الدولار الآخذ بالانهيار

14-12-2006

الدولار الآخذ بالانهيار

لدى وزير المال في إدارة ريتشارد نيكسون، جون كونولي، ملاحظة شهيرة "الدولار عملتنا لكنّه مشكلتكم". يصحّ قوله هذا الآن من جديد. يريد باقي العالم بطبيعة الحال دولاراً قوياً. غير أنّ سعر الدولار الآن هو في طور الهبوط. كم يمكن أن يستمرّ هذا؟ الجواب المعقول يجب أن يكون: لبعض الوقت.
منذ مطلع عام 2002، يهبط الدولار بقوّة: في أسعار الصرف المرجَّحة تجارياً بحسب "جي بي مورغان"، انخفض 23 في المئة منذ شباط 2002. إنّه الهبوط المطّرد الثالث منذ الملاحظة التي أبداها كونولي. كان الهبوط الأوّل في مطلع السبعينات، والثاني بين عامَي 1985 و1988. في هاتين المرّتين، ساعد سعر الصرف المتدهور على إحداث توازن كبير في ميزان المدفوعات. ينطبق هذا في شكل خاص على الثمانينات. والأمر عينه يتكرّر الآن.
بين عامَي 1996 و2004، كان الطلب الداخلي الحقيقي في الولايات المتّحدة يسجّل كلّ سنة نمواً أسرع من نموّ إجمالي الناتج المحلّي الحقيقي. سبق أن اعتبرت أنّ هذا كان ضرورياً كي ينسجم نموّ إجمالي الناتج المحلّي مع الإمكانات، نظراً إلى أسعار الصرف السائدة والمعدّل الضعيف لنموّ الطلب في معظم أنحاء العالم. على مرّ هذه الأعوام، كان النموّ التراكمي في الطلب الحقيقي في الولايات المتّحدة 39 في المئة، في حين ارتفع إجمالي الناتج المحلّي 33 في المئة. كان الفارق عبارة عن الزيادة الحقيقية في العجز الذي سجّلته تجارة السلع وخدمات غير العوامل.
لقد تغيّر الوضع الآن. سجّل إجمالي الناتج المحلّي الحقيقي في الولايات المتّحدة نمواً مساوياً تقريباً لنموّ الطلب الحقيقي في 2005 و2006، بحسب آخر دراسة اقتصادية أجرتها "منظّمة التعاون والتنمية الاقتصادية". وأخيراً يستقرّ عجز الحسابات الجارية، ولو على مستوى مرتفع جداً.
وأخيراً أيضاً تنمو الصادرات الأميركية بالمعدّل نفسه تقريباً لنموّ الواردات. فبين الربع الثالث من عام 2003 والربع الثالث من السنة الحالية، نمت صادرات السلع والخدمات بمعدّل 27 في المئة، مع أسعار مستقرّة، في حين ارتفعت الواردات بمعدّل 26 في المئة. هذا مختلف جداً عمّا شهدناه في الأعوام الثمانية الماضية حيث ارتفعت الصادرات الأميركية بمعدّل 31 في المئة فقط مقابل 80 في المئة للواردات، ومع أسعار مستقرّة أيضاً.
هل يعني هذا أنّ التصحيح الضروري في أسعار الصرف الحقيقية قد انتهى؟ على الأرجح لا.
إذا بقي عجز الحسابات الجارية قريباً من نسبة 7 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، فعلى الأرجح أنّ صافي الخصوم الأميركية سيستقرّ على أكثر بكثير من مئة في المئة من إجمالي الناتج المحلّي. وهذا مستوى عالٍ جداً بالنسبة إلى اقتصاد بهذا الحجم. علاوةً على ذلك، يجب أن يسجّل صافي الخصوم الأميركية زيادة تتجاوز نسبة الـ 22 في المئة تقريباً من إجمالي الناتج المحلّي المسجَّلة في نهاية العام الماضي لتحقيق تغييرات أساسيّة في أسعار الأصول. كلما زادت حصّة الولايات المتّحدة في الحافظات المالية للدول الأخرى، طالب المستثمرون الأجانب بعائدات أعلى للتعويض عن الخطر.
والنتيجة المحتومة هي إمّا تراجع سعر الدولار أو هبوط أسعار الأصول الأميركية أو الأمران معاً. علاوةً على ذلك، من الصعب أن نتخيّل أنّ تراجع أسعار الصرف لن يكون جزءاً كبيراً من هذه الصورة. كون الولايات المتّحدة تقترض فقط في عملتها يجعل العجوزات أكثر أماناً لها إنّما أكثر خطراً لدائنيها. لهذا السبب، من شأن الاعتقاد بأنّ قيمة العملة انخفضت أكثر من اللازم – وتالياً يمكن توقّع ارتفاعها من جديد – أن يجعل من الأسهل الإبقاء على هذا الارتفاع الكبير جداً في صافي الخصوم الأميركية. لهذا السبب تخطئ هذه الممارسات الهدف عادةً.
بالإضافة إلى ذلك، اتّخذ نحو ثلاثة أخماس إجمالي الخصوم الأميركية البالغة 13,625 مليار دولار في نهاية العام الفائت، شكل سندات وعملات وخصوم مصرفية ومستحقّات مشابهة. قيمة هذه المستحقّات بالنسبة إلى الدائنين الأجانب أكثر عرضةً من مستحقّات الأصول الحقيقية للتأثّر بالتضخّم وتالياً للتأثير الذي يمارسه الهبوط الكبير في سعر العملة على الأسعار الداخلية. لا تستطيع الولايات المتّحدة أن تضمن عدم تراجع قيمة الدولار، ولن ترغب في ذلك حتّى لو استطاعت أن تفعل. إذاً على الأرجح أنّ الدائنين سيبلغون مرحلة يتمنّون فيها تراجع قيمة العملة قبل أن يستمرّوا في تأمين تدفّقات الرساميل الضرورية.
وسيبدي الدائنون أيضاً استعداداً أكبر لشراء أصول أميركية إذا بدأوا يشهدون انخفاضاً في عجوزات البلاد، بالأرقام الحقيقية. يتطلّب هذا مرحلة تنمو فيها الصادرات أكثر من الواردات. وعلى الأقلّ سيتطلّب هذا أيضاً سعر صرف أقلّ من كلّ ما شهدناه من قبل.
لذلك حتّى ولو انخفض سعر العملة كثيراً، من السهل أن نتخيّل أنّه سينخفض أكثر. أمّا إلى أيّ درجة يجب أن يهبط فيتوقّف على سرعة نموّ الطلب في باقي أنحاء العالم. ويتوقّف أيضاً على ما يحصل في الاقتصاد الأميركي ذاته: كلّما ضعف الطلب الداخلي وتراجع معدّل الفائدة، انخفض الدولار أكثر.
باختصار، على الأرجح أنّ الهبوط المطّرد في الدولار لم ينتهِ. لكن حتّى لو انتهى، على أساس أسعار صرف مرجَّحة تجارياً، لن تكون هذه نهاية القصّة. الهبوط الشامل ليس سوى جزء ممّا هو مطلوب. فمن المهمّ أيضاً إعادة توزيع التصحيح. حتّى الآن، شهدت البلدان المرتفعة الدخل التي ليست لديها فوائض كبيرة في الحسابات الجارية، ارتفاعاً كبيراً في عملتها مقابل الدولار، في حين لم يحصل هذا في البلدان النامية التي لديها فوائض من هذا النوع. من غير المرجَّح أن يستمرّ هذا، لا سيّما وأنّه يتطلّب تدخّلاً كبيراً جداً في أسعار الصرف. تخطّى الاحتياطي الرسمي 4500 مليار دولار في نهاية النصف الأوّل من سنة 2006، أي بزيادة نحو 2700 مليار دولار منذ نهاية 1999.
من الممكن تخيّل عالم يُحوَّل فيه جزء كبير من العجز في الحسابات الجارية الأميركية إلى بلدان أخرى مرتفعة الدخل من خلال انخفاض قيمة العملات في كلّ منطقة الدولار الموسَّعة. لكن يصعب أن نتخيّل أنّ البلدان ذات أسعار الصرف المتقلِّبة يمكن أن تقبل هذا التحويل لفترة طويلة. ومنطقة الأورو في شكل خاص غير مستعدّة لذلك.
إذاً أين أصبحنا في القصّة؟ أولاً، بدأ التصحيح يحصل، حيث هبط سعر الدولار إلى حدّ كبير على أساس أسعار صرف مرجَّحة تجارياً، في حين ارتفع الطلب أيضاً في باقي أنحاء العالم. ثانياً، على الأرجح أنّ تراجع سعر الدولار لم يبلغ المستوى الضروري إمّا لدعم انخفاض كبير في عجز الميزان الخارجي أو لتأمين التمويل الضروري. ثالثاً، حتّى لو بلغ المستوى الضروري، بالكاد بدأ التصحيح اللازم لأسعار الصرف بين البلدان الواقعة في منطقة الدولار الموسَّعة والبلدان ذات معدّلات الصرف المتقلِّبة.
ستنتهي هذه الحكاية المطوَّلة بفصول عدّة: كان الفصل الأوّل ارتفاع سعر الدولار مع انفجار العجز في الحسابات الجارية الأميركية، والفصل الثاني تراجع سعر الدولار مع ارتفاع العجز في الحسابات الجارية. نحن الآن في الفصل الثالث حيث يستقرّ العجز وأخيراً. لكنّ هذه القصة لم تنتهِ بعد. من غير الواضح ما هي المشكلة التي سيشكّلها الدولار في الدورة بكاملها. كلّ ما يمكننا قوله في هذه اللحظة "حتّى الآن، ليست الأمور سيّئة جداً". فلنأمل أن تبقى كذلك.

 

المصدر: النهار عن الفايننشال تايمز

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...