«حفلة سمر من أجل 5 حزيران» لسعد الله ونّوس: ذروة الغضب

07-03-2017

«حفلة سمر من أجل 5 حزيران» لسعد الله ونّوس: ذروة الغضب

من البديهيّ أن أي استذكار لهزيمة الخامس من حزيران - وهذا العام هو عام ذكرى مرور نصف قرن عليها -، لا يمكنه أن يمضي من دون العودة الى واحد من مبدعين العرب الذين كانوا أقوى وأصلب من عبّروا عنها وعن ارتباطها بالمجتمع العربي. ونعرف طبعاً أن كثراً من الفنانين والمفكرين العرب قد كتبوا وأبدعوا نصوصاً فاضحة وغاضبة، نصوصاً تحلّل وأخرى تبرر، وأعمالاً تحاول ان تمسك الحبل من طرفين. ومع هذا كان الغضب، وصولاً أحياناً الى حدود جلد الذات، العملة الرائجة لدى الغالبية من أولئك الذين كانوا الأكثر جذرية في شجبهم للسلبية التي سيطرت على مجتمعات عربية يحكمها الطغاة ومن لفّ لفّهم، فيما الخرفان تذعن لمشيئة الراعي معتقدة أنه سيقودها الى درب الخلاص، فإذا به يقودها الى الهاوية، الى تلك الهزيمة/الكارثة التي من الواضح ان الشعوب العربية لا تزال تدفع ثمنها حتى اليوم. زكان سعد الله ونوس من بين مبدعي الصف الأول في تلك الغالبية الغاضبة، في عدد لا بأس به من أعماله، ولكن بخاصة بمسرحيته الأشهر «حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران» التي ظهرت بعد فترة يسيرة من حلول الكارثة فاستقبلت عند تقديمها كما عند نشرها باعتبارها نوعاً من الردّ على ضخامة الكارثة يقدمه الإبداع... ولكن نظرة الإبداع ايضاً الى دوره هو الآخر في تراكم العفن الذي أدى الى ما حصل.

> وإذا كانت الناقدة خالدة سعيد كتبت على صفحات «الحياة» عن هذه المسرحية قبل عشر سنوات، لمناسبة استذكار أربعينية الهزيمة رابطة إياها بها، فإنها أشارت الى أن ما تقدمه المسرحية من مضمون «جديد» يقوم على الاحتجاج والتعليقات في صفوف المشاهدين «على التدخلات المختلفة من قبل شخصيات تمثل فئات الشعب» وذلك على مجموعة كبيرة من «مشاريع حكايات لا يكتمل أي منها لأن حكاية تالية تأتي تقاطعها وتسقطها، حيث يستمر هذا على مدى 24 حكاية أو مشروع حكاية، علماً أن أياً من الحكايات لا يأتي ليلقي الضوء على تلك الحرب». والحقيقة أن قوة هذه المسرحية وفاعليتها، إن كان لنا أن نتحدث عن فاعلية، تكمن في ما يوحي به العنوان أولاً، ثم في غياب الحرب عن متن المسرحية، وبعد ذلك في تدخل المشاهدين إعتراضاً أو ضجراً أو غضباً. وهذا كله أعطى عمل ونّوس - البيرانديللي الى حد ما دون إعلان ذلك -، قوة تعبيرية ودلالية، وقفت في التعارض مع الفاعلية المباشرة والتعليمية التي حملتها أعمال كثيرة أخرى اتت لتتناول الهزيمة نفسها. فكانت النتيجة أن ارتاح القراء والمتفرجون لفنّ «ينطق باسمهم» و «يناضل عنهم»، فيما أقلقهم فنّ ونّوس الذي لم يقدم حلولاً بل غضباً يُفترض به أن يحرك الأفكار وبالتالي الوعي، لدى المجتمعات المعنية بالهزيمة. من هنا، لا تزال «حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران» حية وفاعلة حتى اليوم بعدما نُسي أدب وإبداع كثيرين أعلنا بدورهما غضباً من الهزيمة. ومن المؤكد أن هذا تحديداً ما جعل من ونّوس كاتباً كبيراً وغاضباً حقيقياً، جعل أدبه المرحيّ التجديدي، صراخاً ضد البلادة والموت.

> في السياق نفسه لا بد من القول إن حكاية صراع ونّوس الطويل مع المرض ومع الموت بالتالي، واحدة من أكثر حكايات الأدب العربي الحديث إثارة وقوة. وسيبقى رد فعله ازاء مرضه - الذي قضى عليه في نهاية الأمر - واحداً من التحديات البشرية الأكثر دلالة على إرادة الفنان وعلاقته بالحياة، بالموت، بذاته وبالآخرين. مهما يكن فإن سعد الله ونّوس، الذي انتهت حياته بعد ثلاثين عاماً من الهزيمة، عرف كيف ينظم موته، هو الذي أبداً لم يعرف كيف ينظم حياته، وعرف كيف يستعد له طويلاً وكيف يستقبل يوم النهاية، وكأنه استمرار لحفل السمر الذي أقامه ذات يوم، من أجل الخامس من حزيران، ذلك الحفل الذي حملت اسمه تلك المسرحية التي اعتبرت بداية ردّ فن المسرح على هزيمة 1967، ولا تزال تعتبر حتى اليوم واحدة من أبرز المسرحيات العربية التي كتبت خلال نصف القرن الأخير.

> لكن سعد الله ونّوس لم يكن، كما كان لكثر أن يتوقعوا له في بداياته، كاتب مسرحية واحدة، على غرار معظم الكتّاب العرب الذين برزوا خلال تلك المرحلة نفسها، بل كان كاتباً غزيراً ممنهج الانتاج يعرف كيف يجعل من النصوص التي يكتبها ليس فقط مرآة رؤيته للعالم وللواقع منظوراً اليهما بقسط كبير من الغضب والتمرد، بل كذلك تعبيراً عن جيل بأسره وعن حالة غضب عامة. من هنا كانت مكانة سعد الله ونّوس الأساسية في تاريخ المسرح والأدب العربي الحديث.

> «أنا من قرية ساحلية شمال طرطوس هي حصين البحر، على مسافة عشرة كيلومترات منها، قضيت فيها الدراسة الإبتدائية، ثم انتقلت الى مدينة طرطوس حيث أكملت المرحلتين المتوسطة والثانوية (...) كان البحر يمتزج بالحنين الداخلي العميق نحو المجهول، نحو السفر ونحو الكبر. للبحر متع يومية ولكن، كيف تفصل الجسدي عن الوجداني وعن الحلم؟ حتى الآن لا أعرف ما هو البحر سوى أنه مسألة كبيرة». هذا ما كتبه سعد الله ونّوس في نص تناول فيه سيرته. وسيرة ونّوس، خارج إطار كتاباته المسرحية ومساهمته الأساسية في حالة الغضب العربي التي تلت هزيمة الخامس من حزيران، سيرة بسيطة، يكاد نصف سنواتها أن يحوي ذلك الصراع الطويل والأسطوري مع المرض.

> ولد سعد الله ونّوس، إذاً، في «حصين البحر» في الشمال الغربي لسورية، في 1941. وهو كان في التاسعة عشرة من عمره حين توجّه الى القاهرة ملتحقاً بجامعتها، حيث نال ليسانس الآداب - قسم الصحافة، غير أنه لم يكتفِ من التحصيل العلمي بذلك، إذ إنه، ما أن حاز على تخرجه من جامعة القاهرة، وفي الوقت الذي بدأ يمارس الكتابة، تحول الى باريس حيث نال من جامعة السوربون دبلوم الدراسات المسرحية، مقيماً في العاصمة الفرنسية لتلك الغاية بين 1966 و1968.

> خلال الستينات، وقبل أن تنطلق شهرته ككاتب مسرحي مع مسرحيته «حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران»، التي نشرت للمرة الأولى في 1968، مارس ونّوس العمل الصحافي، محرراً في مجلة «المعرفة» التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية، ثم ترأس تحرير مجلة «أسامة» للأطفال، وانتقل بعدها الى بيروت حيث ساهم في صحافتها الثقافية، لكنه، مع اندلاع الحرب اللبنانية، عاد الى دمشق، ليتولى ادراة المسرح التجريبي التابع للدولة، وليتولى في الوقت نفسه، رئاسة تحرير مجلة «الحياة المسرحية».

> والى تلك الفترة تعود بداية علاقته مع المرض الذي ظل يرافقه عقدين من الزمن حتى قضى عليه في النهاية. وخلال فترة مرضه زار سعد الله ونّوس، للاستشفاء وأحياناً لمجرد الهرب من واقعه، بلداناً أوروبية عدة وأقام فترة في فرنسا وفترة في ألمانيا الشرقية. وهو طوال تلك السنوات لم يتوقف عن الكتابة منطلقاً مما قاله هو نفسه ذات يوم من أنه بمقدار ما تأثر بتيارات مسرحية عالمية «بمقدار ما اكتشفت انني لن أستطيع الوصول الى كتابتي الخاصة، إلا اذا استطعت نقد هذه التيارات. الموقف النقدي هنا يعني بلورة رؤيا خاصة عن مسرح فاعل في مجتمع محدد وزمان محدد». والحقيقة أن كلمة «فعّال» هي الكلمة التي تنطبق أكثر ما تنطبق على مسرح سعد الله ونّوس، حتى وان كان معنى الكلمة قد تغيّر بالنسبة اليه على مرّ الزمن، إذ بعد «أن كان المسرح الفعال يعني القادر على تغيير المجتمع (...) صار طموح الكاتب الآن ان يستطيع مسرحه هز المجتمع وإثارة التساؤلات».

> مهما يكن فإن معظم ما كتبه سعد الله ونّوس كان للمسرح وحوله، منذ نصوص «حكايا جوقة التمثيل» (1965) حتى «رحلة حنظلة من الغفلة الى اليقظة» (1990). أما مسرحياته الأخرى والتي قُدّمت حتى الآن على معظم المسارح العربية، فتشمل «مأساة بائع الدبس الفقير» (1978)، «فصد الدم» (1978)، «الفيل يا ملك الزمان»، «مغامرة رأس المملوك جابر»، «سهرة مع أبي خليل القباني» (1973)، «الملك هو الملك» (1977) و «الاغتصاب» (1990) وغيرها.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...