السياسة المالية للمصارف الإسلامية

26-04-2006

السياسة المالية للمصارف الإسلامية


المال وعاء العمل وهو يختزن جهود المجتمع
يعتبر صدور المرسوم التشريعي رقم /35/ للعام 2005 الخاص بقانون إحداث المصارف الإسلامية في سورية، نقلة مهمة على طريق تحديث الأنظمة المالية في القطر وإكسابها تنوعاً بات مطلوباً نظراً للنجاحات المتواصلة للمصرفية الإسلامية، ليس في العالمين العربي والإسلامي فحسب بل في كبرى عواصم المال الغربية.
ومن شأن إحداث المصارف الإسلامية أن يسهم في استيعاب الكثير من المدخرات الفردية والعائلية، وإخراجها من حيز الادخار إلى حيز التشغيل والاستثمار والإنتاج، الذي يؤدي بالتالي إلى  رفع وتيرة الانتعاش الاقتصادي في البلاد.
والتنظيم الاقتصادي والمالي جزء من جوانب الشريعة الضرورية، فقد تناوله القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، من خلال الحرية الاقتصادية وحفظ التوازن وعدالة التوزيع بين أفراد المجتمع، ضمن حدود التشريع التي تحفظ مصلحة الفرد والجماعة معاً، فقال الله تعالى:
?كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم? (الحشر 59\7) أي أنه لا يجوز أن يكون المال حكراً على فئة دون أخرى في المجتمع، وإنما يجب أن يعم خير المال جميع أفراد المجتمع.
?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل? (البقرة 2\188) أي أن يكون التعامل بينكم بعيداً عن الاستغلال والغش والخداع والتضليل، ?وأحل الله البيع وحرم الربا? (البقرة  2\275)،لأن البيع فيه تنمية المال وقضاء حوائج الناس، والربا فيه محق المال واستغلال الناس.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ) (سنن ابن ماجة)، و(من غشنا فليس منا).
وبناءً على ذلك وبسبب التطورات الاجتماعية والاقتصادية والنقدية، وبسبب ما أنتجته الحضارة المعاصرة من مصارف ربوية, كان لزاماً على العلماء المسلمين أن يبحثوا في إنشاء مصارف يتم التعامل بها بحسب مبادئ الشريعة الإسلامية، ومن هنا ظهرت فكرة إنشاء مصرف غير ربوي، أو إسلامي.
وقد عرفه الشيخ العلامة وهبة الزحيلي في كتابه المرجع (المعاملات المالية المعاصرة) بقوله:
المصارف الإسلامية هي المؤسسات المصرفية التي تتعامل بالنقود على أساس الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها، وتعمل على استثمار الأموال بطرق شرعية، وتهدف إلى تحقيق آفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية السليمة.
وقد اعتمدت السياسة النقدية للمصارف الإسلامية على نجاح التنمية الاقتصادية واستمرارها من خلال اعتبارات عديدة فالنقود مال نامٍ، ومهمة النقود الأساسية في التشريع الإسلامي هي التداول وتبادل السلع والخدمات، كما أنها مقياس يتم بواسطتها تحديد القيم، وهي صالحة لأن تثبت في الذمة، لأنها مستودع قيم الجهد أو الثروة.
وإن الاقتصاد الإسلامي ينتظم مدّه وينتعش حينما يرفده الأغنياء بمدخراتهم، فيستقر النشاط الاقتصادي عند حدود عالية من الاستثمار والإنتاج والتشغيل، وتتضاعف الثروات في أيدي العامّة، ولذلك عملت المصارف الإسلامية على تشغيل الأموال المودعة لديها وتنميتها في حال رغبة أصحابها، وذلك من خلال عقود وفق أحكام التشريع الإسلامي. 
وللنقود دور في اختزان جهود المجتمع، لذا اعتبرت المصارف الإسلامية المال وعاء العمل، وثمرة جهود وأتعاب فكرية وجسدية يبذلها الأفراد والمجتمعات والدول، فالعامل يكدح لينال ثمرة عمله نقوداً، فيستهلك منها ما يسد حاجة أسرته ويدخر الفائض، وأرباب الأعمال والمصانع والمتاجر ينمون ثرواتهم ويساهمون في مزيد من ادخار واكتناز جهود العاملين لديهم بواسطة النقود، وتتسابق الدول والمجتمعات في تنمية ثرواتها من الذهب والفضة والنقود الورقية من خلال جهود أبنائها، فالمال تعب وجهد أفراد الأمة وقيمة مواردها الطبيعية مجبولة بعرق أبنائها وهو الوسيلة التي تتبادل فيه الدول اليوم قيم منتجاتها من خلال الاستيراد والتصدير والتبادل في النواحي الاقتصادية من صناعة وزراعة وتجارة وعلم...... الخ.
ولعل هذا هو المعنى الذي أراده الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) فعبر عنه بقوله:
(من نعم الله تعالى  خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه ويمتلك ما يستغني عنه).
ولذا استنبط علماء المسلمين مصطلحات مصرفية معاصرة للتوظيف والتمويل المصرفي الإسلامي في إطار حدود المعاملات في الفقه الإسلامي كالمرابحة والاستصناع والمضاربة الاستثمارية.
ومن هنا ترتبط المصارف الإسلامية بالتنمية الاقتصادية، فهي تسهم في توزيع جهود المجتمع التي اختزنت في قيمة النقود، لترفد اقتصاد الفرد والمجتمع ودخل الأمة، وذلك من خلال زيادة عامل التشغيل والاستثمار والإنتاج من سلع وخدمات واحتياجات أخرى.
ومن المعلوم أن زيادة عامل التشغيل والاستثمار والإنتاج في بلد ما، تقدر بما يقابلها من ذهب وفضة وعملة ورقية، فترى البلاد المصدرة للمنتجات، هي البلاد الأكثر غنىً، لأنها تجلب ذهب غيرها إليها كقيمة لمنتجاتها.
وقد ضمن التشريع الإسلامي نجاح التنمية الاقتصادية واستمرارها من خلال عوامل عدة منها النهوض بالتنمية الاقتصادية إلى مرتبة العبادة، فالإسلام لم يكتفِ بالحث على العمل، بل اعتبر العمل عبادة في ذاته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمسى كالاً من عمل يده، أمسى مغفوراً له يوم القيامة) (أخرجه الطبراني).
وساوى التشريع بين المجاهدين وبين الساعين في سبيل الرزق وتنمية المال فقال الله تعالى:
?وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله? (المزمل 73\20).
يوجب التشريع الإسلامي إتقان العمل وتحسين الإنتاج كمّاً وكيفاً، ويعتبر ذلك أمانة ومسؤولية وقربى. قال الله تعالى: ?إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً? (الكهف 18\30).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) (أخرجه البيهيقي في شعب الإيمان).
وإن إتقان العمل والإنتاج يتعين عليه إتباع أدق الأساليب العلمية وأحدثها في الإنتاج من خلال وسائل الإنتاج المتطورة والتقنيات الحديثة.
أثبتت الصيرفة الإسلامية نجاحها في العالم، وبصدور المرسوم 35 للعام 2005 أصبحت واقعاً محلياً وضرورة من ضرورات التنوع الاقتصادي في المجتمع السوري، وستكون أكثر نجاحاً ـ إن شاء الله تعالى ـ في سورية، بلد الخير والمحبة والتعاون والنماء والعطاء، والذي عرف شعبه بالجهد المتميز والمبدع في كافة نشاطات الحياة.

                                                                                                                                

* د. ممدوح العفاش
(دكتور  في الفقه الإسلامي وأصوله)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...