كان اسمها سوريا

14-03-2017

كان اسمها سوريا

غسان الشامي: قبل أن يأتي الأمبراطور الروماني سبتيموس ساويروس زوج الحمصية جوليا دومنا ويقسّمها بين 195 و198 للميلاد إلى ولايتين وقبل أن يعيد تعديل خارطتها الامبراطور ديوكليسيانوس عام 295 .
كان اسمها سوريا وتقسيماتها :
1- سوريا الأولى وعاصمتها أنطاكية، درة تاج المشرق وتتبع لها حلب وسوريا الفراتية /أفراتيسيا / ثم الأوسروين( الرها)
2- سوريا الثانية ( secunda) أو الطيبة أو المجوفة أو شيلي سيريا ( coele syria) وعاصمتها غالباً أفاميا وأحيانا إيميسيا (حمص)
3- سوريا الفينيقية ( أو فينيقيا اللبنانية) (ليفانيسيا) وعاصمتها دمشق، فينيقيا الساحلية وعاصمتها صور ، كما قسمت فلسطين فيما بعد 363 م إلى ثلاثة ، أما إقليم العربية أو الحورانية (أورينتس) فقد كانت عاصمتاه البتراء وبصرى الشام..ومجموع هذه السوريات خلال العصر الروماني كان اسمه (syria magna) أو سوريا الكبرى...
بدأتُ بهذا لأصل إلى القول أن تعبيرا مثل سوريا الكبرى، الذي عدّه البعض تهمة، دفعت لشطب حزب سياسي قبل 60 عاما، ما هو إلا تعبير تاريخي جيوسياسي اجتماعي منذ قرابة ألفي عام .
والأمر الثاني أن (العربية) إقليم في سوريا ،وهي تختلف عن شبه جزيرة العرب، وموقعه بين بترا وبصرى، أو ما سمي في ذلك الوقت (الذيكا بوليس) أو المدن العشر، أما الحضور العربي في هذه (السيريا ماغنا) - إن بقي هناك من يتحسس من سوريا الكبرى- فقد تم عبر زمان طويل ،لا مجال له هنا ، فيما يؤكد لنا المسعودي في كتابه الأشراف والتنبيه العائد للقرن العاشر الميلادي أن الرومان كانوا يطلقون على عرب شبه الجزيرة ساراكينوس (السراقنة) أي عبيد سارة ـ طعناً بهاجر وابنها إسماعيل، أما "العربية" فهي ما ورد سابقاً.
ما هم، لقد جاءت قبائل كثيرة من شبه جزيرة العرب إلى سوريا والعراق خلال العصر الروماني حتى أنه نجد قرب الخابور (بيت عربايا)، كدليل على غلبتهم الديمغرافية، وفيما كان السريان وما يزالون لا يقولون (عرباً) بل (طايويو) عن القبائل الضاربة قربهم في الجزيرة العليا نسبة إلى قبيلة( طي) التي اعتنقت المسيحية ثم الإسلام ، أما دولة الأنباط التي يقول مؤرخون أنها عربية، وظهرت عمليا في القرن الرابع قبل الميلاد فكانت تكتب بالآرامية والدليل رسالتهم للملك السلوقي أنتيغونس (312 -280) ق م، بعد أن أخفق ابنه مرتين في إخضاعهم "ليس من الحكمة أن يعلن اليونان حربا على شعب لا يملك ماء أو خمرا أو حَبّاً، وهذا كما يقول الأستاذ إحسان عباس دليل "صحراويتهم"، وفيما بعد تطور خطهم من الآرامية إلى لغة وليدة منها، وأما تسمية ملوكهم بالحارث فهي الترجمة الحقيقية لجورجو، مار جاورجيوس (الخضر) ، القديس الأكثر شعبية في المشرق، قاتل التنين، بينما تظهر مملكة تدمر ، التي يشير البعض إلى عربيتها، في النقوش الآشورية منذ غرة القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وهي كلمة آرامية تعني (الأعجوبة)، وتنتشر التسمية في العهد الكنعاني (ق11 ق.م) وتعود قبائلها إلى الآراميين الذين امتزجوا بقبائل أتت من جزيرة العرب، والأسرة الحاكمة خلال عهد زنوبيا تعود إلى أصول عربية بعد أن استقر العرب الناطقون بالآرامية فيها منذ وقت طويل فظهر عن الخط الآرامي آخر جديد دعي التدمري، واللهجة التدمرية لهجة آرامية صرف، وهذا يستدعي الكلام عن سيادة الآرامية ألفا وستمائة عام قبل الفتح الإسلامي لتسود بعده العربية ببطء وتدريجاً ، وممالك الآراميين انتشرت من الجزيرة العليا إلى حلب وحماه ولبنان ودمشق، وتعد لغتهم التي احتلت العالم القديم ووصلت إلى فارس والهند وريثة شرعية للأبجدية الكنعانية مع التذكير بأهمية آرام دمشق وقيادتها لتحالف الممالك الآرامية.
من جهة أخرى كان نزوع الكثير من القبائل في شبه جزيرة العرب الارتحال إلى بلاد الشام والعراق، مثل كندة وغسان فيما كانت تغلب تنتشر في الشام والعراق وكان شفيعها القديس سرجيوس في الرصافة (سرجيو بوليس)، وهو قائد فيلق سوري من مسكنة، وبالعربية هو سراج وبالآشورية سرجون، وقد تحوّلت تنوخ وقضاعة وكلب وبكر ولخم وجذام وغيرها إلى المسيحية مثل غسّان الآتية من اليمن، ويذكر لنا التاريخ المسيحي قبائل رحل مسيحية لها أساقفة يسمّون "أساقفة الوبر".
كان الفتح الإسلامي عاملاً هاماً في دخول مفهوم التعريب على المنطقة المشرقية، حيث عُربت الدواوين والنقود في وقت متأخر وحصلت الترجمات بعدما صارت دمشق وبغداد عاصمتي الدولتين.
ما سبق يؤكد أن مركز الحضور الحضاري للمنطقة شعَّ في عاصمتين..دمشق وبغداد،وأن الفتح الإسلامي للمشرق تم بيسر وسهولة كما تورد لنا السِيَر في فتح الشام والعراق، لا بل قال المؤرخ السرياني غريغوريوس ابن العبري إن "الله أرسل أبناء عمومتنا أولاد إسماعيل ليخلصنا من جور البيزنطيين"، ولذلك فتح منصور ابن سرجون دمشق لابن الوليد، وقدّم البطريرك صفرونيوس مفتاح القدس لابن الخطاب..وصارت منطقة المشرق، المركز المديني والزمني منذ خلافة علي بن أبي طالب ، فيما كان الحج الروحي إلى مكة حيث ولد النبي محمد وظهرت دعوته.
منذ ألفي عام وهو تاريخ طويل لتكوين الجينات كانت هناك ثقافتان روحيتان عمّتا المنطقة، المسيحية والإسلام، في غنىً متداخل ومذهل ابتداء من المجتمع إلى فن العمارة والتبدّيات الأنتروبولوجية في الطعام وعادات الدفن التي تعود إلى ما قبلهما، لكن هذه المنطقة كانت عرضة للأسلمة الغريبة ، للتغريب لا للتعريب فمنذ الربع الأول من الدولة العباسية بات أهلها الأساسيون جميعاً خاضعين للعنصر الغريب فانهمر التتار والمماليك والسلاجقة والترك، وبحجة درب الحج توَّطنها كثر أيضاً، حتى انزياح العثماني الذي قضى على بذور التمدن لا بل كاد يقضي على اللغة، حيث تركنا ونحن نَعمَهُ في أميّة مرعبة، ولا غرو أن المتنورين من مسيحيي هذه البلاد ومسلميها رفعوا راية العروبة رداً على التتريك الممنهج وطالبوا بالدين لله والوطن للجميع، لكنهم ما أن وصلوا لكشح التركي بقَلبَقِه وطربوشه حتى جاء البريطانيون بحكام من شبه جزيرة العرب، وأتى الفرنسي والانكليزي والايطالي ثم الأمريكي فأعادوا صياغة مجتمعاتنا حسب خريطة التهويد الطائفي، كرمى ليهودية اصطنعت في بؤرة المنطقة، وعندما تُركنا لم يبق من الدولة الوطنية إلاّ الجيش، وجامعة سميت زوراً عربية، لأنها صنيعة بريطانية بحت، أساءت للفكرة العربية أكثر مما أفادتها وكانت مخصية في مجمل أزمات البلدان العربية، والغريب كيف لم يتم دفنها حتى الآن وكأنها جثة مرمية بالتراضي.
لم تقدّم الأحزاب القومية بعد مرور وقت على تأسيسها سوى استمرار التكرار وتحولها إلى أحزاب روتينية ، فمن استلم منها السلطة استسلم فكريا واجتماعيا إلى أَسِرّة الإغفاء على أمجاد ماضوية ووصل التكرار الشعاراتي حداَ لا يطاق، فيما ميكانيزمات الحُكم والعلاقة مع المجتمع خضعت للمنطوق السلطوي،لا بل اختلفت من بلد إلى آخر حدّ القطيعة والاحتراب، بينما ذهبت الأحزاب التي بقيت خارج السلطات إلى انشقاقاتها وطاحونة أولويات البيضة والدجاجة...
الموضوع ليس سياسيا بل فكري أصلاً ،..لأن التغيير وصناعة المستقبل لا تتم إلاّ عبر المعرفة وتوّسل العلم ومنجزاته، وعلينا الاعتراف أننا منذ 400 عام منقطعون عن الانجاز العلمي إلى المماحكات (الدِينوسياسية)، فيما أنجزت أمم أخرى فروضها وذهبت إلى ما بعد الحداثة ونحن نقتتل على المذاهب والملل والنحل، وما نلبسه ونستعمله ونصوغه، بما فيه الفكر القومي مبني أصلاً على منجزات العقل المعرفي الغربي .
لقد ركنا التنوير وتحديثه خلفنا، وابتعدنا عن البرامج العلمية وعن التخطيط وغرقنا في الخطابة والشعر والمبالغة، وسأورد لكم ما قاله ساطع الحصري في كتابه( العروبة أولا ) "كل البرامج العملية تنحصر بالدعوة إلى الإيمان بالأمة الواحدة لأنه متى عم الإيمان ورسخ انبثقت الخطط والمشاريع العملية" وكأن الأمة دين ليكون إيماناً فقط، نافياً أو مزوَّراً عن كونها واقع اجتماعي يحتاج إلى عمل وخطط.
وفي الشعارات صدّقنا المبالغة الغنائية..ومن لا يذكر الترداد حتى الملل لـِ "يا مية مليون عربي بطل ما بيعرفوش معنى الوجل..رصوا الصفوف".
طبعا ما شاف العدو شيئاً،إلاّ فيما ندر، بل ذقنا الخسارات وتمزقت الصفوف لأننا اتكأنا على هدهدة الأغاني ولم نسعَ إلى وحدة المجتمعات والبيئات الأولى، والأًَولى لنعيد جمع بيئات العالم العربي، فهل تتساوى علمياً وعملياً على أجندة الوحدة أولوية وحدة لبنان مع سورية مع وحدة لبنان مع جيبوتي؟..هل نذهب إلى وحدة أم إلى اتحاد..وما هو مثلاً بعد الضم والفرز في أفق الحياة، المكسب من اتحاد الجمهوريات العربية الهمايوني العاطفي، أوليست وحدة البيئات بين بعضها أَولى وأولوية لأنها في تشابه وتقارب وتراحم وهي أربع، وأن جمع أكثر عشرين دولة يحتاج إلى مقاربة أخرى؟!.
لقد جاءت الأزمة السورية لتضعنا أمام الحقيقة العارية والأسئلة الصعبة والأولى..كيف يخرج الفكر القومي العربي من عنق زجاجة الأنظمة والأحزاب إلى الناس؟،وكيف سيقبل به الجيل الشاب؟وما هي المشاريع والمقاربات التي سيقبل بها الجيل الجديد، وهل ما يزال بعد هجوم الأعراب المتأسلمين صالحاً وكيف يمكن زجه في المعاصرة؟..
إننا نحتاج لقراءة متأنية لهذا الأمر، فالقضايا القومية رغم فكريتها تحتاج إلى تَقميش يلمح وجدان الناس ويقدم لهم ضوءاً في آخر النفق، وهي في الوقت عينه مصلحة، مصلحة مادية ونفسية أيضاَ،يجب أن يقتنع بجدواها المواطنون والمتواطنون، وهي علم يعتمد المنجزات الحديثة لعلم الاجتماع والتاريخ وأبحاث الأركيولوجيا ، ولا يتَمَسمر عند الترديد الببغائي للنص الأول،..ولنتذكر أننا رددنا لنصف قرن شعار عدم الانحياز، فطلع الكون كله منحازا!!!
لا شيء يتم من دون إعادة النظر بالتعليم وكتابة التاريخ الصحيح، لا ليَّ عنقه لمصلحة الأيديولوجيا، ما يعني مثلاً إعطاء أبولودورس الدمشقي ويوحنا الدمشقي وصفرونيوس الدمشقي ما أُعطي لخالد بن الوليد ولسيرة ابن هشام، وإعطاء نبوخذ نصر وبر حدد وجبلة ما أعطي لمعاوية والرشيد وصلاح الدين الأيوبي..فتراثنا واحد لا تراثات ولا استنسابية فيه.
إن العروبة ليست عروبة عاطفية فهذه وَهْم، بل العروبة الحقة يجب أن نبنيها كعروبة حقيقية قائمة على الاتكاء على الإنجاز العلمي السابق ليكون لنا مكان لاحقاً، عروبة حقيقة بشعارات أقل ، واقعية لا خيالية، وبخطوات مدروسة تبني على المشترك الحقيقي انطلاقا من البيئات الأربع، المشرق (بلاد الشام والرافدين)_ لمن لا يزالون يتحسسون من سوريا الكبرى_، وادي النيل، شبه جزيرة العرب، المغرب العربي..تضم جميع مكوناتها الدينية والأتنية مع احترام خصوصياتها التي تتكامل مع المجموع عبر مسيرة التاريخ إلى الأمام.
لا شعور قوميأً تخالطه الميتافيزيقيا، أما الدين فهو لتشريف الحياة وفي بناء الدول يجب أن نذهب لجعله مشرّفاً في العبادة لا منغمساً في السياسة، وإذا تنطّح قائل بأن الإسلام دين ودولة، فالرد أنه دين جاء هدى للعالمين أما الدولة فشأن حقوقي سياسي ولدت بشكلها الحالي مع الرومان، ويمكن للدولة الواحدة أن تضم عدة ديانات، والديانات تضم عدة مذاهب، وأن الدول الدينية في التاريخ المسيحي والإسلامي معروفة جداً بما ترتب عنها من ويلات.، ولا قوميات بعشائرية ثقافية بل بمواطنة ومساواة ، وبدساتير وديمقراطيات منسوجة من واقع الأمم البحت..
في المحصلة، لا يُحكم المستقبل بالماضي، فالماضي مصطبة للذهاب إلى المستقبل، أما الأحزاب التي تعضّمت وتشرنقت فدونها لتتعلم، أحزاب في العالم انطلقت حديثاً وكسبت الناس والحكم من خلال مشاريع للمستقبل.
هل سنبقى بلاد الهُويات القلقة والمقلقة، بلاد ما قبل التكوين الجمعي المشترك ؟..أي مستقبل سنتركه لأبنائنا، هذا يتوقف علينا، هل سيشتموننا؟..
أتوقع ذلك إن لم نقدّم لهم ملامح طريق تخرجهم من ظلام الظلامين وعقول السواد الأعرابي الأشد كفراً ونفاقاً...
أنهي بسؤال شخصي، لماذا لم نجد في كل هذا التاريخ أهل مدينة أو قرية في بلاد الشام والعراق يرتحلون إلى شبة جزيرة العرب..وهل يمكن لأحدكم أن يفعلها، بينما كل هذا التاريخ يخبرنا بمن أتوا منها ليصبحوا منّا..ألا يحق السؤال؟
أما لو ابتدعنا (السيريا ماغنا) لما كنا الآن نتخبط في هذا الواقع المرير..

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...