الدراما السورية : المتعة البصرية بدلاً عن المصداقية

03-05-2006

الدراما السورية : المتعة البصرية بدلاً عن المصداقية

أسمهان ليست جاسوسة، بل هي أيقونة وطنية يتوجب أن نعتز بها، فقد اتصلت بالحلفاء لتساعد على استقلال بلدها، هذا ما سنراه في مسلسل سوري جديد، يروي حياة المطربة المثيرة للجدل. وهناك ايضا مسلسلان عن حياة جبران خليل جبران، الذي ما ان يصدر عنه كتاب، حتى تبدأ الخلافات والسجالات. مسلسلات السير الذاتية لها جمهور كبير، والمخرجون لا يملكون سوى الدخول في ورطتها، ولو جرّت عليهم الدعاوى والمحاكمات، فكيف يتصرفون للتفلت من الرقابات والانتقادات، وضيق هامش الحرية، إجاباتهم، أحياناً، ليست مقنعة، وفي الأحيان محزنة وصادمة. بعض من أسرار اللعب على الرقابة والجمهور معاً، في هذا التحقيق.


يجري الحديث في الأوساط الفنية في سورية عن الاستعدادات الجارية لإنجاز عدة أعمال درامية تاريخية، تعتمد السيرة الذاتية لشخصيات مؤثرة في الحياة الثقافية والفنية، أهمها مسلسلان، الأول عن الأديب والرسام اللبناني جبران خليل جبران، وآخر عن حياة المطربة أسمهان. وقد باشر المخرج محمد فردوس أتاسي بتصوير مسلسل «الملاك الثائر»، من سيناريو وحوار الروائي السوري نهاد سيريس، ويتناول حياة جبران عبر ثلاث مراحل، الطفولة والشباب والمرحلة الأخيرة. العمل إنتاج مشترك سوري ـ لبناني، ويساهم فيه أكثر من ستين ممثلا من البلدين، كما أن أماكن التصوير متوزعة بين لبنان وسورية. فيما العمل الآخر الذي يتناول حياة جبران أيضا، تم تأجيل العمل فيه لهذا العام، لعدة أسباب، تتعلق بالإنتاج. وهو يركز على المرحلة الأخيرة من حياة جبران وعلاقته مع الأديبة مي زيادة، السيناريو لإيمان خضر، وإخراج حاتم علي. أما مسلسل أسمهان، فمن المتوقع أن يبدأ تصويره في 7 يوليو (تموز) من هذا العام، وقد تأخر بسبب البحث عن شخصية تجسد دور أسمهان. فالمخرج نبيل المالح الذي كتب سيناريو العمل وجد صعوبة في العثور على ممثلة تشبه المطربة أسمهان، كما رسمها على الورق كشخصية استثنائية.

الجديد القديم الجديد

المتوقع أن تثير هذه الأعمال لدى عرضها الكثير من الجدل، كما سبق وحدث مع المسلسلات التاريخية السورية، سواء ما تناول منها سيرة ذاتية أو قصة تاريخية. إذ غالباً ما كانت هذه الأعمال تصطدم باختلاف قراءة التاريخ بين شخص وآخر، وبين تيار سياسي وآخر في مختلف البلدان العربية. وبالتأكيد لم تتمكن المسلسلات السورية من العبور بين نقاط الرقابات العربية، إلا بالابتعاد عن مقاربة القضايا المختلف عليها، حسب رأي المخرج محمد فردوس أتاسي، الذي قال: «الكتاب والمنتجون باتوا يعرفون التوليفة التي تمر في كل المحطات، فيبتعدون عن القضايا الخلافية. فمثلا، المتنبي لا يوجد خلاف حوله، وكذلك خالد بن الوليد، وحتى لو وجدت هذه القضايا يتم النأي عنها في العمل من أجل تكريس مفهوم عربي متوافق».

لكن ماذا يبقى من التاريخ إذا جرى تجريده من القضايا الخلافية، وتم تخليصه من كل ما قد يعلق في شباك الرقابات العربية المتناقضة؟ يجيب أحد النقاد الفنيين «يبقى سحر الصورة والتفنن بالإخراج، وهو ما ميز غالبية الأعمال السورية، ذات الإنتاج الضخم، تعويضاً عن غياب المعالجة النصية الجريئة. بحلول إخراجية إبداعية، خلقت متعة بصرية للمتفرج، تصرفه عن التمحيص في الدقة التاريخية». إذا صح هذا الرأي، فيما يتعلق بالمتفرج العادي، فإنه حكماً لا ينطبق على المختصين بالتاريخ ولا بالمهتمين أو المعنيين بالشخصيات التي يتم تحويل سيرتها إلى عمل درامي.


محاكمات بالجملة

وقد شهد العام الماضي عدة معارك تتصل بهذا الإشكال، منها ما وصل إلى المحاكم كمسلسل نزار قباني، بعدما شككت أسرة الشاعر بالعمل قبل البدء في التصوير، واعترضت بعد العرض على كثير من الأخطاء التاريخية الفادحة المرتكبة، وحكمت المحكمة لصالحهم في البداية، ثم عادت وحكمت لصالح الشركة المنتجة التي ردت أسباب اعتراض أبناء نزار قباني إلى رغبتهم في الحصول على مزيد من المال، متغاضين عن استيائهم من الصورة التي رسمت لوالدهم، والطريقة التي تم فيها التعرض لحياته الشخصية. وحسب تصريح صحافي لهدباء القباني: «لا يجوز التذرع بأن نزار قباني شخصية عامة وحياته ملكية عامة. لا يحق لأحد الحديث عن زوجة نزار من دون موافقتها». هذا عدا عن تقديم الشاعر كزير نساء يدخن ليلاً نهاراً، وتجاهل اهتماماته السياسية وجوانب مهمة من شخصيته، وهو أمر للأسف لو تمت مقاربته بصدق وموضوعية، ربما، لم يتمكن مسلسل نزار قباني من أن يأخذ طريقه إلى العرض. لذا ومهما كانت مصداقية وبراعة المعالجة لسيرة ذاتية من التاريخ المعاصر، لن تنال الرضى طالما هناك أحياء يعرفون هذه الشخصية، أو على علاقة وثيقة بها. بل والأهم أن بعض الشخصيات، ورغم مرور زمن على وفاتها، لا تزال أفكارها ممنوعة من التداول في دول عربية دون أخرى، فكيف تعبر إلى جمهور المسلسلات العريض ولا تمر الى جمهور الكتاب النخبوي، من دون أن تخسر الكثير من وزنها الفكري والتاريخي.

في هذا السياق، يبرز كلام الروائية أحلام مستغانمي عن مسلسل نزار: «إن بعض المنتجين الكبار في الوطن العربي يستبيحون حياة المشاهير من كبار الأدباء والشعراء والفنانين، من خلال تشويه الكثير من مراحل حياتهم عبر فبركة بعض المشاهد حولهم بقصد الإثارة الفنية لأغراض تجارية لا صلة لها بالإبداع الفني»، مذكرة بحساسية التعامل مع حياة الأدباء الذين قد تسيء لهم هذه الأعمال وللمشاهد العربي على السواء أكثر مما تفيد. يعبر هذا الرأي عن حالة رفض لأي معالجة مهما كانت مثالية ومعقمة لحياة أي شخصية معاصرة، فما بالنا إذا كانت مبنية على كم من الأخطاء الناجمة عن إثقال التاريخ بمشاكل الراهن، في محاولة عبثية لإيجاد مبررات أو مسوغات للحاضر في إعادة بناء وتركيب الماضي، سواء في سير الشخصيات أم في الأحداث التاريخية، عدا عن إشكاليات كثيرة في التاريخ لا يزال يلفها الغموض.


شخصية أسمهان على المحك

ولعل شخصية أسمهان مثال على ذلك، فقد سبق أن أجبرَ ورثة أسمهان، الكاتب محفوظ عبد الرحمن، على استبعادها من مسلسل أم كلثوم، لاعتبارات كثيرة منها عدم الرغبة في ظهورها ضمن عمل ينتصر لأم كلثوم على حسابها، كون العلاقة بينهما تخللتها الكثير من الخلافات. وحين قرر ممدوح الأطرش التصدي لكتابة قصة حياة أسمهان، كانت المحاكم في انتظاره، ولولا إصرار الكاتب وولعه بشخصية اسمهان، لما تعاون مع المخرج نبيل المالح الذي سيكتب السيناريو والحوار، مستفيداً من البيئة الدرامية للقصة. وممدوح الأطرش عرض على أسرة الأميرة آمال الأطرش «أسمهان»، فكرة توثيق حياتها في مسلسل تلفزيوني، وكتب القصة في عدة حلقات تلفزيونية، إلا أنه لقي ممانعة مسبقة، وبعد فترة وجد عدة دعاوى قضائية مرفوعة ضده، فقرر الاستمرار في كتابة النص، الذي هدف منه إلى تخليد حياة أسمهان. ولدى سؤال المخرج وكاتب السيناريو نبيل المالح عن كيفية تجاوز العقبات الكثيرة الناجمة عن الألغاز التي تحفل بها حياة الأميرة آمال الأطرش، والمختلف عليها، قال: إن كتابة السيناريو استغرقت منه عملا لمدة عام ونصف، بمعدل خمس عشرة ساعة يومياً، حيث عاد إلى آلاف الوثائق والصحف والمجلات، ومراجعة مصادر أميركية وفرنسية وبريطانية كي يتمكن من رسم صورة تجيب عن كثير من الأسئلة الغامضة، كعلاقتها مع أم كلثوم التي وصفها بالجيدة، وعن لغز موتها في حادث سير. إذ أكد لنا المالح أنها قتلت لأنها رفضت العمل كجاسوسة، معتبراً أنها ايقونة وطنية جديرة بأن نعتز ونفتخر بها. والحقيقة في رأي المالح «ليست كما يشاع، ففي عام 1941 قامت أسمهان بعقد صلة وصل بين أهلها في جبل العرب في سورية والمخابرات البريطانية، على أن تقنعهم أن يقفوا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وأن يوقفوا التعامل مع حكومة (فيشي) المتعاملة مع ألمانيا النازية، وساعدها في تحقيق هذا الأمر طليقها حسن الأطرش، شرط أن يعقد عليها قرانه من جديد. فوافقت أسمهان على هذا الطلب، وهي بذلك تكون قد شاركت بتغيير تاريخ المنطقة، في رأيي أنا نحو الإيجاب لا السلب، لأنها حصلت جراء ذلك على وعد باستقلال سورية من الاستعمار الفرنسي».


تعقيم الشخصيات بالمطهرات المتاحة

ومهما كانت ثقة المالح كبيرة بهذه النتائج التي وصل إليها من خلال بحثه في حياة شخصية «أسمهان»، ومهما كانت مقاربة للحقيقة إلا أنها تحتمي تحت المظلة ذاتها التي تلجأ إليها مسلسلات السير الذاتية، حين تعمد إلى تعقيم الشخصية، وإبراز جانب منها على حساب الجوانب الأخرى، وغالباً ما تتجه بها نحو التقديس أو النمذجة، فتجردها من صفتها البشرية، كما سبق وحدث مع مسلسل أم كلثوم. مع أن نبيل المالح ينكر ذلك ويصر على أنه تمت معالجة شخصية أسمهان في إطارها الزماني، ولم يجر أي إسقاط راهن عليها، لكن هل تمكن من تحييد إعجابه بها؟ أمر مشكوك فيه. فقد كان يتحدث عنها بشغف بالغ كشخصية استثنائية، حتى أنه لم يعثر لغاية الآن على ممثلة قادرة على تأدية دورها! ألا يعني ذلك أن «أسمهان المالح» شخصية أخرى غير تلك التي عاشت مطلع القرن؟ لا يمكن التكهن بإجابات قبل رؤية العمل الذي لم يبدأ تصويره بعد. كما لا يمكن التكهن إلى أي حد ستكون ممانعة آل الأطرش مجدية من حيث إفقاد العمل للمصداقية، ويتم اعتبار رفضهم صحيحاً لاعتبارات لها علاقة بثقافة «أن الحقيقة صادمة».

ولعل مسلسل جبران خليل جبران الذي بوشر بتصويره هذا الأسبوع، لن يكون بمنأى عن مشكلة كهذه، رغم مضي ثلاثة أرباع القرن، على وفاة الأديب. فما من عمل مسرحي أو حتى نقدي تناول جبران، إلا ووجد من يقف له بالمرصاد. ولا بد أن نقاداً سيخرجون ليعترضوا على هذه الجزئية أو تلك، خاصة وأن حياة جبران ما تزال تلفها الكثير من الأسرار والتفاصيل المختلف عليها. وتبقى الفضيلة الأهم لمثل هذه الأعمال التي ننتظرها بلهفة هي في المتعة الدرامية والبصرية، على ما يبدو، والتي حدثنا عنها أحد النقاد، بصراحة تشبه البوح. لكن رغم ذلك، لا شك أن هكذا مسلسلات تساهم، على الأقل، في لفت الانتباه إلى شخصيات لعبت أدورا هامة في حياتنا الثقافية والسياسية، فمجرد الجدل حول صحة المعلومات يشكل حافزا للبحث والتقصي.

وحسب المسلسلات أن تدفع الناس إلى القراءة والاهتمام بأعلام الفكر والفن لإعادة الاعتبار لهم.

 

 

سعاد جروس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...