تحرير الموصل: بداية التخلّص من الفكر «الداعشي»

11-11-2016

تحرير الموصل: بداية التخلّص من الفكر «الداعشي»

وضع تنظيم «داعش» منذ احتلاله مدينة الموصل في 9/6/2014 استراتيجية إعلامية وأخرى تربوية بهدف تجييش الأهالي وجذب الشباب إلى صفوفه وتعبئتهم وفقاً لأيديولوجيته، معتمداً على وسائل إعلامه المختلفة، المرئية والمسموعة والمقروءة منها، فضلاً عن «الإنترنت». تستند أيديولوجية التنظيم منذ تأسيسها على يد الزرقاوي مروراً بأبي عمر البغدادي وصولاً إلى أبو بكر البغدادي، على آراء الشيخ أبو عبد الله المهاجر في «فقه الدماء»، وتنظيرات أبي بكر ناجي في «إدارة التوحّش»، مع الإشارة إلى اعتماده على مجموعة من المنظرين الآخرين أبرزهم أبو همام الأثري وأبو عبيدة الشنقيطي وأبو الحسن الأزدي.
لقد مضى أكثر من سنة على قيام تنظيم «داعش» بطباعة مناهجه التربوية الخاصة، إذّ عمد إلى تغيير المواد الدراسية بشكل شامل في المدارس الابتدائية وصولاً إلى المعاهد والجامعات. وقد نقل شهود من الموصل أنّ «داعش» كرّس مادتي الجغرافيا والتاريخ لتاريخ ما يُسمّى «بالدولة الإسلامية»، وأقرّ مادة جديدة لمرحلتي الرابع والخامس الابتدائي، مطلقاً عليها «التربية الجهادية»، لزرع أفكاره في عقول الطلبة منذ صغرهم. فما هي أهم مضامين مادة التربية الجهادية التي يحرص التنظيم على تنشئة أجيال الموصل على أساسها؟

التربية في ميادين القتال
 يكرّس كاتب «إدارة التوحّش» فصلاً مستقلاً لقضية التربية، وذلك تحت عنوان «إتقان التربية والتعلم أثناء الحركة كما كان العصر الأول». يستذكر ناجي المراحل العصيبة التي مرّ بها «الجهاديون» في أفغانستان بفعل الضربات، فتضاءل عددهم أحياناً إلى ثلاثين شخصاً فقط، ثم تعاظم عددهم «من خلال جرّ الشعب إلى المعركة وتجييشه»، وذلك عبر «التربية التي لا تكون مكتملة إلا إذا تمّت خلال المعركة، فمن خلال جو المعركة سيتأهلون بل ويتفوقون على أساتذتهم» (أبو بكر ناجي، «إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمرّ بها الأمة»، ص 62). يستشهد الكاتب بقول لعبد الله عزام يصف فيه التطور الذي شهده التدريب العسكري أثناء الحرب الأفغانية: «لقد كان البون شاسعاً بين تلك الأيام التي كان يرسم فيها المهندس حبيب الرحمن الشهيد - الأمين العام للحركة - الكلاشنكوف على الأوراق ثم يشرحه في أعماق الغرف الظلماء للذين يربّيهم على حبّ الجهاد، وبين هذه الأيام التي يلعب فيها الأطفال بالقاذف الصاروخي (آر.بي.جي.) الذي يحطّم الدبابة (ص 62). يحضّ أبو بكر ناجي على تضمين مادة التربية الجهادية لكتابات سيد قطب «في ظلال القرآن»، لا سيما تفسير آيات الابتلاء وآيات الغزوات، خاصة «الأحزاب»، فضلاً عن مؤلفات عبد الله عزام وكتابات الشيخ محمد أمين المصري، «سبيل الدعوة الإسلامية» و «من هدي سورة الأنفال». ويستشهد أبو بكر ناجي بشكل أساسي بالكتاب الأخير، خاصة فقرة «التربية عملية ميدانية». وبالعودة إلى هذا الكتاب نجد المصري يقول «إنّ ساعة في مثل هذه المواقف «المعارك» تعادل عشرات السنين ومئات السنين في مواقف أخرى لا يطلّ فيها شبح الموت ولا يخيّم سلطانه» («من هدي سورة الأنفال»، الشيخ محمد أمين المصري، ص 63).
التربية الجهادية بنظر أبي بكر ناجي، «ملهم داعش»، هي مصنع للقادة الجدد وللأجيال الجديدة: «إنّ تخريج الأجيال الجديدة وانتخاب قادة الحركة الجهادية هو الهدف النهائي للعملية التربوية»، وهذا «النوع من التربية هو الذي سيخرّج الجيل القادر على حمل أمانة هذا الدين وينقل الأمة للالتحاق بدرب الجهاد، وهو الذي سيخرج من خلاله القادة الحقيقيون للأمة، وذلك لأن الكلام على المنبر سهل. أما أن يُهدَم البيت وتُشرّد الأسرة وتُمزّق الأم والأخت إلى أشلاء، فذلك لا يقدر عليه إلا الأفذاذ من الرجال، والقيادات العظيمة والجنود الأشداء لا يخرجون إلا من مثل هذا الجو» («إدارة التوحش»، ص 58).

الأطفال: من غسل الأدمغة إلى التدرّب على القتل
 يعتمد تنظيم «داعش» أسلوباً لتدريب المنتمين الجدد إليه ويُعدّهم لتقبّل القيام بأعمال القتل والذبح التي ينوي إيكالها إليهم. يُخضع التنظيم عناصره لفترات تدريبية قد تصل إلى سنة كاملة، وإلى عملية تصنيف وتحكّم بالمعارف. لا يقتصر التدريب على الأعمال الحربية بل يتعدّاها إلى التهيئة النفسية من قبل مدربين مختصين، يتكفلون بإزالة أيّ رواسب فكرية علمانية أو مغايرة للقراءة السلفية للدين. يصوّر التنظيم للمنتسبين إليه حديثاً أنّ الأعمال الوحشية، كالذبح وقطع الرؤوس والسحل والصلب وبتر الأعضاء، على أنّها تجسيد للأحكام الإسلامية بصيغتها الأصلية.
كثيرة هي التقارير التي تحدّثت عن تزايد عدد المراهقين الذين يُجبرهم «داعش» على الانخراط في صفوفه ويُخضعهم لتدريبات قاسية في معسكراته في محيط مدينة الموصل. إن حصول عملية غسل الأدمغة هذه أكدتها مجموعة من الشخصيات والجهات المطّلعة. ففي 16 آذار 2016 كشفت النائب عن التحالف الكردستاني في العراق فيان دخيل عن «احتجاز 1000 طفل أيزيدي في معسكرات تدريبية لدى «داعش»، وتمّ إجبارهم على تغيير ديانتهم وحمل السلاح واستخدامهم كدروع بشرية أو من أجل تنفيذ عمليات انتحارية». في 8 آذار2016 قام التنظيم باستخدام الأطفال الايزيديين المختطفين لإعدام 20 شخصاً من أهالي الموصل في شوارع المدينة، وذلك بتهمة التخابر مع الجهات الأمنية. عمليات الإعدام هذه نفذها أطفال تتراوح أعمارهم بين 10و 15 سنة بهدف التأثير عليهم نفسياً وتعويدهم على القتل وإراقة الدماء.

مهمة إعادة التأهيل النفسي والتربوي
 سنتان من التربية العملية على جبهات القتال في مدينة الموصل وأريافها، وعشر سنوات من غسل الأدمغة في معسكرات التدريب، ومن مشاهدة الإعدامات في شوارع المدينة، فضلاً عن الكمّ الهائل من الأحاديث والمصنفات السمعية والبصرية والخطب والدروس التي تحضّ على التكفير والذبح. سنتان من العيش في السجن الكبير، ألا تكفيان لاحتلال عقول جيل كامل من الناشئة؟ هنا تبدو عملية تحرير الأفكار أكثر صعوبة بمرات من التحرير العسكري، لأنّ أفكار العنف والتكفير غير مرئية، تبقى كامنة لتظهر بعد سنوات وربما عقود.
إزاء ما تقدّم، يمكن الخلوص إلى أنّ إعادة التأهيل النفسي والتربوي والاجتماعي وحتى الديني للمجتمع الموصلي وخاصة لجيل الشباب منه، تشكّل تحدّياً كبيراً للدولة العراقية وللدول التي تدّعي محاربة الإرهاب وأيضاً للمنظمات الدولية. فالمهمة كبيرة جداً في مدينة كبيرة تتّسم بالتنوّع الطائفي والديني، عانت خلال السنوات الماضية عملية تدمير ممنهجة لهويتها الثقافية والدينية الغنية، حيث تحدثت منظمة اليونسكو عن «تطهير ثقافي» غير مسبوق.
إنّ تحرير الموصل عسكرياً لن يكتمل إلا بتحريرها فكرياً وثقافياً من دعاية «التوحّش» الغريبة عن تاريخها، وذلك يتطلّب أيضاً جيشاً من الاختصاصيين والمدربين النفسيين والاجتماعيين وطواقم تربوية متخصصة تعمل وفقاً لخطة شاملة ومحكمة وموضوعية تحترم خصوصية هذه المدينة، «المختبر» للتعايش والتنوع الثقافي والديني في المشرق. إن أي تهاون أو إهمال لهذه المشكلة يعني تأمين بيئة مثالية لتفريخ المزيد من الأفكار والتنظيمات والكوادر الأكثر عنفاً وتوحشاً من «داعش» وأشباهه.

علي مزيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...