الشرق إن هجره مسيحيوه!

29-11-2016

الشرق إن هجره مسيحيوه!

يشيع في الأوساط الشعبية السورية همسٌ، يتكرّر مع كلّ حربٍ ويعاد تداوله في ظلّ كلّ قتال. يقول الهامسون «إنّ انتماءَ المسيحيين للشرق، الّذي وجدوا فيه أولاً وأصلاً، بات شبه ميْت، فهؤلاء يسارعون إلى الارتماءِ في الحضن الأوروبيّ الدّافئ كلّما صُفع رجلٌ في بلادهم».
ظاهريّاً، في الكلامِ وجه حقّ. المسيحيّون يهاجرون وينزحون ويعوفون البلاد إلى غير رجعة. يلوّحون للشّرق من الطّائرات الّتي تحطّ في مطاراتِ ما وراء المحيط. هناك، يذوب المسيحيّ في مجتمعٍ جديد، ويصير «مواطناً تامّاً» يعيش في حدود ما له وما عليه، يتزوّج وينجبُ ويمنح أولاده أسماءً مألوفةً أوروبياً. حينها، يصيرُ الوطن، بسواده قبل بياضه، صنفاً من صنوفِ النوستالجيا، واسماً في قاموسِ الحنين.
المسيحيّون السّوريّون يهاجرون. هذي حقيقة. هم يجفّون ويتقاطرون راحلين في تواترٍ قد يُفضي، ما لم يتمّ كبحه، إلى تلاشيهم وجعلهم مكوناً يُؤتى على ذكره مثلَ ضيفٍ مرّ. قبل ألفٍ وأربعمئة عام، كان هؤلاء، التوّاقون اليومَ إلى الهجرة، أصحابَ الأرضِ وسوريّيها الأوائل. أحفادُ الكنعانيين والعمّوريّين واليونانيين والبيزنطيين والرومان، تعاقبت على سوريّتهم أعراقٌ وأقوامٌ عدّة، وظلّوا يلتوون مع الرّيح لئلّا تكسرهم. في الشّرق، يقبض الدّين على مفاصل الحياة كلّها. مجزرةٌ واحدةٌ، يتمّ إقناع ضحاياها بأنّه قد جرى استهدافهم بحجّة لونهم الطائفيّ أو العرقيّ، تبدو كفيلةً في تحريضهم على الثّأر أولاً، وعلى الرحيل نحوَ أرضٍ فيها أكثريّة من «لونهم» تالياً. هذا عن ارتدادات فعلِ قتلٍ ضيّق، أمّا مسيّحيّو سوريا، الّذين لا زالوا يجترّون بشاعات 1860 في يوميّاتهم، فهم يملكونَ ألفَ سببٍ مضافٍ للهجرة، الأمر الّذي يستوجبُ البحث عن ألفِ طريقةٍ مضافةٍ لوقفها.
توطئة تاريخية
 حين خرج ابراهيم باشا من سوريا، تأجّج الخلاف بين مريديه من الموارنة ومعارضيه من الدّروز، وأخذ الصّراع، في مراحله الأولى، شكل مناوشاتٍ بدأت سنة 1841، ثمّ تنامى لينفجر على شكلِ حربٍ سوداء عام 1860.
طالت المجازر، الّتي استهدفت المسيحيين، قرى دير القمر وجزّين وراشيّا وحاصبيّا، وحين سقطت زحلة، توسّع تحالف الطوائف ضد الحضور المسيحيّ، ووصلت الفتنة إلى مشارف صيدا.
مسيحيّو دمشق راقبوا سقوط زحلة، الّتي اعتبرت معقلهم الأخير في سوريا، بتوجس ثبت، لاحقاً، أنّه مبرّر.
بسبب القتال الّذي طال قراهم في ريف دمشق، هرب مسيحيّوه إلى قلب المدينة وتكتّلوا في «الحيّ المسيحيّ» الكائن خلف السّور القديم. سكون ما قبل العاصفة استمرّ حتّى 9 تمّوز (تختلفُ الروايات لجهة توثيق ما جرى في ذلك اليوم) حيث بدأت المذبحة، الّتي راح ضحيّتها، بحسب موروثاتٍ غير توثيقية، ما بين 5000 و11000 مسيحيّ، وأفضت، بحسب الموروثات ذاتها، إلى خفضِ تعداد مسيحيّي دمشق من 30000 إلى بضعةِ آلافٍ شكّلوا أقليّة خجولةً على مستوى المدينة.
عن الأسباب الرئيسة للهجرة
 إضافةً إلى ارتدادات مجازر 1860، هناك عوامل عدّة تجعل بعضَ المسيحيين السوريين يردّدون، في دوائر مغلقة، عبارة «هي البلد ما عادت إلنا». يتطلّع هؤلاء إلى ماضيهم البعيد، يومَ كانوا هم أهل الدّار، يتذكّرون بمرارةٍ القيودَ الّتي فُرضت عليهم منذ دخل العرب بلادهم، حيث مُحيت لُغاتهم وقُيّدت حريّاتهم وأجبروا على دفع الجزية. تالياً، تأقلم المسيحيّون مع المكوّنات الجديدة كلّها، والحديث عن «التعايش» في دمشق ليسَ حاصلَ خطابٍ سلطويّ كما يظنّ أغلبنا، فالمسلمون «الميادنة»، أبناء حي الميدان، ومعهم رجالات الأمير عبد القادر الجزائري، هم من حموا كلّ المسيحيين الناجين من مجازر 1860.
عام 1949 دخلت البلادُ زمنَ الانقلابات، ولمّا وصلَ «البعثُ» إلى السّلطة، جرى التعامل بحزمٍ شديد مع كلّ غمزٍ طائفيّ. صار الحديث عن «نحنُ وأنتم» تهمةً تقود صاحبها إلى سجنٍ مديد. الوعيد الأمنيّ نحّى الألسنة الطائفيّة، لكنّه تعامى عن البواطن، وما إن بدأت الأزمة في آذار 2011 حتّى عادَ الحقنُ الديني يؤتي ثماره السوداء. ظهورُ تنظيم «داعش» شكّل القشّة الّتي قصمت ظهر البعير بالنّسبة لمسيحيي سوريا الّذين تشرّبوا موروثاً من الرّعب وشهدوا جملة دلالاتٍ أشعرت بعضهم أنّ في محيطهم الضّيق من يملك ميلاً أصولياً، ومثل هذا المكوّن لن يتردّد في تصفيتهم حين يتحقّق الفلتان الأمنيّ اللازم لذلك، الأمر الّذي يشرح واحداً من أسباب تمسّك أغلب المسيحيين السوريين بشكل الدولة ومؤسّساتها، ويفسّر تحلّقهم حول منظومةٍ حاكمةٍ ساوتهم، في مفاصل عدّة، بعموم المكوّنات السورية الأخرى وأمّنت لهم، كما بعضِ الأنظمة السّابقة الّتي أسقطتها الانقلابات، حريّة في ممارسة شعائرهم وإحياء طقوسهم الدينية. هكذا، يصير النظام الحاليّ، على مساوئه، أفضلَ من فوضى قد توصل حاكمين أصوليين إلى كرسيّ السلطة.
حين نقول إنّ المسيحيين، ومسيحيي بلاد الشام على وجه الدقّة، والتعميم هنا يتنضوي على استثناءاتٍ لا ننكرها، هم أقربُ المكوّنات الشرق أوسطيّة إلى «مدنيّة عصريّة»، قد يُستفزّ البعض الّذي يعتبر أنّ في الأمر تلميعاً لوجه لونٍ سوريّ معين على حسابِ آخر. الأمر هنا لا يتعلّق بأمزجةٍ ووجهات نظرٍ شخصيّة. كلّ عقيدة تنفصل عن الدولة وتعتزل السّياسة، على غرار الانحسار الّذي طال سلطة الكنيسة في أوروبا منذ صدور الدستور المدني للإكليروس عام 1789، يصيرُ أتباعها أكثر قرباً من القوننة الّتي لا تُلغي أو تنتقص حقوق أيّ «آخر» لموجباتٍ طائفيّة أو عرقية، الأمر الّذي يشرح «تسهيلَ» الدول الغربية لسفر المسيحيين. فهؤلاء سريعو الاندماج في المجتمعات المنفتحة، أقلّ تصلباً بأصوليات العقيدة، ولا أحد منهم يرغب في تفجيرِ نفسه وسطَ تجمع «للكفّار». بعضُ الكنائس، داخل سوريا، تُسهّل هجرة العائلات المسيحية الراغبة بترك البلاد إلى غير رجعة. كندا وأستراليا استقبلتا نسبة لا بأس بها من هؤلاء المهاجرين. السّويد تجيء تالياً، ومعها بقيةٌ من دول أوروبا.
حربٌ أخرى في سوريا، أو في لبنان، قد تكون كافيةً لإفراغ المنطقة من مسيحيّتها الباقية. ربّما يرى البعضُ أنّ في هذا الاستشرافِ مبالغةً غير لازمة، لكنّ هذا الشّرق إن هجره مسيحيّوه لن يبقى له إلّا القتال المذهبيّ وما تخلّفه حروبُ مكوّناته من نارٍ ورماد.

رامي كوسا

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...