الحروب وتراجع الفجيعة: من النكبة إلى سوريا المتشظية

02-11-2016

الحروب وتراجع الفجيعة: من النكبة إلى سوريا المتشظية

عرف العرب في تاريخهم المعاصر حروباً متفاوتة زمنياً ومختلفة من حيث العوامل الداخلية والإقليمية والدولية. بدأت هذه الحروب بالنكبة 1948 واستقرت راهناً عند الفواجع الدموية التي تشهدها أكثر من دولة عربية، منذ انحراف «الربيع العربي» عن مساره المدني. وإذ تتبدى سوريا كأخطر كارثة حضارية في القرن الحادي والعشرين، تتلاشى أهوالها وفظائعها، ويمكن للمراقب أن يلاحظ انحدار وقع الفجيعة في الوعي الجمعي العربي، مقارنة بحروب أخرى خيضت ضد العرب وقضاياهم القومية، لا سيما النكسة بوصفها حدثاً تأسيسياً في الزمن الحديث، ترك تداعيات كبرى ما زالت ماثلة أمامنا. لقد تفاعل المواطن العربي مع ملاحم الاقتتال الجارية اليوم في الإقليم ببرود إنساني، يكاد يلغي هول المآسي. تختلط صور الضحايا والدمار الهائل للمدن بسوق العولمة وتعميم الصورة وانتشارها عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي والمواكبة السريعة للأحداث الأليمة، ما ينذر بتراجع الفجيعة لمصلحة الحدث، ويشي باللامبالاة العامة إزاء الكوارث الرهيبة.
زعزعت هزيمة حزيران 1967 ـ التي تُعد استكمالاً للعدوان الثلاثي 1956 ـ العالم العربي برمته، وطبعت ندوباً عميقة في الوعي الجمعي العربي، فبدت كأنها طريق النهايات، وكرّست بداية ضمور المشروع الناصري والقومي لمصلحة أحزاب يسارية مأزومة وإسلام سياسي عنفي خاض حربه ضد العدو الداخلي، تحت مسميّات الحاكمية وجاهلية العالم وتكفير المجتمع والدولة. خلّفت «النكسة» جرحاً عميقاً لدى الجمهور والنخب، وأحدثت منعطفاً وفرصة للتعبير النقدي لدى الحركات الطلابية وفي الآداب السياسية والثقافة والفنون، فنُشر كتاب المفكر السوري صادق جلال العظم «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، وفي المسرح ظهرت مسرحية «النار والزيتون» لألفرد فرج التي جعلها رمزاً للمقاومة الفلسطينية وكفاحها، و «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» لسعد الله ونوس. وفي الشعر، كتب أمل دنقل «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة». وبرغم الانتصار في حرب أكتوبر أو حرب تشرين التحريرية 1973، استمرت تراكمات «النكسة» في النفس العربية ولم تجفّ جروحها، ما يدل على عدم القطيعة معها؛ فالمعنى الرمزي بقي قابضاً كأنه عصي على التجاوز والنسيان. بعد «النكسة» وفي إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي شهد العرب اجتياح إسرائيل للبنان 1982 والعدوان الصهيوني عليه عامي 1996 و2006 والحروب الإسرائيلية على قطاع غزة 2008 ـ 2012 ـ 2014.
كان وقع حرب الخليج الأولى (1980 ـ 1988) والثانية 1991 أقل وطأة على وعي الجمهور العربي. جاءت حرب الخليج الثالثة بفعل الغزو الأميركي للعراق 2003 لتشكل انعطافة خطرة تحمل تناقضات ودلالات سلبية كشفتها المواقف المؤيدة والمتخاذلة لبعض النخب وبعض الدول وبعض الإعلام العربي، إزاء سقوط العراق بما يمثله من ثقل سياسي، وبما يحويه تاريخه من أعرق الحضارات البشرية. هنا يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: إلى أي حد كرست ثقافة الهزيمة النهج الإذعاني نحو الغزو الخارجي الآتي من الغرب؟ يلاحظ المؤرخ الألماني Wolfgang Schivelbusch في كتابه The Culture of Defeat: On National Trauma, Mourning, and Recovery (ثقافة الهزيمة: حول الصدمة الوطنية، الحداد، والتعافي) أن المجتمعات المهزومة تهاجم أطرافاً ثالثة لم تكن مسؤولة عن الهزيمة.
إن تراجع وقع فجيعة الحروب في الوعي الجمعي العربي يمكن أن يُرى بشكل أقوى مع تاريخ سقوط بغداد، إذا جاز ذلك. تأرجح تعامل الدول العربية ووسائل الإعلام مع الحروب الأخرى، بدءاً بالعدوان الإسرائيلي على لبنان 2006 وحروب غزة، بين متضامن ومتخاذل. إن الحجم الكبير للخسائر البشرية والمادية، لم يحل دون أن يحتل التحليل السياسي موقع الصدارة مقابل «نسيان الضحايا». في مقالة «حتى لا يصبح الفلسطيني مجرماً... حتى لا تصبح غزة معتقلاً» (في: أزمة المسلم الأخير ونهاية التدين، منشورات الجمل، 2016) يقدم المفكر التونسي العادل خضر الخلاصة التالية ـ تعليقاً على العدوان الإسرائيلي على غزة العام 2009 ـ: «إن جمهور المتفرجين من مستهلكي الصور والواردة عليهم عبر شاشات التلفزة أو مواقع الإنترنت المختلفة أو الصحف بأنواعها لم يكونوا أيام الحرب على عين المكان، لا في العراق ولا في لبنان ولا في غزة الآن. كانت الحرب آنذاك (لبنان 2006) وحتى اليوم في غزة قد انقلبت إلى مجرد صور تتفسّخ في أرجاء الأرض بواسطة الأقمار الصناعية. وعندما تصبح الحرب صورة، أو صورة صادمة، أو مشهداً أُخرج بإتقان وحرفية، أو عرضاً تلفزياً مبرمجاً، فإن الكارثة تنقلب إلى فرجة. ومعلوم أن الكارثة ليست فرجة لأنها تقتضي حضوراً كاملاً مطلقاً في قلب الحدث. ولأجل ذلك لم تكن الحرب مجرد صور تُرى بالعين وإنما رائحة تُشم، رائحة الموت والجثث والأجساد المحترقة والنيران. وعندما لا نشم هذه الرائحة، فإن كارثة الحرب تفقد الكثير من واقعيتها الرهيبة وفظاعتها التي لا تُطاق وبشاعتها التي لا تُحتمل».
في الملحمة السورية المستمرة منذ العام 2011 تبدو صور الضحايا شبه غائبة ليس على مستوى النشر في وسائل الإعلام والميديا الجديدة، وإنما على مستوى نفي إنسانية الضحايا، فيتم النظر إليهم كأشخاص في سوق التداول، وليس كبشر تعرضوا إلى العنف المفرط غير المفهوم. ثمة رغبة مضمرة في إلغاء الصفة الإنسانية بدل إعادة الأنسنة التي تتجلى باحترام الضحية؛ إن القتل نفسه شطبها من سجل الحياة. طرح الفيلسوف وعالِم الاجتماع الفرنسي جان بودريار Jean Baudrillard (١٩٢٩ ـ 2007) مفهوم «اختفاء الواقع» ونشوء مفهوم «فوق الواقع» في معرض أبحاثه وتحليله للظاهرة الإعلامية، والاتصال التقني، وأثر ذلك في إعادة صوغ الواقع باتجاه إلغائه». واعتبر بودريار أن العالم أصبح مجرد صورة نقلاً عن صورة نقلاً عن صورة، وأصبح العالم مجموعة من عمليات الاصطناع والصور بلا صلة أو علاقة مرجعية مع أصل محدد في الواقع، بل تكون هذه المصطنعات (الصور) هي المهيمنة والواقع محجوب (مختفٍ). وهكذا ضاع مبدأ الواقع في متاهة المصطنعات (الصور) اللامتناهية، المتخيلة والوهمية التي تروجها الميديا. وبذلك يفقد الواقع وجوده ويصبح تلك النسخ المصطنعة رقمياً عبر أجهزة الكمبيوتر. وعليه فإننا نعيش الآن في عالم «فوق ـ الواقع» هو العالم التكنولوجي الافتراضي» (راجع: جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008).
يعكس التعاطي الافتراضي ـ السلبي وأحياناً التحريضي ـ مع المأساة السورية من قبل المواظبين على الميديا الجديدة خصوصاً بعض الفئات الشبابية، التخلي عن هول الحرب والدمار والموت لمصلحة الاستهلاك والتبادل، فتصبح الصورة هي الهدف وليس «الإنسان المقتول» أو «البيوت والمدن المدمرة»، وبذلك يضمر زخم الفجيعة لمصلحة الترويج الرقمي. الأخطر أن كثيرين اعتادوا مشاهد العنف مهما كانت قاسية، ما يطرح مشكلة أخرى يعود لعلم الاجتماع وعلم النفس فهم وقائعها وأسبابها ونتائجها. لكن الفجيعة السورية ـ وكذلك الفجيعتين العراقية واليمنية ـ لم تفقد كارثيتها في العالم الرقمي فقط، وإنما أيضاً في الوعي العربي، لأسباب عدة، أبرزها الصراع الدولي والإقليمي على سوريا المتشظية وعلى هويتها والانقسام العربي حيال الأزمة/الكارثة، وكل ذلك وغيره أثَّر في جمهور المتفرجين.
حين تفقد الشعوب المهزومة إحساسها بواقعية الأحداث الأليمة، يشي ذلك بحالة الاستلاب العام والاغتراب عن الواقع وغياب التضامن الإنساني والعاطفي والقومي. صحيح أن المواطن العربي مشغول بخبزه وأمنه ومقهور بماضيه ومستقبله، لكن ذلك لا يلغي أهمية وعيه وقع الفجيعة المخنوقة.

ريتا فرج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...