن ربما هي الحاجة للزواج من أشخاص يدينون بدياتنهم ذاتها إلى جانب صعوبة زواج اليهودية التي تدفع هي المهر للعريس. وحسب التقليد اليهودي عندما تتم الخطبة  يكتب بين الخطيبين ما يسمى (قينان) أي عهد ويسمى (شيطارا) وفيه يعين مقدار المهر المدفوع من الطرفين، والشروط المحددة، وفي يوم لاحق يجري الاتفاق على موعده مسبقاً تنعقد جمعية (كتبه) ليستلم الزوج الأمتعة والنقود التي تعهدت الخطيبة بتقديمها إليه، وبعد ثلاثة أيام يقام حفل الزفاف المعروف باسم (قدوس) ويشتهر عرس اليهود بمظاهر البذخ التي تستمر سبعة ايام. أهل الحارة من غير اليهود يقولون كلما كانت العروس أقل جمالاً وتقدمت بالسن توجب عليها دفع مهر أعلى، وقد تمكث بلا زواج إذا كانت فقيرة، لذلك يعلل الدمشقيون انهماك اليهوديات بالعمل طيلة أيام الأسبوع، بينما يتفرغن  مساء يوم السبت للتنزه في القصاع بما يشبه الاستعراض لجذب سعيد الحظ. والمثل الشامي يقول أن الأكثر جمالاً، هم  "خانمات الإسلام، وبنات اليهود، وشباب المسيحية" السيدات المسلمات هن الأجمل لاعتنائهن بأنفسهن وأزواجهن بينما بنات اليهود هن الأكثر غندرة لجذب العريس الذي يدفعن مهره من جهدهن، في حين ان الشاب اليهودي أقل عناية بنفسه كون العمل مقتله، أما الشاب المسيحي فهو لا يهتم بالعمل قدر عنايته بأناقته الشخصية.
 اهتمام اليهود بالعمل كان موضع إعجاب من الكثيرين، وهو ما جعلهم يلعبون دوراً إقتصادياً في تاريخ المنطقة، فقد سيطرت بعض أسرهم خلال فترة الولاية العثمانية على التزام الجمارك وأحكموا قبضتهم على كل ما يتعلق بالأمور المالية (كالصيرفة والربا) ولم يتوا نوا عن ممارسة دور استغلالي أثار كراهية الدماشقة، وهناك من صيارفة اليهود من لجأ إلى طرق ملتوية لابتزاز الأموال، وهوما دفع الدماشقة لرفع شكوى ضدهم إلى استنبول ، فاستجاب السلطان محمود الثاني لهم، وأصدر أمراً بعزل صيارفة اليهود من ديوان السراية، وباشر والي دمشق حين ذاك بالتنفيذ إلا أنه عجز عن الاستمرار بتسيير الأمور المالية دون الصيارفة اليهود، نظراً لكون تلك الحسابات والتسجيلات قد كتبت بالعبرية، ولم يوجد من يتقنها في دمشق سوى اليهود حتى قيل :"كأن دفاتر الديوان قد كتبت بالقلم القلفطيري" فاضطر الوالي مكرهاً لإعادتهم إلى مناصبهم . وعندما وقعت بلاد الشام تحت الحكم المصري 1832 ـ1840 م أصيبت بعض الأسر اليهودية بنكسة من جراء ذلك، لأنها فقدت بعض مناصبها المالية، رغم أن بعض أبنائها قد اشركوا في المجلس الاستشاري لمدينة دمشق في ظل الحكم المصري أو بعد عودة الحكم العثماني على بلاد الشام وحتى الحكم الوطني في سورية.
مهنة الصيرفة امتهنتها العلائلات الغنية من اليهود بالإضافة إلى مهن كثيرة متواضعة كانت من نصيب الأسر الفقيرة كحرفة "البويجيه"، أو الغناء في المقاهي ، أو "السمكرية"، وتعزيل المجاري الصحية ، إلى جانب مهن وصناعات أرقى برع فيها اليهود، مثل، صناعات النسيج و الألبسة الجاهزة والنقش على النحاس وتنزيل الفضة والذهب ... إلخ،  إلا أن التجارة تبقى المجال الأهم الذي تفوق به اليهود في ظل الحكم العثماني؛ وبالأخص تجارة الرقيق فمنهم النخاس والياسرجي وعمل هؤلاء في سوق الرقيق القريب من خان الجمرك في الجنوب الغربي من الجامع الأموي الملاصق لسوق الحرير، ونشاطهم التجاري في تلك الاثناء كان ملحوظاً حيث ارتبطت اعمال بعضهم مع استانبول والدول الأوربية، وجعلوا مقراتهم في خانات دمشق، وكان أشهرهم: سليمان فارحي، وأبراهام عبدالله، حيث جنى اليهود أرباحاً هائلة من تجارتهم تلك، وما أن قدم الحكم المصري إلى الشام حتى كان بينهم أغنى تجار دمشق على الإطلاق، وتراوح المعدل الوسطي لرأسمال كل تاجر منهم ما بين 600 ـ 700 ليرة ذهبية استرلينية.
لقد تمكن اليهود فعلاً من لعب دور مهم في المنطقة كمواطنين عرب ، لكن سرعان ما بدأ دورهم بالتحول مع ظهور الحركة الصهيونية التي ضغطت عليهم لانتزاعهم من بلدانهم الأصلية  والزج بهم في خضم صراع طويل من أجل اختراع وطن قومي لهم.
 بعض الدماشقة يتذكر اليهود بحنين إنساني نبيل، نراهم وهم متأكدون من أن اليهود أنفسهم من الذين يعرفونهم يبادلونهم الحنين لحارتهم الدمشقية. لقد غادروا وبقيت طرق العودة  مفتوحة أمامهم، وهناك من ينتظرهم  مثل مارييت ذات الشعر الأشيب التي تقول بكلمات بللها الدمع: لم أحب رجلاً في حياتي مثل ذلك اليهودي، جارنا ذو العيون الخضراء. وكما هي مارييت هناك أناس كثيرون لا يملكون سوى الأمل والدهشة على مشارف خارطة لا تلبث أن تتبدل مع كل تحول جارف.

 


  المصادر التاريخية:
            يهود دمشق/  د. جميل نعيسة
            مجتمع دمشق/ د جميل نعيسة
            يهود الشرق الأوسط / مأمون كيوان
            مذكرات فخري البارودي
            حل وترحال / حسن الأمين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...