التقاء المصالح وتناقضها يزيدان غموض العلاقات الأميركية - السورية

01-02-2007

التقاء المصالح وتناقضها يزيدان غموض العلاقات الأميركية - السورية

اتسمت العلاقة الأميركية – السورية بالتناقض والغموض على مدى العقود الماضية حيث يطلق الطرفان إشارات مبهمة تتراوح بين التعاون والعداء. ويعود الغموض الى التقاء المصالح الأميركية – السورية وتناقضها احياناً اخرى ولا يمكن وصفها بعلاقة الحب والكراهية بقدر ما تتميز بالريبة وإن بدت انها في اتجاه نقطة اللاعودة. فليس هناك استراتيجية اميركية واضحة المعالم بل ردود فعل سياسية من واشنطن تجاه دمشق، تتمثل في مجموعة قرارات طارئة تجاه تطورات الأحداث في المنطقة. فأحياناً تتصاعد اللهجة العدائية من الإدارة الأميركية تليها فترة تهدئة، ذلك ان الإدارة لم تحسم أمرها تجاه دمشق وبالتالي فهي ليست في عجلة من أمرها، والمرونة السورية في التعامل مع الإدارة الأميركية وضعت الإدارة الأميركية في حيرة وحرج. وعلى ما يبدو، فإن محاولة دمشق التكيّف مع المطالب الأميركية تحولت الى إملاءات وأفشل النهج البراغماتي السوري، سواء في قبول العودة الى المفاوضات مع إسرائيل من دون شروط مسبقة أو التعاون الأمني مع الأميركيين ومحاولة ضبط الحدود السورية - العراقية ودور سورية في مكافحة الإرهاب المجابهة مع الإدارة الأميركية. لقد ابلغ الأميركيون القادة السوريين ان ما قدمته دمشق على مدى السنوات من معلومات أمنية لم يعد كافياً وأن المرونة السورية تجاه المطالب الأميركية فقدت أهميتها وليس لها تأثير في سياسة واشنطن تجاه دمشق، وأن الإدارة الأميركية قررت العمل على تغيير السلوك السوري وأن وقت الرئيس السوري بشار الأسد لإجراء إصلاحات قد نفد وأن تطهير النظام من الحرس القديم لم يعد يهم واشنطن، ومع ذلك فهي ترغب في إسقاط النظام الأمني السوري مع إبقاء هيكلية هذا النظام على غرار ما حدث في لبنان.

لقد انطلقت بداية النهاية للتفاهم السوري – الأميركي منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) المؤسفة في الولايات المتحدة وزاد الاحتقان السياسي بين واشنطن ودمشق بعد رفض سورية الغزو الأميركي للعراق حيث تغيرت السياسة الأميركية ليس تجاه سورية فقط، بل تجاه العرب والمسلمين بإعلانها الحرب على الارهاب، التي تدخل في مضامينها محاولة أميركية لتغيير جذري للثقافة والدين والسياسة في الشرق الأوسط. ويشير المسؤولون الأميركيون الى أن سورية لا تدرك أنها فقدت أهميتها الاستراتيجية بالنسبة الى الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي واحتلال العراق، ورغبة إسرائيل في التفاوض على الجولان ضمن شروط جديدة، ولا يعدو الاهتمام الأميركي بسورية سوى كونها جارة لإسرائيل الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة وهي تضع العراقيل أمام محاولات إسرائيل التطبيع مع العالم العربي وتثير أحياناً بعض المتاعب للاحتلال الأميركي في العراق.

وفي الواقع، فإن النظام السياسي السوري لا يختلف عن الأنظمة العربية القائمة في مجال حقوق الإنسان أو الديموقراطية أو الخوف على النظام السياسي سوى في تشدده في نهجه القومي والدعم المعنوي للقضية الفلسطينية. لقد ازدادت العلاقة السورية – الأميركية توتراً عقب خروج القوات السورية من لبنان وانتهاء لقاء المصالح السورية – الأميركية في لبنان، حيث قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول لرئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في باريس بوجود الرئيس الفرنسي جاك شيراك قبيل اغتياله: «لقد دخلت دمشق لبنان بموافقة أميركية وسنخرجها من لبنان».

وعنى بذلك لقاء وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر مع الرئيس الراحل حافظ الأسد إبان الحرب الأهلية اللبنانية، إذ قال الوزير الأميركي للأسد: «اذا لم يدخل أحد الى لبنان (في اشارة الى العرب) فسوف تدخل إسرائيل»، كما أن واشنطن وافقت على اخراج الجنرال ميشال عون من قصر بعبدا للتخلص من حليف الرئيس العراقي السابق صدام حسين بطلب من الساسة اللبنانيين، إلا أن العدوان الاسرائيلي على لبنان غيّر الكثير من المسلّمات بصرف النظر عن نتائج هذا العدوان، حيث فشلت الآلة العسكرية الاسرائيلية في ضرب «حزب الله» عسكرياً وازدادت شعبية «حزب الله» لبنانياً.

لقــد حـــزمت الادارة الأميركية أمــرها في شأن شرق أوسط جديد أول أولوياته هيمنة إسرائيل، وأدركت واشنطن ان غريزة البقاء السياسية متأصلة في العالم العربي ولبنان ليس الاستثناء.

والسؤال لماذا وافقت واشنطن على الرغبة السورية في تمديد الفترة الرئاسية للرئيس اللبناني اميل لحود بإعلانها عدم تحفظها عليه أو على أي شخص آخر، فهل كان الهدف إسقاط دمشق في الفخ على طراز الإشارات المبهمة التي أطلقتها القائمة بالأعمال الأميركية ابريل غلاسبي للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين عشية غزو الكويت أم انه حدث تغيرٌ في الموقف الأميركي؟ يعتقد السوريون أن المواقف الأميركية الهجومية تجاه سورية تهدف الى زعزعة تدريجية لاستقرار الوضع القائم ومن ثم إحداث تغييرات بنيوية في النظام بصورة تدريجية وبما يتوافق مع المصالح الأميركية ولا يصل الى حد إسقاط هذا النظام وذلك من خلال اتهامات تبدو غير منطقية في بعض الأحيان أو املاءات هدفها فرض التنازلات السياسية التي تضع دمشق في حالة من الإرباك السياسي.

هل ستكون سورية هدفاً عسكرياً أميركياً؟ بالطبع لا، فليس لها ثروة نفطية في أهمية نفط العراق، كما أنها لا تشترك في حدودها مع دول الخليج النفطية، كما ان الاحتلال الاسرائيلي والاحتلال الأميركي يحصنان العراق، وبسقوط بغداد تهيمن الادارة الأميركية على ثلثي نفط العالم، وبالتالي ليس لها مصلحة في إنفاق أموال دافعي الضرائب الأميركيين على دولة هامشية ليس لها فيها مصالح حيوية. وإن غرقت الولايات المتحدة الأميركية في المستنقع العراقي إلا ان ايران ما زالت تتصدر الأولويات السياسية للولايات المتحدة كونها دولة نفطية ذات كثافة سكانية عالية وقوة عسكرية مهمة، لكن الدور السوري يشكل مصدر إزعاج للسياسة الأميركية وحلفاء واشنطن العرب، وليس للإدارة الاميركية استراتيجية لإسقاط النظام في دمشق عسكرياً أو سياسياً في الوقت الراهن، فهذه الادارة ليست في وضع سياسي أو عسكري يسمح لها بذلك، وهناك مبالغة من بعض السياسيين اللبنانيين في الاهتمام الأميركي بالوضع السوري – اللبناني، فلا لبنان ولا سورية يستحقان قطرة دم أميركية على حد تعبير أحد أعضاء الكونغرس الأميركي، ولا تدري واشنطن كيف تتعامل مع نظام جديد في دمشق وهل في مصلحتها تغيير الوضع الراهن ولكنها تريد إضعاف سورية كدولة لأنها تراهن على ان الضغوط على النظام ستؤدي الى عزله وإضعافه وبالتالي إخضاعه لمطالب أميركا من خلال مغازلة بعض أطراف النظام القائم. فانشقاق نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام طرح أكثر من سؤال: هل كان يعد لقلب نظام الحكم مع مجموعة من الحرس القديم وعلى رأسهم اللواء غازي كنعان؟ خدام كان يعتقد بحقه في خلافة الرئيس الراحل حافظ الأسد وأظهر خيبة أمل في الأيام الأولى لتسلم الرئيس بشار الأسد سدة الحكم. وهل هجوم النائب وليد جنبلاط يندرج في إطار حملته لإسقاط نظام دمشق وإدراكه ان الولايات المتحدة معنية بالعراق وان الضغوط الأميركية على سورية من لبنان هدفها الحصول على دعم سوري لحل المعضلة الأميركية في العراق؟
يقول مسؤول الملف السوري في معهد بروكينغز الاميركي حاييم ملقه وهو يهودي أميركي من أصل سوري ان الإدارة الأميركية قامت بمغازلة بعض أقطاب النظام بصورة غير علنية تحسباً لأي تغيير محتمل، ولكن واشنطن تدرك بداية الطريق ولكنها لا تعلم أين ينتهي وهي حذرة بعد التجربة العراقية، لذلك فهي معنية بإحداث ثقوب وفجوات، وان استجابة غريزة البقاء السورية للإملاءات الأميركية ستفقد النظام صدقيته في الشارع السوري. والسؤال هل تغيرت نظرة المحافظين في الإدارة الأميركية الى دمشق على حساب موقف الكونغرس الاميركي الذي يتراوح بين خيار التعاون وإضعاف سورية بهدف ابتزازها سياسياً؟ ومن هذا المنطلق جاءت زيارة الرئيس العراقي جلال الطالباني الى دمشق بدفع من الإدارة الأميركية لجس مدى تعاون سورية مع الخطة الأمنية الأميركية للقضاء على ما تدعوه بالتمرد بعد ان اعترفت دمشق بعد عقود من القطيعة مع النظام البعثي في العراق بنظام حكومة الاحتلال الاميركي برئاسة المالكي في بغداد. والمعضلة الكبرى في نظر الأميركيين ان احتلال العراق وقيام عراق فيدرالي طائفي ضعيف قد أخلاّ بموازين القوى الإقليمية لمصلحة سورية وإيران، وسيزداد الدور الإقليمي السوري في حال انسحاب القوات الأميركية، بما يمنح سورية وزناً إقليمياً ليس بسبب قوة سورية بل بسبب ضعف جيرانها العرب وذلك بصرف النظر عمن يحكم دمشق. فدور العراق الجديد العربي أصبح هامشياً في المنطقة، وبالتالي فسورية الدولة وليس النظام فقط هي هدف أميركي على المدى البعيد حفاظاً على المصالح النفطية من ناحية وتحجيم قدرة سورية على التأثير في الأحداث السياسية في دول الجوار من العراق الممزق الى لبنان غير المستقر والى الأردن الخائف. ان الإدارة الأميركية تريد استهلاك النظام السوري ذاته وتمارس حرباً استفزازية في محاولة لإضعاف سورية. لقد تغيّرت الأولويات السياسية لواشنطن، فهي احتلت العراق لترتيب البيت الشرق أوسطي برمّته وللقول ان لا مفر من الامتثال للطلبات الأميركية. ومع ان رياح الديموقراطية التي تهب على العالم العربي لها مقوماتها الداخلية، إلا ان الإدارة الأميركية تريد تسخيرها لمصالحها الإقليمية شرط ان تأتي بأنصارها حيث تُعفى الدول الصديقة من ممارسة الخطوات الأولى للديموقراطية وينطبق ذلك على الحالة السورية، فقد أصبحت سورية محاطة بحكومات إسلامية وصلت الى السلطة من خلال انتخابات حرة بدءاً من تركيا مروراً بالعراق وفلسطين، لذلك يخشى بعض أقطاب الادارة الاميركية من ان انهيار النظام العلماني في سورية سيؤدي الى وصول إسلاميين متشددين في عدائهم لإسرائيل لا يمكن معرفة اتجاهاتهم السياسية، ولكن يبدو ان الإدارة الأميركية لا تمانع إسلاميين يقبلون بتداول السلطة واللعبة الديموقراطية وليس بالضرورة «الإخوان المسلمون»، أما تلويح دمشق بأن سقوط النظام العلماني السوري في يد إسلاميين فتعتبره واشنطن ضرباً من الابتزاز السياسي ولا يعني بالضرورة حلول إسلاميين متشددين ومشاركة شريحة من الإسلاميين السياسيين المعتدلين في الحكم على النسق التركي إضافة الى عناصر ليبرالية أو بعثية لن يزعج واشنطن.

ان دخول لبنان في مرحلة تجاذب بين سورية والدول الغربية يذكّر بمراحل تاريخية بشعة نجمت عن مرحلة فك العلاقة وربط الجريمة مع دولة وشعب، وإنهاء لبنان كحليف لسورية بهدف عزل سورية عن لبنان وتطويقها من دول الجوار. وبصرف النظر عمن يحكم دمشق وجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن ما يكبل يد الإدارة الأميركية هو خشية إسرائيل من انهيار النظام العربي واحتمال قيام نظام في دمشق يؤمن بالمقاومة كخيار استراتيجي للتحرير، ما سيطلق العنان لمقاومة مسلحة لتحرير الجولان او فلسطين ويسخن الجبهة السورية – الاسرائيلية الهادئة على مدى ما يقرب من ربع قرن، وبالتالي لا يبدو ان الادارة الاميركية حسمت أمرها مع سورية، وإن وصلت الى طريق مسدود.

ان الاحتقان السوري – الأميركي لم يعد يحتمل مرحلة اختبار جديدة، ولا تزال الادارة الاميركية في حيرة من أمرها حول وسائل معالجته، فتفاقم الوضع الامني في العراق وتقارب القوى السياسية الدينية الشيعية مع ايران يثيران بعض المحاذير لدى واشنطن، وعلى رغم التزام سورية بعض المطالب الاميركية في العراق وإغلاق مكاتب الجماعات الفلسطينية المعارضة والمرونة السياسية في التعامل مع العملية السياسية العراقية من خلال الاتفاق على تشديد الحراسة الحدودية والسماح بإجراء حملات الانتخابات العراقية على الأرض السورية، فإن المطالب الاميركية واضحة وتعلمها دمشق، أولها التخلي عن الحلف الاستراتيجي السوري – الإيراني والانخراط مع إسرائيل والدول العربية التي وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل في عملية التطبيع والتحالف في الحرب على الارهاب مع إسرائيل كبديل للصراع العربي – الاسرائيلي. وبقطع العلاقة مع «حزب الله» بل العمل على خنقه، وتكميم أفواه الفلسطينيين الذين يحملون وثائق سورية مع المعارضين للسلطة الفلسطينية ومنع السوريين من التحريض ضد إسرائيل، والتعاون العسكري السوري من خلال مظلة عربية فعالة للقضاء على ما سمي بالتمرد القائم في العراق وملاحقة البعثيين العراقيين والضغط على العشائر فيما سُمي بـ «المثلث السني» وقطع وشائج القربى بين العشائر السنية في سورية ومحافظة الأنبار.

هل هناك صفقة أميركية – سورية؟ بالطبع لا، فدمشق تدرك ان العروض الاميركية ليست سوى عروض تتلاشى مع انتهاء الأحداث وهذا ما حصل لعرض بيكر مندوب الرئيس جورج بوش الأب الى الرئيس الراحل حافظ الأسد عام 1990 عندما ربط مساندة سورية في طرد الاحتلال العراقي للكويت بحل عادل وشامل للنزاع العربي – الاسرائيلي. ويتساءل المسؤولون السوريون: ماذا تريد الادارة الأميركية من سورية، ويعتبرون ان محاولة الرئيس بوش إرسال مزيد من القوات الى العراق لتعزيز موقفه الداخلي إعلان نصر أميركي زائف او الضغط على سورية لقبول الاحتلال الأميركي هو خطأ أميركي استراتيجي لأنه يعزز الاعتقاد السائد بأن الموقف الأميركي ليس له علاقة بالنظام القائم بل هو يستهدف سورية ويقوي المشاعر الشعبية السورية المعادية للولايات المتحدة الاميركية.

نبيل السمان  

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...