«للكلمة، للإنسانية، للحياة».. الثقافة السورية وزرقاء اليمامة!

06-12-2016

«للكلمة، للإنسانية، للحياة».. الثقافة السورية وزرقاء اليمامة!

«أُبصر عاصفةً رهيبةً تتقدم. والناس طفل وحيد في العراء، ليس هناك من يحميه وليس هناك ملاذ يلجأ إليه، والعاصفة الرهيبة تزمجر وتتقدم. أبصرهم يتذابحون، كلهم يتلاومون ويتذابحون، لا يميزون قرابةً أو جيرة، ولا يعرفون كيف يحددون المخطئ من المصيب. قُتِل من قُتِل وهاجر من هاجر .إني أُبصر وليت النور ينطفئ في عينيّ و لا أبصر ما أبصر. أبصرت ابني يقتل ابني. وأنا مشلولة لا أستطيع أن أتدخل أو أتحرك». نبوءة كتبها سعد الله ونوس على لسان زرقاء اليمامة في مسرحيته «ملحمة السراب» واستعادها المخرج مأمون الخطيب في احتفالية «للكلمة للإنسانية للحياة» (دار الأوبرا)
المونولوغ الفجائعي الذي اختاره الخطيب للإطلالة على الحرب السورية وظّفه أيضاً في يوم الاحتفال بعيد «وزارة الثقافة» التي تأسست عام 1960 أيام الوحدة مع مصر، وقتها كانت هذه المؤسسة الرسمية تعرف بصفتها «وزارة الثقافة والإرشاد القومي» كدلالة على سياسة ثقافية واضحة، انتهجتها كاستراتيجية في خطابها عبر طباعة الكتاب القومي، والمسرح القومي، والسينما التقدمية التي أسسها مخرجون عادوا إلى البلاد بعد ابتعاثهم في معاهد الاتحاد السوفياتي السابق للدراسة هناك.
نسخة ماوية
 كان كل شيء وقتذاك يشي بأن الثقافة خرجت من براءتها الأولى، ومن مسارحها الشعبية وأنديتها الأهلية المغلقة على شللها وصالوناتها السرية، ومراسم فنانيها الفطريين، نحو ما يشبه ثورة ماوية بنسخة سورية، يقودها مثقفون يساريو التطلع من أمثال نجاح العطار وحنا مينة وأنطون مقدسي وأديب اللجمي وفواز الساجر وصلاح دهني، وصلحي الوادي، ونزيه أبو عفش، وسواهم.
اليوم، تعود وزارة الثقافة للاحتفاء بذكرى تأسيسها وقد حذفت من اسمها عبارة «الإرشاد القومي» محتفية بعنوان احتفاليتها «للكلمة، للإنسانية، للحياة» ومع أن العرض البصري اقترب من صفته الكرنفالية، لم يحذف من حسابه تراث عشرات الفنانين والكتاب والأدباء الذين ساهموا في تصدير مفاهيم ضد الرجعية الدينية منذ ستينيات القرن الفائت، حيث حضرت صور من أفلام نبيل المالح ومحمد ملص وأسامة محمد وعبد اللطيف عبد الحميد، جنباً إلى جنب مع صور أسعد فضة وشريف شاكر ونهاد قلعي ودريد لحام ومصطفى العقاد.
في التشكيل سنرى بانوراما مؤثرة قام بتوليفها ومنتجتها كل من فراس محمد وحازم بخاري عن فاتح المدرس ولؤي كيالي ومروان قصاب باشي ونذير نبعة وناظم الجعفري، إلى جانب كل من أدونيس ونزار قباني وعمر أبو ريشة وغادة السمان ومحمد الماغوط وبدوي الجبل وكوليت خوري وإلفت الإدلبي، وطبعاً خالد الأسعد عالم الآثار الذي قضى ذبحاً على يد تنظيم داعش في آب 2015. أسماء وأسماء مرت على الشاشة التي توسطت المسرح الكبير في دار الأوبرا، تاركةً للسينوغرافيا التي صممها نزار بلال والإضاءة ريم محمد مساحة «لأوركسترا دمشق» بقيادة الفنان عاصم مكارم، إذ قدّم هو الآخر أداءً استثنائياً في صياغة وتوزيع الجمل الجديدة لكل من أفراد فرقته.
المسرح الشامل
 الحشد الموسيقي جاء بمصاحبة كل من المغنيات ميادة بسيليس وليندا بيطار وميس حرب وبشرى محفوض وإيناس لطوف، واللاتي قدمن بدورهن أغنيات وتراتيل سريانية، مستحضرات أغنية أبي خليل القباني «يا طيرة طيري يا حمامة» وصولاً إلى «وحبيبي أي حالٍ أنتَ فيه؟» اللحظة التي دخلت فيها الممثلة رنا جمول بثوبها الشبحي الأبيض مؤديةً مونولوغ «اليمامة» حيث عمد مخرج العرض إلى المزاوجة بين عدة مستويات على الخشبة، مقترباً من أسلوب المسرح الشامل بمرافقة من راقصي وراقصات فرقة (جلنار) التي ظهرت هنا من المشاهد الأولى كراوٍ حركي ـ بصري شكّل صلة وصل بين الشاشة والخشبة بإدارة الكريوغراف علي حمدان، مستعيراً هو الآخر من الفيلم الوثائقي «نوافذ الروح» لمخرجه الليث حجو، معرفاً بمواقع أثرية من مثل أوغاريت وإيبلا وماري وتدمر.
بدت الاحتفالية أقرب إلى الاستعراض الموسيقي الراقص حيث رافقها معرض للكتاب في بهو الأوبرا ومعرض آخر لمتحف سينمائي وعزف إفرادي وجماعي لمقطوعات من الموسيقى الكلاسيكية، لتكون هذه الفعالية متداخلة من حيث سردها الجسدي ـ البصري لقصة بلاد تحتفي بثقافة الحياة في مواجهة طيور العتمة التي جسدها الراقصون في اللوحة الأولى، ليؤدي كل من الممثلين عامر علي وروجينا رحمون وروبين عيسى مقاطع مزجت هي الأخرى بين الزجل والنشيد: (بتعرف بلد جبلو صمد، ما بيركع إلا لواحد أحد، بس طيور العتمة غارت ع بلاد الشمس..الخ). رثائية لم تلبث أن خرجت من حناجر هؤلاء حتى داخلها الرقص الشعبي والتعبيري في مقاربة لجوهر الصراع بين ثقافتي التفكير والتكفير، وعبر ثنائيات متصاعدة من الأداء الجماعي واكبته الفرقة الموسيقية مقطوعةً إثر مقطوعة، وكلمة إثر كلمة، جعلت تردُّ على السيارة المفخخة بالقصائد، وعلى طلقة القناص بفيلم سينمائي، وعلى القذيفة بمسرحية.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...