الأصولية كما تبدو اليوم... هروب من الواقع أم دفاع عن الهوية؟

04-05-2006

الأصولية كما تبدو اليوم... هروب من الواقع أم دفاع عن الهوية؟

ترتبط فكرة الأصولية في الوقت الراهن في الأذهان, وبخاصة في الغرب, بالإسلام والعالم العربي/ الإسلامي على رغم أن اليهودية والمسيحية والبوذية والهندوكية وكل الأديان الأخرى المعروفة شاهدت قيام جماعات أصولية متطرفة, كما أن دول الغرب الديموقراطية المتقدمة تعاني من ازدياد الأنشطة الدينية والسياسية الموجهة ضد الجماعات والنظم والتنظيمات التي تختلف عنها في التوجهات كما هو الحال بالنسبة الى النازية الجديدة والنزاع الديني في إيرلندا وإحياء بعض النزعات الفاشية سواء في بعض دول جنوب وشرق أوروبا أو أميركا الجنوبية, وكلها حركات واتجاهات ونزعات لا تختلف في توجهها العام عن توجهات ومواقف الجماعات الإسلامية المتطرفة.

وكما تقول كارين آرمسترونغ في كتابها الطريف الذي صدر العام 2000 في عنوان "معارك في سبيل الله: الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام", إن كل الأصوليين لا يشغلــون بالهم بمسألة الديموقراطية أو التعددية أو التسامح الديني أو الإسلام أو حرية التعبير أو الفصل بين الدين والدولة, فهم ينتمون جميعاً إلى نمط واحد يميل إلى الدخول في صراعات مع )أعدائهم) من العلمانيين ولا ينظرون إلى هذا الصراع على أنه نوع من النزاع السياسي بل على أنه حرب كونية بين قوى الخير والشر يستمدون أفكارهم من بعض النظريات القديمة التي تنتمي إلى الماضي ويميلون إلى الانسحاب من واقع الحياة اليومية العادية في المجتمع ويقيمون لأنفسهم ثقافة مغلقة مضادة للثقافة السائدة في المجتمع الذي يعيشون فيه من دون أن يشعروا بالانتماء الحقيقي إليه... كذلك تميل كل الحركات الأصولية إلى الالتجاء إلى العنف كأسلوب ووسيلة لتحقيق أهدافها ويدخل في ذلك القتل والاغتيال وإثارة الفتن والمنازعات الدموية التي قد تصل إلى حد الحرب كما حدث في يوغوسلافيا. وهذا كله معناه أن الأصولية ليست وقفاً على الإسلام أو العالم الإسلامي أو الجماعات الإسلامية المتطرفة وإنما هي ظاهرة تكاد تكون عامة ولم تسلم منها ديانة أو عقيدة أو دولة أو ثقافة على مستوى العالم وخلال كل مراحل التاريخ, ولكن أحداث 11 ايلول (سبتمبر) الفاجعة شجعت على توجيه الأنظار إلى الأصولية الإسلامية تحت دعوى محاربة الإرهاب الإسلامي وما يترتب على ذلك من اتهام الإسلام بالرجعية ومناوأة التقدم ورفض التحديث وضرورة شن الحرب على الدول الإسلامية المارقة مثل أفغانستان ثم العراق (حتى الآن على الأقل) وتغيير بعض العناصر الأساسية المميزة لمقومات الثقافة الإسلامية وهكذا.

ويبدو أن أميركا التي تتزعم الدعوة إلى محاربة الأصولية الإسلامية نسيت أنها عرفت بعض ألوان الأصولية المسيحية منذ القرن التاسع عشر وأنها هي التي صاغت المصطلح الإنكليزي Fundamentalism المرادف لكلمة (أصولية) العربية, واستخدمته للمرة الأولى في الأغلب بالمعنى السائد الآن وكان ذلك في مقال نشر عام 1920 في مجلةWatchman / Examiner وهي مجلة ذات طابع ديني وذلك في معرض الحديث عن اجتماع عقدته إحدى الجماعات الدينية البروتستانتية من أتباع الكنيسة المعمدانية لمناقشة بعض الاتجاهات الداعية إلى التحديث الديني ومعارضة هذه الاتجاهات ورفض الدعاوى العلمانية والدعوة إلى التمسك بالتعاليم والمبادئ والأصول الدينية المتوارثة. فالبداية الأولى لاستخدام المصطلح في مجال الرجوع إلى الأصول الأولى للدين هي بداية أميركية ولكن بعد مرور أكثر من ثمانين سنة تستخدم أميركا المفهوم نفسه لوصم الإسلام كدين يدعو إلى العنف ويقوم على الإرهاب والتعصب وعدم التسامح وكراهية الآخر والرغبة في إبادته وإزالته من الوجود تماماً ولذا حق عليه العقاب.

وعلى رغم ارتفاع أصوات الاحتجاج والاستنكار وضرورة القضاء على الحركات والاتجاهات الأصولية المتطرفة, فالظاهر أن هناك جهات تحرص دائماً على إثارة النعرات الدينية واستغلالها لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية, ولا تتردد في سبيل تنفيذ مخططاتها من افتعال أحداث ومواقف تؤدي بالضرورة إلى الصدام والقتال دفاعاً عن الدين ومبادئه. فقد حدث على سبيل المثال في ايلول (سبتمبر) عام 2001 (أيضاً) ولكن في الهند أن أشاع بعض المغرضين أثناء أحد الاحتفالات الدينية السنوية الكبرى أن جماعة من المسلمين اختطفوا عدداً من الفتيات لإجبارهن على اعتناق الإسلام فتحولت ساحات الاحتفال في الحال إلى ساحات حرب وقتال بين الهندوس والمسلمين وراح ضحيتها أعداد كبيرة من الجانبين, بل إن هذه الإشاعات وصلت إلى بريطانيا في الوقت نفسه فحدثت مصادمات مماثلة بين المقيمين هناك من الفريقين قبل أن تتضح حقيقة الخبر الكاذب. ويكشف ذلك عن مدى تغلغل الشك والريبة بل والكراهية المتبادلة الناجمة عن اختلاف العقيدة الدينية والاستعداد النفسي لقبول كل ما يسيء إلى الآخر وسرعة التصدي له من أجل المحافظة على الذات والقيم وتوكيد الهوية الدينية. وتبدى الموقف نفسه وإن لم يصل إلى حد العنف الدموي في سرعة تقبل وهياج الرأي العام ووسائل الإعلام في فرنسا منذ وقت قريب لادعاء إحدى السيدات الفرنسيات في باريس عن مهاجمة بعض (المسلمين) من شمال أفريقيا لها ولطفلتها الصغيرة وذلك قبل أن تظهر الحقيقة عن كذب الادعاء.

وللمجتمع الإنساني الحق في أن يشعر بالقلق والانزعاج والتوتر من ازدياد نشاط الجماعات الأصولية والتجائها إلى العنف كوسيلة للتعبير عن رأيها والاحتجاج والتمرد على الأوضاع السيئة التي تعاني منها الشعوب التي تنتمي إليها تلك الجماعات. فمن شأن العنف إثارة القلاقل والاضطرابات وعدم الاستقرار فضلاً عن الضحايا البشرية والخسائر المادية الفادحة ولكن من التعسف النظر إلى أي دين وبخاصة الأديان السماوية والأديان العالمية الكبرى كالبوذية والكنفوشية على أنه يدعو إلى العنف ويحض على الكراهية وإنما هناك في اغلب الأحوال أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية قاهرة سواء على المستوى الوطني والقومي أو على المستوى الدولي يشعر الناس إزاءها من ناحية بالعجز عن قبولها والتجاوب معها وعدم القدرة في الوقت ذاته على تغييرها فلا يجدون أمامهم سوى الالتجاء إلى الدين كمهرب وملاذ يحتمون به من ضراوة الواقع المؤلم المحيط بهم, أو قد يشعرون على العكس من ذلك بأن في تعاليم دينهم ومثلهم العليا ما يدعوهم ويدفعهم إلى رفض ذلك الواقع المؤلم والتمرد عليه وتغييره بأيديهم إذا لزم الأمر للدفاع عن كيانهم وإنسانيتهم وإثبات وجودهم وتوكيد ذاتيتهم وهويتهم ضد القوى المعادية التي تريد طمس هذه الهوية. وهذا ما يبرر التجاء الجماعات الأصولية إلى العنف والإرهاب مع الاعتراف بضرورة رفض النتائج المفجعة والمأسوية بطبيعة الحال حيث تكون الضحايا في الأغلب من الأبرياء.

فالحركات الأصولية هي في آخر الأمر شكل من أشكال التعبير عن الهوية الاجتماعية حين تتهاوى الأبعاد الاجتماعية والثقافية الأخرى التي تعطي معنى للوجود الإنساني, سواء اتخذ هذا التعبير الشكل السلبي المتمثل في الانسحاب من حياة المجتمع والتقوقع على الذات, أو شكل الاحتجاج الإيجابي والتمرد على الأوضاع المناوئة ومحاولة تغييرها أو حتى القضاء عليها تماماً بكل الطرق التي قد تصل إلى حد العمل على إبادة الآخر وإزالته من الوجود كلية لضمان بقاء الذات. ولعل هذا هو بعض ما تشعر به الجماعات الإسلامية المتطرفة في موقفها الرافض للغرب بل وما قد تشعر به أية جماعة أصولية أخرى في تعاملها مع الأوضاع والظروف والتنظيمات والقوى المناوئة التي تضع قيوداً على حق الحياة الكريمة لأعضاء هذه الجماعات والمجتمعات أو الدول التي تنتمي إليها.

فثمة علاقة قوية إذاً بين الاتجاهات والحركات الأصولية وبين متطلبات الهوية والإحساس بالذات إزاء قوى القهر والتحكم الداخلي وفرض الهيمنة من الخارج, وبخاصة إذا كانت تهدف إلى محو وإزالة المقومات الأساسية لثقافة المجتمع المغلوب على أمره. ومن هنا كان ازدياد نشاط الأصوليين بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على شؤون العالم في شكل عام, ثم (في ما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي) تحيزها الواضح ومساندتها الفاضحة لإسرائيل وعجز الدول والنظم العربية والإسلامية عن المواجهة والتصدي. فللأصولية إذاً جذور عميقة في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي القومي والدولي, أي أنها (مشكلة) اجتماعية اكثر منها دينية أو لاهوتية, ومعالجتها أو التخفيف على الأقل من حدتها وعنفها يتطلب معرفة وفهم الأسباب التي أدت إلى ظهورها وإزالة هذه الأسباب والاعتراف بحق الجميع في الحياة الكريمة المستقلة المستقرة ومن دون ذلك سوف تزداد الأمور سوءاً ولن تفلح أية قوى عسكرية في القضاء على تلك التنظيمات التي تستمد قوتها ليس فقط من الدين كما يعتقد الكثيرون ولكن أيضاً من حب البقاء والاستمرار في الوجود وتوكيد الذات.

 

نصر حامد أبو زيد

المصدر : الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...