مقاهي حمص ذاكرتها ولسانها

10-01-2007

مقاهي حمص ذاكرتها ولسانها

يعتبر المقهى من ابرز الاماكن التي تمنح المدينة شخصيتها, انه لا يعطي انطباعاً عن ثراء المدينة فحسب, بل عن شبكة علاقاتها الاجتماعية, وقد تكون بيروت اكثر المدن العربية اهتماماً بتنوع هذه المقاهي حتى لتبدو المدينة بكاملها مقهى كبيراً.‏

من المتعارف عليه ان المقهى تقليد عثماني ظهر في القرن التاسع عشر وتطور بداية القرن العشرين فغدا لكل حي مقهاه الخاص.‏

- لا يبدو ان المقاهي قديماً كانت مجرد اماكن للتسلية والترفيه والراحة بل كانت منتديات ثقافية وعلمية وسياسية كما كانت اماكن للاجتماعات الجماهيرية وتلاقي الناس بحيث غدا وجودها ضرورة جماهيرية, لكن الامر اختلف في ايامنا الراهنة.‏

في كتابه ( مقاهي بيروت الشعبية 1950-1990) يبين شوقي الدويهي بأن النسيج العمراني للمدن العربية كان متداخلاً على نحو حميمي حتى نهاية القرن التاسع عشر إلا ان سياسة الانتداب الفرنسي جعلت من الساحة مركزاً تتفرع عنه ابنية مجتمعية وانشطة اقتصادية واستبدل سبيل الماء في مركز الساحة بتماثيل ونصب ما يشير الى تبدل في الهوية الوطنية ويتابع المؤلف : تحول المقهى من التسليات القديمة مثل الحكواتي والأراكوز الى لعب الورق و الدومينو وتدخين النرجيلة ثم حضور فرق الرقص والغناء الى ان استغنى الزبون عن كل ذلك واكتفى بمطالعة الصحف والمجلات. من هنا ربما ولدت المقاهي الادبية التي تميزت بروادها من الادباء والشعراء والمثقفين فعقدت فيها الجلسات الشعرية والحوارية على غرار الصالونات الادبية في مصر اذ يجتمع كثيرون منهم لمناقشة الشؤون الادبية والثقافية ان المقاهي ذاكرة ثقافية بامتياز ومكان متقدم لمواجهة الحياة بكل ما فيها من آلام وهموم ثقافية وسياسية.‏

- في حمص انتشرت المقاهي الشعبية والثقافية في مركز المدينة وفي احيائها, ويقول الاستاذ فيصل شيخاني- الذي يعتبره كثيرون ذاكرة متنقلة لمدينة حمص- كان عدد المقاهي في حمص كبيراً اذ ربما تجاز ال 80 مقهى اواسط القرن العشرين وكان معظمها حول ساقية الري (المجاهدية) وغالبا ما سميت هذه المقاهي بأسماء اصحابها ومنها مقهى البياضة وحاكمي ومقهى الدبلان في اول شارع الدبلان من جهة الغرب عند تقاطعه مع السكة الحديدية التي ازيلت عام 1980 وقد اخذ الشارع اسمه من اسم صاحب المقهى امين الدبلان ثم ابنه فايز اذ لم تكن الشوارع قد سميت بعد ورغم اطلاق اسم المتنبي على هذا الشارع إلا ان اسم الدبلان ظل الاكثر شيوعاً- ثم مقهى طليمات والشعار وابو الخير وعرنوس عند مصلى باب هود ثم مقهى الحسامي والفحم( حيث يلتقي الفحامون ويدبرون امورهم) وباليقا والجزار وكان مهما جدا يقع مقابل ما كان يسمى سينما فاروق, ثم مقهى فريال الذي تحول اسمه الى التوليدو ثم سيتي كافيه وما زال قائماً, ومن المقاهي التي ازيلت في حي باب السباع مقهى ابو شحود وفي حي التركمان مقهى التركمان الذي تحول الى مكان لبيع الكراسي وهناك مقهى الباشا الحسيني يتابع شيخاني :‏

هناك ايضا مقهى المنظر الجميل وكان مميزاً فيه ساحة واسعة وشاشة لعرض الافلام الصامتة كما اقيمت فيه احتفالات وبعض المسرحيات ثم مقهى الدروبي شمال الساعة القديمة وزامل وسط الدبلان ومقهى الزهراء في شارع القوتلي والسقاية( حيث يجتمع جماعة ممن يبيعون الماء الذي يؤتى به من العاصي قبل وجود خطوط نقل المياه ) والقهوة العالية, ومقهى المخاتير شرقي دار الحكومة ( ويجتمع فيه مشايخ الحارات لممارسة اعمالهم) ومقهى المصلى قرب جامع الدروبي وهناك المنتدى مقابل المتحف ومقهى البللور في سوق الحشيش والشبعان وكانت اهم مقاهي حمص: الروضة والفرح والمنظر الجميل وفريال.‏

- عن مقهى الروضة يقول الاستاذ معتصم دالاتي : يقع هذا المقهى بقسميه الصيفي والشتوي في مركز المدينة في شارع القوتلي- وما زال قائماً-او كما يسميه الحمامصة شارع السرايا حيث كانت السرايا فيما مضى تم انشاؤه عام 1922 في ارض كانت بستاناً من املاك بلدية حمص وقد جاء محمد ابراهيم افندي الاتاسي- رئيس البلدية آنذاك- بمخططاته من ايطاليا فكان الجناح الصيفي ببحيراته المتعددة واشجاره الكثيفة وارضه الرملية, اما الجناح الشتوي فبني وفق المخططات الايطالية ايضا كمسرح او دار اوبرا ويشهد على ذلك وجود البلكون الذي يطل على المسرح اضافة الى شرفة صغيرة ترتفع اعلى الجدار الشرقي. يلاحظ زائر حمص في ذلك الوقت ضيق الارصفة على جنبات الشوارع إلا ان الرصيف الممتد امام مقهى الروضة كان عريضاً جداً وكان هو ايضاً مقهى على غرار مقاهي الارصفة في اوربا في عام 1930 وفي الجناح الشتوي للروضة الذي كان مسرحاً غنى مطرب الملوك محمد عبد الوهاب اجمل اغانيه وكان المطرب المعروف محمد عبد المطلب يغني في الكورس المرافق لعبد الوهاب, والاهم من ذلك ان الروضة كان مسرحاً ثقافيا وادبيا وسياسيا لعقود طويلة من الزمن فكم من الوزارات تم تشكيلها او الاتفاق عليها وكم من الطبخات السياسية والنقاشات والتكتلات والخصومات كان مقهى الروضة شاهداً عليها وفي الجناح الشتوي للروضة القى عمر ابو ريشة قصيدته الميمية المشهورة ( امتي هل لك بين الامم..) كما زاره طه حسين -وفقا للاستاذ فيصل شيخاني عام 1947 وكان يكثر من الحديث عن ديك الجن فقال له أحد التجار الحمامصة غير المهتمين بالشعر : غلط يا استاذ ليس لدينا ديوك جن بل ديوك حبش!! وحين رحب به اهل المدينة اكثر من مرة بقولهم : اهلا بكم في حمص, قال طه حسين : رفقاً يا سادة.. حمص بالكسر وليس بالضم!! فأجابه حمصي ألمعي: يا سيدي لئن تضم قلب الحسناء خير من ان تكسره!!.. في عودة الى حديث الاستاذ دالاتي قال: كان مقهى فريال مكاناً يجتمع فيه الادباء ومنهم محي الدين الدرويش ورفيق فاخوري وروحي الفيصل ونصوح فاخوري لقد كان مقهى الروضة والفرح لنخبة المثقفين اما المقاهي الاخرى فغلب على روادها الطابع الشعبي .‏

- لقد تحولت المقاهي الادبية الى مقاه سياحية وحدث ذلك حتى في فرنسا حيث المقاهي الادبية الاكثر شهرة في العالم فغدت مكانا للراحة والفرجة واللقاء وفقدت بذلك وظيفتها الثقافية حيث احتلت ( الكافيتيريا) مكانها والتي لم تكن موجودة بكثرة قديماً واول كافتيريا في حمص افتتحت في الخمسينات( البرازيل )بالقرب من سينما الاوبرا وشكلت ظاهرة جديدة في حينه اي وجود مكان لشرب القهوة او تناول الكاتو دون ورق اللعب او طاولة الزهر وفيما بعد اتسعت الظاهرة فحدث ما يشبه عملية فرز عفوية فالمقهى للأشياء الشعبية والكافتيريا لغير ذلك وكان الفارق الاهم هنا, هو ما فعلته الكافتيريا في كسر القاعدة السائدة آنذاك فبدأت النساء بارتياد هذه الاماكن الجديدة في حين بقي ارتياد المقاهي حكراً للرجال ولعل الكافتيريا شجعت بهذا عملية الاختلاط وكسر الثوابت الموروثة البالية. يجمع كثير من الادباء والمثقفين بأن دور المقهى الثقافي قد تلاشى, وذلك بسبب وسائل الاعلام الحديثة والكثيرة فباتت هي اللاعب الاساس في تشكيل الوعي لدى شرائح المجتمع الواسعة والمختلفة وثمة تنهدات تسبق قولهم: سقى الله ايام زمان؟!‏

سوزان إبراهيم

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...