عن الماركسيّة والدّين : أكثر من أفيون..

18-03-2017

عن الماركسيّة والدّين : أكثر من أفيون..

تقديم
نشر هذا المقال بالانكليزيّة تحت عنوان (More than opium: Marxism and religion) ضمن فصليّة “الاشتراكيّة الدّوليّة” (International Socialism) في عددها رقم 119 صيف العام 2008، وهي بقلم جون مولينو (John Molyneux) المناضل ذي التوجّه التّروتسكي والقيادي البارز في حزب العمّال الاشتراكي (Socialist Workers Party) في بريطانيا والمحاضر الأوّل في الدّراسات التّاريخية والنّظريّة في كلّية الفنّ والتّصميم والإعلام بجامعة بورتسموث (University of Portsmouth)، وهو من أبرز مناصري القضيّة الفلسطينيّة في بلاده ومناهضي الحرب على العراق. وقد ارتأينا تقديم مقاله هذا للقارئ العربيّ بعد أن رأينا فيه محاولة نظنّها غير مسبوقة لتفسير ظاهرة جديدة ما زالت تثير الاستغراب تتمثّل في التّقارب “الغريب” الذي بتنا نلحظه منذ بضع سنوات بين بعض الحركات الماركسيّة وحركات الإسلام السّياسي رغم “الحروب” المتبادلة بين هذين التيّارين والعداوة الشّرسة التي تنضح بها أدبيّاتهما طوال النّصف الثّاني من القرن الماضي. ولعلّ أهمّ ما يجلب الانتباه في هذا المقال هو دفاعه عن المهاجرين المسلمين في الغرب ونقد ما بات يسمّى “خُواف الإسلام” (الإسلاموفوبيا) الذي يراه صاحب المقال إفرازا طبيعيّا لتناقضات الامبرياليّة الغربيّة في خضمّ ما تعانيه من مصاعب مع بداية القرن الواحد والعشرين. ومع أنّ هذا المقال لا يخلو من نقاط ضعف تتمثّل بالخصوص في نكهته الإيديولوجيّة الصّارخة، حتّى لا نقول الفجّة أحيانا، فإنّ ذلك لا يمنع النّظر إليه بكونه معبّرا عن وجهة نظر مهمّة لشريحة لا تني تتعاظم في صفوف اليسار عموما والماركسي منه على وجه الخصوص في التّأكيد على احترام “حقّ التديّن” بوصفه غير متناف مع انخراط المتديّنين في النّضال من أجل مجتمع اشتراكيّ عموما، ومن هنا نقد الخطاب “المتهافت” لبعض “المرتدّين” عن الماركسيّة والمنقلبين إلى “يسار منافح عن الامبرياليّة” والدّاعين إلى “الإلحاد” على أساس من “فتوحات العلم الحديث” خدمة للمصالح الماديّة للرّأسماليّة العالميّة. كما أنّه لا يخلو من أهميّة أيضا في محاولته تحليل ظاهرة بعينها بصفة خاصّة، وهي ظاهرة محيّرة بعدّة مقاييس، ألا وهي الموقف “المستجدّ” من موضوعة الدّين، والسّعي إلى إيجاد مبرّرات له من خلال إعادة قراءة النّصوص المؤسّسة لماركس وانغلز ولينين بعين جديدة تُوائم بين ما يمكن وصفه بـ”النّظريّة العلميّة الخالدة” و”الموقف السّياسي الآني” الذي تفرضه موازين القوى على أرض الواقع.

****
قبل عشرين عاما، قدّمت مداخلة في اجتماع عامّ لحزب العمّال الاشتراكي حول موضوع “الماركسيّة والدّين“. وقد بدأت كلامي حينها بعبارة: “ولحسن الحظّ، فإنّ الدّين اليوم، في بريطانيا العظمى، لا يمثّل قضيّة سياسيّة هامّة“. لكن الحال الآن تغيّرت للأسف. فقد غدا الدّين، أو بالأحرى دين معيّن، وهو الإسلام، في قلب النّقاش السّياسي العامّ.


إنّه لا يمرّ يوم دون ظهور مقال يدقّ ناقوس الخطر بشأن الأئمّة الذين “يحضّون على الكراهيّة” أو حول سقوط مسجد في أيدي “متطرفّين“، أو بخصوص استطلاع للرّأي حول الطّبيعة المعيبة بشكل عميق للإسلام، أو مناقشة إذاعيّة لمسألة ما إذا كان المسلمون “المعتدلون” يبذلون ما يكفي من جهود لمكافحة “المتطرفين” وحماية الشّباب المسلم من الانسياق نحو “التطرّف“، أو برنامج تلفزيوني مخصّص لمحنة المرأة المسلمة، أو حكاية يقفّ لها شعر الرّأس حول حماقة ترتكب باسم الإسلام في مكان ما من العالم. وخلال إعدادي لكتابة هذا المقال، عثرت على هذا الخبر في صحيفة الاندبندنت أون صنداي (Independent on Sunday):


حذّر أسقف روتشستر يوم أمس من أنّ التطرّف الإسلامي في بريطانيا يخلق مجتمعات (محظورة) على غير المسلمين(…) وقال: إنّ غير المسلمين يواجهون بعداء في الأماكن التي تسودها إيديولوجيا المتطرّفين الاسلاميّين“.


ودون التثبّت من صحّة هذا الخبر الواضح السّخف، أو مدى دقّة هذا الادّعاء، فإنّ التدفّق المستمرّ لهذا النّوع من التّعليقات حوّل الإسلام إلى دين مُحاصَر. بل وخلق هذا العرض المستمرّ للإسلام بوصفه مشكلة إلى جانب شيطنة المسلمين، ظاهرة تستحقّ بحقّ تسميتها خواف الإسلام (إسلاموفوبيا Islamophobia).

وبالنّسبة لقرّاء هذه المجلّة، فإنّ السّبب في ذلك واضح تمام الوضوح، فهو لا يمكنه أن يكون متعلّقا بتعبير المسيحيّين عن عداء دفين تجاه الإسلام يعود إلى أيّام الحروب الصّليبيّة أو زمن الصّراع مع الدّولة العثمانيّة (رغم توظيف هذه الأفكار الرّجعيّة أحيانا على المستوى الإيديولوجي)، بل هو يعود بالأحرى بالأساس إلى كون معظم النّاس الذين يعيشون فوق أكبر احتياطيّات من النّفط والغاز الطّبيعي مسلمون. كما يعود أيضا، بشكل ثانوّي، إلى ارتداء مقاومة هذه الشّعوب للامبرياليّة في قسم كبير منها، منذ قيام الثّورة الإيرانيّة عام 1979، رداء الإسلام. فلو كان النّاس الذين يعيشون في الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى بوذيّين، أو لو وجدت في التّيبت حقول نفط مماثلة لتلك التي في المملكة السّعوديّة أو العراق، لكنّا اليوم نواجه ازدهار “خُواف البوذيّة” (Buddhophobia). وعندها، سيتطوّر انطلاقا من البيت الابيض والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة، ومن داونينغ ستريت [مقرّ مكاتب رئيس وزراء المملكة المتّحدة – م]، مرورا بشبكات الصّرف الصحّي لشبكتي فوكس نيوز (Fox News) وسي إن إن (CNN) وصحيفتي الصنّ (Sun ) والدّيلي ميل (Daily Mail)، فكرة أنّ البوذيّة، رغم كونها بلا شكّ دينا عظيما، تتضمّن عيبا خطيرا ملازما لها.

كما سيتمّ حينها تعبئة بعض “المفكّرين” أمثال صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington) وكريستوفر هيتشنز (Christopher Hitchens) ومارتن أميس (Martin Amis) لبيان أنّ البوذيّة، رغم ما مارسته من سحر على منتسبي حركة الهيبي السذّج في الستّينات، هي دين رجعيّ في الأساس يتّسم برفضه المتجذّر للحداثة والقيم الدّيمقراطيّة الغربيّة، وبفيوداليّته المتعصّبة، وثيوقراطيّته، وكرهه النّساء والمثليّين.

وبما أنّه قد حدث بالفعل استخدام خواف الإسلام على المستويين الوطنيّ والدّولي كغطاء إيديولوجيّ رئيسيّ، وكمبرّر للامبرياليّة وللحرب (على غرار استخدام العنصريّة الفجّة في القرنين الثّامن عشر والتاّسع عشر)، فإنّ ذلك زاد بشكل كبير في وجوب قيام فهم نظريّ صحيح للدّين في مختلف أشكاله، من أجل تغذية توجّه سياسي قويم. بل بوسعنا أن نقول كذلك إنّ الفهم الأخرق، الآليّ والأحاديّ، للتّحليل الماركسي للدّين كان عاملا جوهريّا في تخلّي عدد من أفراد وجماعات اليسار عن الثّوابت السّياسيّة السّابقة والانقلاب إلى يسار منافح عن الامبرياليّة.

والمثال الأكثر شهرة هو، بطبيعة الحال، مثال كريستوفر هيتشنز الذي ألّف كتابا عن الدّين بعنوان “الله ليس كبيرا” (God is Not Great) سنناقشه لاحقا، والذي كان انتقاله من موقع المفكّر اليساريّ والنّاقد الرّاديكالي للنّظام إلى موقع المتحزّب “النّاقد” لجورج بوش، سريعا ومتطرّفا (رغم أنّه لا يمكننا في حالة هيتشنز إلاّ أن نشكّ في أنّ اندفاعته نحو اليمين كانت نتيجة حوافز ماديّة أكثر منها نتيجة خطأ نظريّ بسيط). وكأمثلة أخرى على ذلك، نجد أعضاء “فريق إيوستون” (Euston Group) مثل نورمان غيراس (Norman Geras)، كما نجد من بين الجماعات اليساريّة المنظّمة الفرنسيّة “الكفاح العمّالي” (Lutte Ouvrière) التي حوّلها عداؤها للحجاب إلى حليف مؤقّت للدّولة الامبرياليّة الفرنسيّة في مواجهة مواطناتها الأكثر تعرّضا للقهر (1)، و”التّحالف من أجل حريّة العمّال” (Alliance for Workers’ Liberty) القريب من الدّوائر الصّهيونيّة والمعادي للإسلام.


وفي الوقت نفسه، وهذا ليس من قبيل الصّدفة، قامت حملة إلحاديّة صاخبة ومعادية للدّين في الولايات المتّحدة وانكلترا، تزعّمها عالم الأحياء ريتشارد داوكينز (Richard Dawkins) وكان من ضمن بطانتها، إلى جانب هيتشنز، الفيلسوف دانيال دينّيت (Daniel Dennett) وآخرون. ولعلّ من شأن التفحّص النّقديّ للكيفيّة التي يبسط بها هؤلاء النّاس حججهم ضدّ الدّين أن يوضّح بعض العناصر الهامّة التي يتضمّنها الموقف الماركسي الكلاسيكي. ولكن يبدو من المهمّ أن نقوم أوّلا بعرض المبادئ الأساسيّة التي يقوم عليها التّحليل الماركسي للدّين، على أن لا نبدأ بالشّروح المباشرة لماركس حول الدّين، بل بالقضايا الأساسيّة للفلسفة الماركسيّة.

الماديّة والدّين


الفلسفة الماركسية ماديّة. ووفقا لفريدريك انغلز في “لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة” فـ”إنّ المسألة الكبرى الأساسيّة لكلّ فلسفة، وخاصة الفلسفة الحديثة، هي العلاقة بين الفكر والوجود(…) ومسألة موقف الفكر من الوجود(…) تصل في مواجهة الكنيسة نقطة حرجة في شكل سؤال: هل خُلق العالم من قبل الله، أم هو كائن منذ الأزل ؟ وقد انقسم الفلاسفة حسب تبنّيهم لهذه الإجابة أو تلك إلى معسكرين كبيرين. أولئك الذين يؤكّدون أولويّة الفكر على الطّبيعة، ويعترفون بالتّالي في نهاية المطاف، بحدوث العالم… وهؤلاء يشكّلون معسكر المثاليّة، والآخرين الذين يعتبرون الطّبيعة القوّة الأصليّة، وهم ينتمون إلى مختلف مدارس الماديّة” (2).


فالماركسيّة، كما يقول انغلز، لا تقتصر على الوقوف بثبات في معسكر الماديّة، بل هي تمثّل أيضا “المرّة الأولى التي يحمل فيها التصوّر المادّي للعالم محمل الجدّ، ويتمّ تطبيقه بشكل مترابط على جميع المجالات المعرفيّة  ذات الصّلة” (3).


فالماديّة الماركسيّة، مختزلة في عناصرها الأساسيّة، تعني قبول القضايا التالية :
1.    العالم الماديّ موجود بشكل مستقلّ عن الوعي (الإنساني أو غيره).
2.    معرفة العالم الواقعيّ، حتى لو لم تكن كاملة أو مطلقة، ممكنة، وقد تمّ بالفعل التوصّل إليها.
3.    البشر جزء من الطّبيعة، لكنّهم يشكّلون جزء متميّزا.
4.    العالم المادّي لا ينشأ، في المقام الأوّل، من الفكر البشريّ؛ بل إنّ الفكر البشريّ هو الذي ينشأ من العالم المادّي.
تتطابق القضيّتان الأولى والثّانية مع استنتاجات واكتشافات العلم الحديث، وهي تتموضع الآن ضمن نطاق الحسّ المشترك بعد أن تمّ إثباتها في الممارسة ملايين أو بلايين المرّات وبصفة يوميّة، على غرار معظم الاكتشافات العلميّة. وتتطابق القضيّة الثّالثة أيضا مع اكتشافات العلم الحديث، خاصّة اكتشافات داروين، وعلم المتحجرّات البشريّة الحديث، إلاّ أنّه سبق لماركس بحقّ أن عبّر عنها قبل داروين:


الشّرط الأول لكلّ تاريخ بشريّ هو بطبيعة الحال وجود كائنات بشريّة حيّة. ومن هنا، فإنّ أوّل واقعة ملاحظة هي التّكوين الجسمانيّ لهؤلاء الأفراد والعلاقات التي ينشئها مع بقيّة جوانب الطّبيعة(…) وعلى كلّ تاريخ أن ينطلق من هذه القواعد الطبيعيّة وما تتعرّض له من تعديلات من قبل الفعل الإنسانيّ عبر التّاريخ. ويمكننا التّمييز بين البشر والحيوانات من خلال الوعي، ومن خلال الدّين، أو من خلال أيّ شيء يروق لنا. أمّا البشر ذاتهم، فيبدؤون في تمييز أنفسهم عن الحيوانات حالما يبدؤون في إنتاج وسائل عيشهم، وهي خطوة يستتبعها تنظيمهم الجسمانيّ ذاته“(4).


أمّا القضيّة الرّابعة فهي في آن الأكثر تميّزا بماركسيّتها والأقلّ انتشارا. فكثيرا ما نجد أناسا من أصحاب النّظرة المادّية للعلاقة بين البشر والطّبيعة، يتّخذون موقفا مثاليّا حالما يتعلّق الأمر بالعلاقة بين الأفكار والأوضاع المادّية ودور الأفكار في المجتمع والتّاريخ والسّياسة. وهم قد يقبلون، دون تفكير تقريبا، كون “الحرب الباردة كانت في الأساس مواجهة بين إيديولوجيّتين“، أو أنّ “الرّأسمالية قائمة على فكرة النّمو الاقتصادي“. ولهذا السّبب كانت القضيّة الرّابعة أكثر القضايا التي أكّد عليها ماركس وانغلز بشدّة في عديد المناسبات:


إنّ  النّاس هم منتجو تصوّراتهم، وأفكارهم، إلخ. وهم أناس حقيقيّون فاعلون، ومشروطون بحدّ تطوّر قواهم الإنتاجيّة… ولا يمكن للوعي أن يكون أيّ شيء أبدا، سوى الوجود الواعي(…) وخلافا للفلسفة الألمانيّة التي تنزل من السّماء إلى الأرض، فإنّنا نصعد هنا من الأرض إلى السّماء(…) ننطلق من النّاس في عملهم الحقيقي، فانطلاقا من مجرى حياتهم الواقعيّة وتطوّرها نصوّر أيضا تطوّر الانعكاسات والأصداء الإيديولوجية لمجرى الحياة ذاك” (5).


هل نحتاج بصيرة نافذة كي نفهم أنّ أفكار وتصورّات ومفاهيم النّاس، وفي كلمة واحدة وعيهم، إنّما يتغيّر بتغّير ظروف عيشهم وعلاقاتهم الاجتماعيّة ووجودهم الاجتماعي؟ (6):


خلال الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخل النّاس في علاقات محدّدة ضروريّة ومستقلّة عن إراداتهم، في علاقات إنتاجيّة تطابق درجة معيّنة من تطوّر قواهم الإنتاجيّة الماديّة. ويشكّل مجموع هذه العلاقات الإنتاجيّة، البناء الاقتصادي للمجتمع والأساس الفعلي الذي يقوم عليه البناء الفوقي القانوني والسّياسي والذي تطابقه أشكال اجتماعيّة محدّدة من الوعي. فأسلوب إنتاج الحياة الماديّة يحدّد الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والفكريّة عامّة. وليس وعي النّاس هو الذي يحدّد وجودهم، بل على العكس من ذلك، إنّ وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم“(7).


فمثلما اكتشف داروين قانون تطوّر الطّبيعة العضويّة، اكتشف ماركس قانون تطوّر التّاريخ البشري المتمثّل في حقيقة بسيطة، تخفيها هيمنة الإيديولوجيا، ومفادها أنّه على النّاس أوّلا أن يحصلوا على الأكل والشّرب والملبس والمأوى قبل أن يتمكّنوا من تعاطي السّياسة والعلوم والفنّ والدّين، إلخ،  ومن هنا، فإنّ إنتاج الموارد الماديّة الأساسيّة للوجود، وبالتّالي كلّ درجة من التطوّر الاقتصادي لشعب معيّن أو خلال حقبة معيّنة، هو ما يشكّل الأساس الذي قامت عليه مؤسّسات الدّولة والمفاهيم القانونيّة والفنّ، وحتّى الافكار الدّينيّة لأولئك النّاس، ولذا فإنّ تفسيرها يتطلّب الانطلاق من ذلك الأساس، لا العكس كما درج العمل به إلى حدّ الآن” (8).


ومن هنا، يتبيّن لنا حضور موقف محدّد من الدّين، سواء صريح أو ضمنيّ، في الأفكار الأساسيّة للماركسيّة. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن يكون واضحا أنّ لهذا الموقف طابعا مزدوجا. فمن ناحية أولى، فإنّ الإيمان الدّيني، سواء عند الماركسيّ أو عند الماديّ، وأيّا كان شكله، أمر لا يمكن تصوّره. فالأفكار الدّينية، مثلها مثل كلّ الأفكار، هي منتجات اجتماعيّة وتاريخيّة. فهي تنتج من قبل البشر، وهو ما يستبعد بالضّرورة الاعتقاد الدّيني، لأنّ الأفكار الدّينيّة تريد أن تكون متجاوزة للطّبيعة وللنّاس وللتّاريخ ومتعالية على الجميع. ولهذا السّبب عينه، ترتبط المثاليّة الفلسفيّة بالدّين ارتباطا وثيقا. فإذا ما كان العقل سابقا على المادّة، فأيّ عقل هو إن لم يكن عقل الله؟ أليس الله، حسب اصطلاح هيغل، هو “العقل المطلق“؟ أو كما يقول الكتاب المقدّس: “في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة الله“. هذا هو السّبب الذي دفع ليون تروتسكي (Léon Trotsky) كي يكتب في نهاية حياته: “سأموت ثوريّا، بروليتاريّا، ماركسيّا، ماديّا جدليّا، وبالتّالي ملحدا شرسا” (9).


ومن ناحية أخرى، فإنّ الماركسيّة ذاتها تستوجب تفسيرا ماديّا للدّين. فلا يكفي النّظر إلى الدّين ككلّ، أو إلى أيّ دين، على أنّه مجرّد وهم أو سخف استحوذ على عقول الملايين من النّاس لعدّة قرون. وهناك عادة شائعة بين بعض المؤمنين (وخصوصا في البلدان الامبرياليّة) تتمثّل في وصم معتقدات الآخرين (وخاصّة من يسمّونهم “الأهليّون“) بالخرافة، معتبرين إيّاها غير منطقيّة ومخالفة للقوانين المعروفة للطّبيعة، دون أن يدركوا أنّ ذلك ينطبق أيضا على معتقداتهم بشأن حمل مريم العذراء بلا دنس، وقيامة يسوع، وتكثيره الخبز لإطعام خمسة آلاف نفس، وما شابه ذلك.


ولكنّ الماركسيّة لا تعمّم هذا الخطأ في وصم العقائد الأحيائيّة والكاثوليكيّة والإنجيليّة والراستافارايّة [نحلة تقدّس الامبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي- م] بنفس السّخف. فهي تتطلّب تحليلا للجذور الاجتماعيّة للدّين في العموم، ولمعتقدات دينيّة محدّدة بذاتها، وفهم الاحتياجات الإنسانيّة الحقيقيّة، الاجتماعيّة منها والنّفسيّة، والظّروف التّاريخيّة الفعليّة التي تطابق تلك المعتقدات والمذاهب. فعلى الماركسيّ أن يكون قادرا على فهم كيف كان الاعتقاد في قداسة هيلا سيلاسي وخلوده قادرا على إلهام موسيقيّ من عيار بوب مارلي (Bob Marley) في جامايكا الستّينات، أو كيف كان الاعتقاد في ألوهيّة يسوع وخلوده ملهما لفنّان وعالم رياضيّات مثل بييرو ديلا فرانشيسكا (Piero della Francesca) في فلورنسا القرن الخامس عشر.


وإذا كان لنا أن ننتقل الآن إلى أهمّ بيان مباشر لماركس حول الدّين، وهو ذاك الوارد في الصّفحات الأولى من “مقدّمة في الإسهام في نقد فلسفة الحقّ عند هيغل” (10)، فسنجد أنّه صيغة مكثّفة لجميع تلك العناصر، وهو يبدأ بالعبارة التّالية: “وبالنّسبة لألمانيا، فإنّ نقد الدّين قد اكتمل بشكل أساسيّ، ونقد الدّين هو الشّرط المسبق لكلّ نقد“.


وقد قصد ماركس بكلامه هذا أنّ العمل المشترك بين الثّورة العلميّة والتّنوير (الموسوعيّون الفرنسيّون خصوصا) ونقد الكتاب المقدّس من قبل اليسار الهيغلي العلمانيّ في ألمانيا، هو من قام بإجهاض طموحات المسيحيّة والكتاب المقدّس في تقديم صيغة واقعيّة ودقيقة للطّبيعة وللتّاريخ، بل ولاهوت متماسك ومتّسق. وعلاوة على ذلك، فقد كان ذلك العمل ضروريّا وتقدّميّا نظرا لاستحالة القيام بتحليل نقدي حقيقيّ للعالم ما لم يتحرّر الفكر البشري من غشاوة العقائد الدّينيّة. ولكن هذه الجملة البسيطة مثّلت كلّ ما كان عند ماركس ليقوله حول هذا الجانب من المسألة، ذلك أنّه اعتبر دحض الدّين أمرا ناجزا، وهو ما أدّى به إلى أن ينتقل بسرعة نحو هدفه الرّئيسي، ألا وهو تحليل الأسس الاجتماعيّة للدّين: “إنّ أساس النّقد الإلحاديّ هو: الإنسان يصنع الدّين، والدّين لا يصنع الإنسان“. هذه هي نقطة البداية. وفيما يلي فقرة ذات كثافة استثنائيّة، مميّزة لماركس، يمكن اعتبارها بمثابة أطروحة دكتوراه مختزلة في عبارات قليلة:


إنّ أساس النّقد الإلحاديّ هو: الإنسان يصنع الدّين، والدّين لا يصنع الإنسان. الدّين هو في الواقع وعي الإنسان وإحساسه بذاته، وهذا ما لم يجده الإنسان بعد، أو افتقده مرّة أخرى. لكن الإنسان ليس كائنا مجرّدا يعيش خارج العالم الواقعي. الإنسان هو عالم الإنسان، هو الدّولة والمجتمع. هذه الدّولة، وذاك المجتمع ينتجان الدّين، أي وعيا مغلوطا للعالم، لأنّهما في ذاتهما عالم زائف. الدّين هو النّظريّة العامّة لهذا العالم، وخلاصته الموسوعيّة، ومنطقه في شكل شعبيّ، ووسام شرفه الرّوحي، وحماسته، ودعامته المعنويّة، ومتمّمه المهيب، وهو أساسه الكونيّ للعزاء والتّبرير. إنّه التحقّق الوهميّ لجوهر الإنسان، لأنّ جوهر الإنسان لا حقيقة واقعيّة له. لذلك فإنّ الصّراع ضدّ الدّين هو بصورة غير مباشرة صراع ضدّ هذا العالم الذي يمثّل الدّين شذاه الرّوحي“.


الدّين إذن هو استجابة للاغتراب الإنساني، الإنسان الذي “خسر نفسه“. ولكن الاغتراب ليس شرطا مجرّدا أو خارج التّاريخ، بل هو نتاج ظروف اجتماعيّة محدّدة. ومع أنّ المجتمع هو الذي ينتج الدّين، أي رؤية مقلوبة للعالم يرضخ فيه البشر لإله وهميّ من صنع أيديهم، وذلك لأنّهم يعيشون في عالم مقلوب يخضعون فيه لمنتجات عملهم ذاتها، إلاّ أنّ الدّين ليس مجرّد توليف عشوائي بين خرافات أو معتقدات خاطئة، بل هو “نظريّة عامّة” لهذا العالم المغترب، للكيفيّة التي يحاول من خلالها بشر مغتربون إعطاء معنى لحيواتهم المغتربة في مجتمع مغترب. ولذلك، فهو يقوم بجملة من الوظائف الهامّة والمتنوّعة التي أشار إليها ماركس: “الخلاصة الموسوعيّة“، “منطق في شكل شعبيّ“، إلخ. وبالتّالي، فإنّ الصّراع ضدّ الدّين هو “صراع ضدّ هذا العالم الذي يمثّل الدّين شذاه الرّوحي“، هذا العالم المغترب الذي يحتاج النّاس فيه إلى الدّين.


على أنّه يتوجّب علينا توضيح نقطتين بشأن هذا المقطع. الأولى أنّه يكاد يكون متجاهلا على المستوى العالمي من قبل المعلّقين الذين يقدّمون ملخّصات أو شروحات لفكر ماركس بخصوص الدّين، ربّما لأنّهم لم يقرؤوه (وهذا غير مرجّح)، أو لأنّهم (وهذا الأرجح) لم يفهموه، أو لأنّه (وهذا الأكثر ترجيحا) يتعارض جذريّا  مع محاولات اختزال النّظريّة الماركسيّة للدّين إلى مجرّد تحليل أحاديّ من قبيل “يعتبر ماركس الدّين أداة الطّبقة الحاكمة” أو “حسب ماركس، وظيفة الدّين هي العمل على تهدئة الجماهير الكادحة“. وبالطّبع، فإنّ ماركس قال مثل هذه الأمور عن الدّين، ولكنّه قال أيضا أشياء كثيرة أخرى بشأنه، واختزال مجمل هذه النّظريّة المعقّدة إلى واحد من مكوّناتها، يؤدّي في الواقع إلى تزييفها. والنّقطة الثّانية هي أنّ ماركس كان شديد الحرص على استنتاجاته، حتّى أنّه كرّرها مرّات ومرّات، من خلال سحابة من الاستعارات والأمثال (11).


ومع ذلك، فقد قام ماركس قبل أن يختم حججه بخصوص الدّين، بإدراج فقرة في غاية الأهميّة:
المعاناة الدّينية هي في آن، تعبير عن معاناة واقعيّة من جهة، واحتجاج على المعاناة الواقعيّة من جهة أخرى. الدّين هو زفرة المخلوق المضطهد، قلب عالم دون قلب، وهو روح ظروف دون روح. إنّه أفيون الشّعوب” (12).


وإذا ما كان هذا المقطع أكثر شهرة من سابقه، فإنّ ذلك يعود إلى حدّ كبير إلى الجملة الواردة في نهايته والتي شاعت على نطاق واسع (وهي غالبا ما تعرض على أنّها جوهر أو مجمل تحليل ماركس). وفي الواقع، فإنّ الجملة الأولى ربّما كانت أكثر أهميّة وفائدة لفهم الدّور السّياسي للدّين. وإصرار ماركس على أنّ الدّين هو في آن تعبير عن المعاناة وعلى الاحتجاج عليها، هو النّقطة الرّئيسيّة التي تدين وتدحض كلّ تحليل يقصر نفسه على بيان الآثار المخدّرة والمنوّمة للدّين. وهو ما يؤشّر أيضا باتّجاه الحقيقة التّاريخيّة الهامّة (التي سنعود إليها) التي تفيد بقيام العديد من الحركات التقدّمية، الرّاديكاليّة أو حتى الثّوريّة، إمّا باتّخاذ شكل دينيّ، أو الاصطباغ بصبغة دينيّة، أو بتسليم قيادتها لأشخاص يحملون عقيدة دينيّة.


وقد أشار ماركس وإنغلز في أعمالهما إلى الدّين في عدّة مناسبات، وحلّلاه في كثير من الأحيان. وعلى وجه الخصوص، فإنّ ماركس الشابّ كتب “المسألة اليهوديّة”، وهو كتاب مثير للجدل، لصالح تحرّر اليهود (13)، كما أسهم انغلز بعدد من الدّراسات المثيرة للاهتمام حول التطوّر التّاريخيّ للمسيحيّة ودورها، ولا سيّما “حرب الفلاّحين في ألمانيا” و”ضدّ دوهرينغ” ومقدّمة الطّبعة الانكليزيّة من “الاشتراكيّة الطّوباويّة والاشتراكيّة العلميّة” و”برونو باور والمسيحيّة المبكّرة”، و”مساهمة في تاريخ المسيحيّة المبكّرة” (14). إلاّ أنّ كلّ هذه التّعليقات يجمع بينها أمر واحد: أنّها لا تنظر إلى العقائد الدّينيّة والطّوائف والكنائس والحركات والصّراعات في حدّ ذاتها، أو بوصفها مجرّد حماقات أو خداع مدبّر من قبل الكهنة، بقدر ما تنظر إليها دائما بوصفها أفكارا وتعبيرات  مشوّهة عن حاجات ومصالح اجتماعيّة حقيقيّة. ولعلّ من شأن بعض المقتطفات توضيح هذه النّقطة:

•    من “حرب الفلاّحين في ألمانيا“: “حتّى في ما يسمّى الحروب الدّينيّة للقرن السّادس عشر، فإنّ الأمر كان يتعلّق في المقام الأوّل بمصالح مادية طبقيّة ملموسة، وكانت تلك الحروب صراعات طبقيّة، كما هو الشّأن تماما للاصطدامات الدّاخليّة التي وقعت لاحقا في كلّ من انكلترا وفرنسا. وإذا ما كانت تلك الصّراعات الطبقيّة، في ذلك الوقت، تحمل راية الدّين، بحيث تستّرت مصالح مختلف الطّبقات وحاجاتها ومطالبها وراء قناع الدّين، فإنّ ذلك لا يغيّر من واقع الأمر شيئا، وهو يفسّر بكلّ يسر بطبيعة الظّروف في ألمانيا ذاك الزّمان(…) لقد تواصلت المعارضة الثّوريّة ضدّ الفيوداليّة طوال العصور الوسطى، وبدت، وفقا للظّروف، في شكل تصوّف أحيانا، أو في شكل هرطقة منفتحة أحيانا أخرى، أو في شكل عصيان مسلّح“.


•    من مقدّمة “الاشتراكيّة الطّوباويّة والاشتراكيّة العلميّة“: “كانت العقيدة الكالفينيّة مناسبة بشكل خاصّ للعناصر الأكثر جرأة من بين المنتمين لبورجوازيّة ذاك الزّمان.. وكان مذهبها القدريّ تعبيرا دينيّا عن حقيقة مفادها أنّ النّجاح والفشل في عالم المنافسة التّجاريّة، لا يتوقّفان على نشاط الإنسان أو مهارته، بل على ظروف لا يمكنه التحكّم فيها“.


•    من “تاريخ المسيحيّة المبكّرة“: “كانت المسيحيّة في الأصل حركة مضطهَدين، ظهرت للمرّة الأولى على أنّها دين للعبيد والمُعتَقين والفقراء والنّاس المحرومين من جميع الحقوق، والشّعوب التي قهرتها أو استبدّت بها روما (…) وكان لا بدّ [لانتفاضات الفلاّحين والعامّة في العصور الوسطى]، ولجميع الحركات الجماهيريّة في العصور الوسطى، أن ترتدى قناع الدّين بالضّرورة، وقد بدت وكأنّها استعادة للمسيحيّة الأولى إثر ما أصابها من انحطاط متزايد، ولكن التّمجيد الدّينيّ كان يخفي بانتظام مصالح دنيويّة ملموسة “.


وبصفة عرضيّة، في هذا العمل نفسه، نقرأ إشارة حول الإسلام:
الإسلام على مقاس الشّرقيّين وبالتّحديد العرب، أي سكّان المناطق الحضريّة العاملين في مجال التّجارة والصّناعة من جهة أولى، والبدو الرحّل من ناحية أخرى. لكنّ ذلك يتضمّن بذرة اصطدامات دوريّة. فمع إثراء سكّان المدن الغنية والانغماس في التّرف، يتراخون في تطبيق “الشّريعة”. أمّا البدو الفقراء، فينظرون بسبب فقرهم وأخلاقهم الصّارمة، بعين الحسد والجشع لتلك الثّروات والمتع. وحينها يتوحّدون تحت قيادة نبيّ، مهديّ، لتأديب المرتدّين وإقامة معالم الشّريعة والإيمان الحقيقيّ ومكافأة أنفسهم على ذلك بالاستيلاء على كنوز المرتدّين. وبعد مائة سنة، يجد هؤلاء أنفسهم بطبيعة الحال، في نفس موقف المرتدّين؛ ومن هنا وجوب قيام حركة تطهير جديدة تحت راية مهديّ جديد، لتتواصل اللّعبة. وقد حدث هذا الأمر وبهذه الطريقة منذ حروب المرابطين والموحّدين الأفارقة لغزو إسبانيا وصولا إلى خروج المهديّ الأخير في الخرطوم الذي تحدّى بريطانيا بانتصاراته(…) إنّها حركات تعود لأسباب اقتصاديّة، رغم ارتدائها غطاء دينيّا“.


والمسألة هنا لا تتعلّق بصحّة أو خطأ هذه الملاحظات النّوعيّة تاريخيّا، بل بتسليط الضّوء على المنهجيّة المتماسكة التي تستند إليها.

داوكينز، هيتشنز وإيغلتون


ريتشارد داوكينز هو عالم أحياء تطوّري اشتهر من خلال كتابه “الجين الأنانيّ” (The Selfish Gene) قبل أن يبني سمعة كبيرة ويختطّ لنفسه مسارا خاصّا بوصفه ناشرا للثّقافة العلميّة المبسّطة بين العموم. وقد نشر في عام 2006 كتابا بعنوان “وَهْمُ الله” (The God Delusion) يمثّل هجوما مباشرا ضدّ الدّين ودفاعا عن الإلحاد، وقد غدا من أكثر الكتب مبيعا على المستوى العالميّ وتسبّب في إثارة جدل واسع، خاصّة في الولايات المتّحدة، وتلقّى استحسان جهات متنوّعة مثل إيان ماك إيوان (Ian McEwan)، ومايكل فراين (Michael Frayn)، ومجلّة ذي سبكتاتور (the Spectator)، وصحيفة الدّيلي ميل (the Daily Mail )، وستيفن بينكر (Stephen Pinker).


ويجب أن أقول بداية إنّني لا أشارك إعجاب العامّة بأسلوب وفكر داوكينز. فأن تقرأ له بعد أن تقرأ لماركس هو مثيل الانتقال من القراءة لتولستوي (Toltstoy) أو لجيمس جويس (James Joyce) إلى القراءة لكينغسلي أميس (Kingsley Amis) أو لأغاثا كريستي (Agatha Christie). وحيث يختزل ماركس كتابا في فقرة، يوسّع داوكينز مقالا قصيرا ليغدو في حجم كتاب كبير. وفي الواقع، فإنّ جميع صفحات ” وَهْمُ الله” التي تربو عن 460 صفحة لا تتجاوز من النّاحية الفكريّة ما لخّصه ماركس في الجملة الأولى من تحليله في عام 1843، أي اكتمال نقد الدّين في أساسه. فما يعرضه داوكينز هو دحض تَجْرَبِيٌّ (empiricist) وعقلانيّ للدّين جدير بعصر التّنوير، فهو لا يجاوز برهنة “علميّة” وضعانيّة على انعدام أيّ دليل واقعيّ يدعم ما يسمّيه “فرضيّة الله“، وعلى أنّ الأدلّة تجعلنا تقريبا (إن لم يكن بصفة مطلقا) على يقين بأنّ الله غير موجود. وكتكملة لذلك، يتحفنا بحجج منطقيّة داحضة لمختلف البراهين عن وجود الله، بدءا من “أدلّة” القدّيس توما الاكويني الجليلة و”رهان باسكال“، وصولا إلى الهذيانات الأخيرة للمدعوّ ستيفن أونوين (Stephen Unwin)، مع إيراد أمثلة عديدة على الحماقات والجرائم التي ارتكبت باسم الدّين. وإنّني لأفترض وجود من قد يمثّل له هذا الأمر كشفا مهمّا، وأنّ آخرين قد يستمتعون به لأنّه يجعلهم يشعرون بأنّهم أكثر ذكاء من الجماهير الجاهلة التي تنطلي عليها تلك الخرافات، ولكن لا جديد حقّا في كلّ ذلك من النّاحية النّظريّة، أو لنقل سوى نزر يسير هو نفس ما نجده مقرّرا ومعروفا منذ أكثر من مائتي عام خلت.


وقد يكون الاستثناء الوحيد في جميع ذلك، هو محاولة داوكينز تفسير سبب انتشار الدّين على نطاق واسع في المجتمع البشريّ، ولكنّه فشل في محاولته تلك فشلا مزريا. فبما أنّه عالم أحياء تطوّري كما يعلن، فقد أحسّ بأنّه ملزم في إطار شرحه، بالقول بالفوائد الوراثيّة الموجودة في عمليّة الانتقاء الطّبيعي، إلاّ أنّ عداءه السّطحي للدّين تطلبّ منه أيضا إنكار أن يكون للدّين أيّ فوائد لضمان بقاء الفرد أو المجتمع. وقد حاول الخروج من هذا التّناقض عن طريق الإيحاء بأنّ الدّين مجرّد أثر جانبيّ لميزة يعلن أنّها مفيدة في الصّراع من أجل البقاء، ألا وهي نزوع الأطفال إلى تصديق ما يقوله لهم آباؤهم. ومن الواضح أنّ هذا الكلام لا يصمد أمام النّقد. أوّلا، لأنّ معرفة إلى أيّ مدى يفوق تأثّر الشّبان بالإيحاء شكّهم، ولا سيّما في مرحلة المراهقة، مسألة فيها نظر. وثانيا، لأنّه يمكن القول بنفس القدر أيضا إنّ التأثّر بالإيحاء هو في العموم، ميزة. وثالثا، لأنّه يبدو من المرجّح للغاية أن يكون مدى التأثّر بالإيحاء ودرجة نفعه في آن، مشروطان اجتماعيّا، ومن ثمّ يختلفان بدرجات متفاوتة باختلاف المجتمعات. وأخيرا، فإنّ هذه النّظريّة، مثلها مثل أيّ نظريّة أخرى تفسّر سلوك ومعتقدات الأطفال من خلال سلوك ومعتقدات والديهم، تواجه – إذا ما أرادت تجنّب الاضطرار إلى العودة القهقرى إلى ما لا نهاية – مشكلة تفسير التصرّف الأوّلي للوالدين.


وكما لاحظ ماركس، فإنّ “المعلّمين أنفسهم يجب أن يتعلّموا“(15). وبعبارة أخرى، فإن شرح داوكينز لا يفسّر أيّ شيء على الإطلاق. بل إنّ نهجه في كتاب ” وَهْمُ الله” في مجمله، لا في هذا الخصوص فحسب، يدلّ على أنّه لم يجد ما يكفي من الوقت للنّظر بجديّة في النّظريّة الماركسيّة للدّين.


ومع ذلك، فإنّ الرّداءة وعدم الحصافة الفكريّة ليسا موضوع انتقادي الرّئيسي لهذا الكتاب، إذ أنّ اعتراضي الرّئيسي عليه يتعلّق بما حواه من استنتاجات سياسيّة رجعيّة النّاتجة عن ضعفه المنهجيّ. فكما قال ماركس في ردّه على الفيلسوف الألماني فيورباخ، فإنّ الماديّة الميكانيكيّة تترك الباب مفتوحا دائما أمام المثاليّة، وداوكينز هو مثال صارخ على ذلك. فبدون إدراك منه، يسلك داوكينز مسارا متعرّجا ينقله من الحتميّة الوراثيّة الماديّة المبتذلة في نظرتها الى الطّبيعة والسّلوك البشريّ في المطلق، إلى مثاليّة مسرفة في رؤيتها لدور الدّين في ظروف تاريخيّة ملموسة. وهو يرتكب عند كلّ منعطف، خطأ افتراض أنّ النّاس عندما يفعلون شيئا باسم الدّين، فإنّ الدّين هو ما يحفّز سلوكهم. ولعلّ المقطع التّالي من مقاله “استحالة الله” (The Improbability of God) يوجز هذا النّهج :


إنّ معظم ما يقوم به النّاس يتمّ باسم الله. فالإيرلنديّون يفجّر بعضهم بعضا باسمه، والعرب يفجّرون أنفسهم باسمه، والأئمّة وآيات الله يضطهدون المرأة باسمه، والكهنة والقساوسة العزّاب يتدخّلون في الحياة الجنسيّة لأتباعهم باسمه، والكهنة اليهود يذبحون الحيوانات الحيّة باسمه. وسجّل الدّين في التّاريخ مثير للإعجاب: انطلاقا من الحروب الصّليبيّة الدّمويّة، والتّعذيب الذي مارسته محاكم التّفتيش والقتل الجماعي الذي ارتكبه الغزاة، وتدمير الثّقافات من قبل المبشّرين، وصولا إلى التصدّي الشّرعيّ إلى آخر لحظة ممكنة لكلّ تقدّم جديد للحقيقة العلميّة. وماذا خدم كلّ ذلك؟ أعتقد أنّه أصبح من الواضح بشكل متزايد أنّ الجواب هو: لا شيء. ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بوجود أيّ شكل من أشكال الآلهة، فيما يوجد أسباب وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بأنّها لم توجد قطّ. إنّ الأمر لم يكن سوى مضيعة كبيرة للوقت وللأنفس، ويكاد يكون نكتة ذات أبعاد كونيّة لو لم يكن يتضمّن هذا القدر من المأساويّة” (16).

في الواقع، ليس هذا سوى صيغة معدّلة حسب مذاق اليوم للعبارة المكرورة الزّاعمة أنّ الدّين كان وراء الكثير من الحروب. إلاّ أنّ ذلك لا يصمد أمام الفحص النّقديّ، ولنأخذ على ذلك مثال إيرلندا. فالفكرة القائلة بأنّ الصّراع الإيرلنديّ كان في أساسه دينيّا هي في آن كاذبة ورجعيّة. إنّها كاذبة حتّى في ما يتعلّق ببياناتها الرّسميّة وبوعي دعاتها الرّئيسيّين، فإذا ما كان كثير من الجمهوريّين، وليس كلّهم بأيّ حال من الأحوال، من الكاثوليك، فإنّ أيّ منهم لم يصرّح (أو  حتّى فكّر) بأنّه كان يناضل من أجل الكاثوليكيّة؛ فالنّضال كان من أجل إيرلندا مستقلّة ومتّحدة. وقد كانت الأمور أقلّ وضوحا في معسكر الإتّحاديّين، حيث كان للتعصّب الأعمى دور أكبر بما لا يقاس، وذلك على الرّغم من أنّ الهدف المعلن كان أساسا من طبيعة “وطنيّة“، أي أن يظلّوا “بريطانيّين“. وبصفة عامّة، فإنّه كان من الواضح أنّ تلك النّزاعات كانت تخفي طموحات وطنيّة، فهي لم تكن خلافات حول مبدأ الاستحالة أو العصمة البابويّة، بل حول مسائل حقيقيّة اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة تتعلّق بالاستغلال والفقر والتّمييز والاضطهاد. ومن هنا، فإنّ النّظر إلى الصّراع بوصفه صراعا دينيّا بالأساس هو موقف رجعيّ لأنّه يكرّس الصّورة النّمطيّة العنصريّة التي تظهر الإيرلنديّين في صورة بدائيّين أغبياء، ولأنّه يساعد على إضفاء الشّرعيّة على الحكم البريطاني بوصفه حكما محايدا بين فصائل دينيّة متحاربة.


ويجب علينا أن ننسب الفضل لداوكينز في معارضته الحرب على العراق، وأنّه ليس واحدا من الأصدقاء السّياسيّين لجورج بوش. ومع ذلك، فإنّ مقاربته للدّين في سياق “الحرب ضدّ الإرهاب“، حتى وإن لم تكن نابعة من نيّة مبيّتة، هي أكثر رجعيّة. ذلك أنّ اعتبار عداء المسلمين للغرب مجانيّا وغير مبرّر يمثّل عنصرا مركزيّا في ايديولوجيّة المحافظين الجدد، بوش وتشيني وبلير وبراون، وهو لا ينظر إليه باعتباره ردّة فعل على الإمبرياليّة الغربيّة والاستغلال والهيمنة، بل اعتداء على أساس الدّين يسعى إلى تدمير  العالم غير المسلم وقهره، وربّما أسلمته.


وبينما يرى البعض أنّ هذه الأهداف أصيلة في الإسلام بصفة عامّة (17)، يرى بوش وبلير وجوقتهما أنّها نتاج تأويل ” شرّير” للإسلام أو تحريف له، ومع ذلك فإنّ الدّافع في الحالتين يبقى من طبيعة دينيّة. وهذا التّفسير يمثّل تحدّيا للعقل، إذ يتعارض مع تصريحات كلّ من تنظيم القاعدة الذي أعلن مطالب سياسيّة واضحة مثل انسحاب القوّات الأمريكيّة من المملكة العربيّة السّعوديّة، وتصريحات منفّذي تفجيرات 7 يوليو/تمّوز فى لندن الذين أعلنوا أنّ الدّافع إليها هو ما يحدث في العراق. وفكرة أنّ أمريكا أو بريطانيا أو أيّ من الدّول الغربيّة الكبرى يمكن تدميرها وغزوها أو أسلمتها عن طريق وضع قنابل في قطارات الأنفاق أو توجيه طائرات نحو ناطحات سحاب، هي من السّخف بحيث لا يمكن أن تكون السّبب الحقيقيّ لحملة عسكريّة مستمرّة. كما أنّ الفكرة القائلة بأنّ اعتداء إرهابيّا يمكن أن يدفع الولايات المتّحدة إلى التوقّف عن دعم إسرائيل أو إخلاء أفغانستان خاطئة أيضا، ولكنّها ليست مستحيلة بشكل كامل. وبالنّسبة لبوش وبلير والمحافظون الجدد، فإنّ التّفسير “الدّينيّ” أمر ضروريّ، لأنّهم سيكونون بدونه مضطرّين للاعتراف بجرائم الامبرياليّة وسياساتهم الإجراميّة. وهذا النّهج هو الذي انضمّ إليه وأيّده داوكينز :


“(انعدام الوعي) قد تكون العبارة المناسبة لوصف تخريب كشك للهاتف. إلاّ أنّها لا تساعد على فهم ما الذي ضرب نيويورك يوم 11 سبتمبر(…)، إنّه صادر عن الدّين. والدّين هو أيضا، بطبيعة الحال، المصدر الأساسي للخلافات في الشّرق الأوسط التي دفعت منذ البداية إلى استخدام هذا السّلاح الفتّاك. ولكن تلك قصّة أخرى لا تعنيني هنا. ما يهمّني هو السّلاح نفسه. فملء العالم بالأديان، أو بأديان من النّمط الإبراهيميّ، هو مثيل ملء الشّوارع بمسدّسات مشحونة” (18).


أمّا كريستوفر هيتشنز، فهو يشبه داوكينز، في الرّداءة. فكتابه “الله ليس كبيرا” يحتلّ من النّاحية الفكريّة موقعا أدنى من كتاب “وَهْمُ الله” مع استخدام أكثر تعسّفا لمزيج من الحكايات الشّخصيّة الاستعراضيّة والجدل الصّحفي المتهافت. وقد كانت مماهاته بين المسألة الإلحاديّة والخواف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) متضمّن في عنوان الكتاب (وهو إشارة ساخرة إلى هتاف المسلمين: “الله أكبر“!) وممتدّ بلا أدنى حياء على طول صفحاته. وهو يستشهد، كي يحيّي بلا شكّ ماضيه اليساريّ، بفقرتين لماركس حول الدّين يوافقه فيها، ليواصل بعد ذلك كلامه متجاهلا معناها بصفة تامّة. وفي القسم الرّئيسي من الكتاب وهو بعنوان “الدّين يقتل“، يأخذنا هيتشنز في جولة هجوميّة إلى ستّ مدن تمزّقها الصّراعات (بلفاست وبيروت وبومباي وبلغراد وبيت لحم وبغداد) ليقدّم لنا كلّ مرّة موجزا ملخّصا للنّزاع في كلّ منها من وجهة نظر مركّزة حصريّا على الأحقاد الدّينيّة الخالصة، دون أيّ إحالة إلى التّاريخ، أو الامبرياليّة أو القمع أو الصّراع الطّبقيّ. إنّها محاكاة هزليّة للتّحليل السّياسيّ الاجتماعيّ. ولعلّ تحليل “فلسطين” هو الأكثر ترويعا على وجه الخصوص :


لقد سمعت مرّة المأسوف عليه أبا إيبان، وهو واحد من أرقى الدّبلوماسيّين ورجال السّياسة في إسرائيل وأكثرهم رقّة ضمير، يلقي كلمة في نيويورك. وقد قال إنّ أوّل ما يلفت النّظر بشأن الصّراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ هو السّهولة التي يمكن حلّه بها(…) شعبان بنفس التّعداد تقريبا يدّعيان ملكيّة نفس الأرض. والحلّ، بالطّبع، هو إنشاء دولتين جنبا إلى جنب. هل يوجد شيء أوضح من هذا بالنّسبة للذّكاء البشريّ؟ لقد كان هذا ما سيتمّ منذ عقود، لو تمّ إبعاد الحاخامات والأيمّة والقساوسة. إلاّ أنّ الإدّعاءات الحصريّة للسّلطة الإلهيّة التي أُعلنت من الجانبين من قبل رجال دين مهووسين مدعومين من قبل متعصبّين مسيحيّين يأملون في إعلان نهاية العالم (المسبوقة بموت اليهود أو تنصيرهم) جعلت الوضع لا يطاق، وجعل البشرية جمعاء رهينة نزاع يحمل في طيّاته تهديدا نوويّا. الدّين يسمّم كلّ شيء“.


إنّ كلّ هذا يبعث على الضّحك، خاصّة حين يقول هيتشنز، وأنا أقتبس حرفيّا من يوتيوب: “إنّني مقتنع تماما أنّ المصدر الرّئيسي للكراهيّة في العالم هو الدّين” (19)، مرجعا ذلك لا إلى الوقائع الملموسة للرّأسمالية والإمبرياليّة وعدم المساواة والاستغلال أو الصّراع الطّبقيّ، بل إلى مجرّد خطأ استقرّ في أذهان النّاس.

 


إنّ معارضة حجج داوكينز وهيتشنز بقوّة لا يمكنها بأيّ حال أن تؤدّي إلى تمييع النّقد الماركسيّ الكلاسيكيّ للدّين أو إلى فتح الباب أمام أيّ توافق نظريّ مع الأفكار الدّينيّة. ولنترك الآن هيتشنز المقرف لنلتحق بالأمميّ تيري إيغلتون (Terry Eagleton) الذي يعتبر مثالا لما ينبغي تجنّبه. كان إيغلتون منظّرا أدبيّا وثقافيّا بارزا، وقريبا من الماركسيّة، وقد هاجم في الماضي عنصريّة فيليب لاركن (Philip Larkin) وتعصّبه. إلاّ أنّه تميّز مؤخّرا بإدانة إسلاموفوبيّة زميله في الجامعة مارتن أميس. وكتب في عام 2006 نقدا لاذعا لكتاب “وَهْمُ الله” في المجلّة النّقديّة اللندنيّة لندن ريفيو أوف بوكس(London Review of Books). ورغم تقديم إيغلتون بعض الحجج المماثلة لما نعرضه هنا، على غرار ما يتعلّق بإيرلندا على سبيل المثال، فإنّ السّمات العامّة لنقده ليست ماركسيّة. وقد كانت حجّته الرّئيسيّة تتمثّل في أنّ داوكينز هاجم المسيحيّين الأصوليّين والمسلمين كما لو أنّهم يمثّلون الدّين في مجمله، متناسيا وجود لاهوت “تحرّري” لا يمكن الشكّ في وجوده:

إنّنا نتساءل عن وجهات نظر داوكينز بشأن الاختلافات المعرفيّة بين القدّيس توما الاكويني ودونس سكوت (Duns Scot )؟ هل قرأ ما يقوله إيريجان (Erigène) حول الذّاتيّة، وراهنر (Rahner) حول الرّحمة، ومولتمان (Moltman) حول الأمل؟ بل هل سمع بهم قطّ؟ كيف له أن يتخيّل، بوصفه محاميا شابّا مفعما بالحقد، أنّه يمكن القضاء على المعارضة من خلال تجاهل أقوى حججها؟” (20).


إنّ نقدا كهذا لكتاب داوكينز، لا يخلو من صحّة، ولكنّه لا يخلو أيضا من مشاكل خطيرة. أوّلا، لإنّه من غير المعقول إعلان ضرورة الإطّلاع على جميع تعقيدات اللاّهوت المسيحيّ (أو البوذيّ أو الزرّادشتيّ) من أجل التمكنّ من الدّفاع عن الإلحاد ورفض اللاّهوت بصفته تلك. وثانيا، لأنّ إيغلتون، من خلال البرهنة على فهمه لمفهوم اللاّهوت التحرّري حول إله غير ماديّ ومجرّد محبّ ومسامح، على نقيض إله الكتاب المقدّس المنتقم، إنّما يترك الباب مفتوحا بالتّأكيد أمام إمكانيّة أن يكون ذاك الإله التحرّري قد وجد فعلا أو أنّه جدير بالعبادة، وهو ما يكرّره حين يقدّم تصوّره ليسوع باعتباره نموذجا أوّليّا للثّوريّ المناضل ضدّ الامبرياليّة:


يسوع لم يمت لأنّه كان مجنونا أو مازوخيّا، بل لأنّ الدّولة الرّومانيّة وأزلامها المحليّون وكلاب حراستها ارتعبوا أمام ما تبشّر به رسالته من محبّة ورحمة وعدالة، فضلا عن شعبيّته الهائلة بين الفقراء، وقد تخلّصوا منه لمنع حدوث انتفاضة جماهيريّة في إطار وضع سياسيّ شديد التقلّب” (21).


إنّ إله الحبّ المجرّد لديتريش بونهوفر (Dietrich Bonhoeffer) أو يسوع الرّاديكاليّ لتيري إيغلتون بالنّسبة لشخص ماركسيّ، هما صنيعتان بشريّتان، أي إسقاطان وهميّان مثلهما مثل الآلهة المتعصّبة لإيان بيزلي (Ian Paisley) أو أسامة بن لادن.

الدّين والسّياسة الاشتراكيّة


ولإنهاء هذا المقال، سنشير بإيجاز إلى أهمّ النّتائج السّياسيّة التي قد تتولّد، وهي قد تولّدت تاريخيّا، عن التّحليل الوارد أعلاه.
أوّلا، وخلافا لاعتقاد شائع (تغذّيه مغالطة معمّمة على نطاق واسع)، فإنّ الاشتراكيّين الماركسيّين يعارضون تماما كلّ فكرة لمنع الدّين. وهذا ليس موقفا جديدا، فقد سبق أن نصّ عليه انغلز صراحة في عام 1874 استجابة لاقتراح من مؤيّدي الاشتراكيّ الفرنسيّ لويس أوغست بلانكي (Louis-Auguste Blanqui). والأسباب التي قدّمها انغلز تظلّ صالحة إلى يومنا هذا:

لإثبات أنّهم الأكثر راديكاليّة من بين الجميع، يلغون الله بمرسوم، كما في عام 1793 :
“فلتتخلّص الكومونة الإنسانيّة إلى الأبد من شبح مآسيها الماضية (الله)، “من هذا المتسبّب” [الإله غير الموجود يغدو مسبّبا!] في بؤسها الحاليّ. لا مكان في الكومونة لكاهن؛ ويجب حظر أيّ مظهر وأيّ تنظيم دينيّ.
وقد وقّع هذه الفتوى القاضية بتحويل النّاس إلى ملحدين اثنان من أعضاء الكومونة وهو ما منحنا فرصة للتأكّد، أوّلا، أنّه يمكننا أن نكتب ما نريد من أوامر على الورق دون فعل أيّ شيء لإنفاذها، وثانيا، أنّ الاضطهاد هو أفضل وسيلة لتعزيز معتقدات غير مرغوب فيها!
“(22).


وبعيدا عن الرّغبة في فرض حظر الدّين، يرى الماركسيّون أنّه ينبغي أن يظلّ مسألة شخصيّة مستقلّة عن الدّولة، وأنّه يجب أن تبقى الحريّة الدّينيّة كاملة سواء في ظلّ الرّأسماليّة أو تحت راية الاشتراكيّة. وقد سبق أن أعرب لينين عن ذلك بوضوح في مقال له عام 1905 بقوله:


لا ينبغي للدّولة أن تتدخّل في الدّين، ويجب ألاّ تكون الجمعيّات الدّينيّة مرتبطة بسلطة الدّولة. يجب أن يكون لكلّ فرد مطلق الحريّة في اعتناق أيّ دين شاء أو إنكار جميع الأديان، أي أن يكون ملحدا على غرار عامّة الاشتراكيّين. لا مجال للتّغاضي عن التّمييز في الحقوق المدنيّة على أساس المعتقدات الدّينيّة. ولا مراء في وجوب إزالة خانة التّعريف بديانة المواطنين في الأوراق الرّسمية“(23).


ولعلّ الاتّجاه الوحيد الذي يراه الماركسيّون للقضاء على الدّين هو أن يتراجع تدريجيّا نتيجة اختفاء الأسباب الاجتماعيّة التي يقوم عليها، أي الاغتراب والاستغلال والقهر، وما إلى ذلك. والاشتراكيّون الماركسيّون، على أيّ حال، يعارضون أيّ امتياز تمنحه الدّولة للدّين، وهم يدعون إلى حلّ كلّ كنيسة رسميّة للدّولة (مثل كنيسة انكلترا).


وما كان للتصوّر العامّ لموقف الماركسيّين حيال الدّين إلاّ أن يتأثّر إلى حدّ كبير بمثال الأنظمة الستالينيّة في روسيا وأوروبّا الشّرقيّة والصّين وكوبا وكوريا الشّماليّة، وغيرها. ولأنّ التقصّي المنهجيّ لهذه الأمثلة غير ممكن من خلال هذا المقال الوجيز، فإنّنا نأمل من قرّاء هذه المجلّة الاقتناع بأنّ تلك الأنظمة لم تكن بأيّ شكل ممثلّة للاشتراكيّة الحقيقيّة أو للماركسيّة. ومع ذلك، فإنّه قد يكون من المفيد الإدلاء ببعض الملاحظات في هذا الشّأن. إنّ القمع السّتالينيّ للدّين غالبا ما بولغ فيه وأسيء فهمه في آن. لقد بولغ فيه بمعنى أنّ الأنظمة السّتالينيّة عموما لم تقمع الدّيانات أو الكنائس الرّئيسيّة، بل تسامحت تجاهها إن لم تشكّل معها تحالفات، شريطة أن تكون سهلة الانقياد لها سياسيّا (وهو ما كانت عليه في العموم). أمّا سوء الفهم، فذلك لأنّ الحالات التي تمّ فيها اضطهاد أفراد أو جماعات دينيّة كانت في المقام الأوّل نتيجة إثارتهم مشاكل سياسيّة، وليس بسبب إيمانهم في حدّ ذاته بصفة أساسيّة، فقد كانت تلك المجتمعات تقمع كلّ معارضة سياسيّة. ويمكن أن نجد نظرة عامّة حول تعامل الدّول “الشّيوعيّة” مع الدّين في الفصل الأخير من كتاب بول سيغل (Paul Siegel) “الخانغ والمناضل” (The Meek and the Militant) (24)، كما توجد دراسة حالة مفيدة بشكل خاصّ حول علاقات الثّورة الرّوسيّة مع أقليّتها المسلمة في مقال ديف كراوتش (Dave Crouch) بعنوان “البلاشفة والإسلام” (The bolsheviks and Islam) (25). ففي هذا المقال، يبيّن كراوتش كيف كان البلاشفة في السّنوات الأولى للثّورة، يتقيّدون تقيّدا صارما بالمبادئ اللّينينيّة المبيّنة أعلاه، ونجاحهم بالتّالي في كسب المسلمين إلى جانبهم، بينما تسبّب صعود الستالينيّة في تعميم السّياسات الاستبداديّة على نطاق واسع من فوق، بما في ذلك قمع الحجاب، وهي السّياسات التي ثبت فشلها الذّريع.


ولتحديد مواقفهم تجاه الحركات الشّعبيّة التي تحمل صبغة دينيّة، لا يعتمد الماركسيّون الاعتقادات الدّينيّة لقيادات الحركة أو لقاعدتها، أو معتقدات الدّين المقصود ولاهوته، نقطة انطلاق، بل الدّور السّياسي للحركة القائمة على القوى الاجتماعيّة وما تمثّله من مصالح.


ولتوضيح كلّ هذا، لننظر في الأدوار التّاريخيّة لكلّ من الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة. لقد كانت الكاثوليكيّة في العصور الوسطى وبداية العصر الحديث دين الأرستقراطيّة الفيوداليّة بالأساس، وكادت تكون بالتّالي رجعيّة في عمومها. وفي المقابل، نزعت البروتستانتيّة الرّاديكاليّة نحو تمثيل البورجوازيّة الصّاعدة، أو العناصر العاميّة الدّنيا التي كانت على يسارها. وقد كان كبار المتمرّدين والثوّار في ذلك الوقت، أمثال توماس منذر (Thomas Munzer) وجون ليبورن (John Lilburne) وجيرالد وينستانلي (Gerald Winstanley) من البروتستانت المتحمّسين، أي متطرّفين وأصوليّين بلغة اليوم. ولكن منذ اللّحظة التي استلم فيها هؤلاء المتمرّدون البرجوازيّون السّلطة في هولندا وانكلترا، شاركوا في ما يسمّيه ماركس “التّراكم البدائيّ لرأس المال”، وتحوّلوا إلى استعماريّين وتجّار رقيق من النّوع الأكثر وحشيّة. لقد تحوّل أوليفر كرومويل (Oliver Cromwell) من ثوريّ قاتل للملوك في انكلترا إلى قامع في إيرلندا (حيث لا يزال اسمه يثير كراهيّة النّاس)، ولا سيّما للفلاحين الكاثوليك. يمكن للبرجوازيّين البروتستانت الهولنديّين أن يكونوا أبطالا في أوروبّا وأبطالا للثّورة الهولنديّة، لكنّهم كانوا المبدعين البائسين للأبارتيد (الفصل العنصريّ) في أفريقيا. ولقد استمرّ الدّور المغرق في الرّجعيّة للكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبّا، وخاصة في جنوبها حيث أيّدت بكلّ همّة الجنرال فرانكو في إسبانيا وأبرمت اتّفاقات مع موسوليني وهتلر. وهي ما تزال قائمة اليوم، في شكل ملطّف، في الأحزاب المحافظة الرّئيسيّة في كلّ من إيطاليا وإسبانيا وجنوب ألمانيا. ولكن الدّول الأوروبيّة التي لا تزال فيها الكاثوليكيّة والدّين بشكل عامّ أقوى، هي إيرلندا وبولندا، حيث تمكّنت الكنيسة، بشكل معتدل جدّا ولكنّه قويّ، من التّماهي مع المعارضة الوطنيّة تجاه القهر.


إنّ أيّ اشتراكيّ ينظر إلى القرن السّابع عشر لا بدّ له من التّماهي على الفور مع المتمرّدين البروتستانت ضدّ الملوك والأباطرة الكاثوليك. أمّا إذا نظر إلى إيرلندا العام 1916 أو بلفاست العام 1970، فإنّه سيشعر بنفسه إلى جانب القوميّين “الكاثوليك” وليس إلى جانب الاتّحاديّين “البروتستانت“. إنّ جميع اليساريّين الذين اعتبروا صعود نقابة “تضامن” (Solidarnosc) في بولندا وكأنّه صراع بين الكاثوليك “المتخلّفين” في مدينة غدانسك (Gdansk) والشّيوعيّين الملحدين “التّقدميّين” في الدّولة السّوفياتيّة، انتهوا إلى جانب المضطهد الإمبرياليّ. وهو ما يتكرّر اليوم في ما يتعلّق بالصّراع بين التّيبت والصّين بعد أن رأيناه بخصوص “الحرب ضدّ الارهاب” والصّراعات في الشّرق الأوسط.


ويمكن تقديم عدّة أمثلة أخرى لدعم وجهة نظرنا. فمن أيّ نوع سيكون الاشتراكيّ الذي يبني موقفه من مالكولم اكس (Malcolm X) على أساس معتقداته الدّينيّة الرّجعيّة بوصفه عضوا في جماعة “أمّة الإسلام” (Nation of Islam)، أو من بوب مارلي بالنّظر فقط لاعتقاده في قداسة الطّاغية العجوز هيلاسيلاسي (Haile Selassie)، أو حتّى من هوغو شافيز (Hugo Chavez) بالنّظر فحسب لكاثوليكيّته المعلنة بصوت عال وإعجابه بالبابا؟ لسوء الحظ، فإنّ بعض الاشتراكيّين المزعومين ممّن ليس لديهم أيّ صعوبة لفهم هذا الأمر بخصوص هوغو شافيز أو بوب مارلي، عاجزون، تحت ضغط الدّعاية البورجوازيّة المكثّفة، على تطبيق نفس المنهج عندما يكون الدّين المستهدف هو الإسلام. ولكي نقدّم الأمور بشيء من التّبسيط، فإنّ فلاّحا فلسطينيّا، مسلما، أمّيا، محافظا، يؤمن بالخرافات ويدعم حركة حماس، هو من وجهة نظر الماركسيّة والاشتراكيّة الدّولية أكثر تقدّميّة من شخص إسرائيليّ متعلّم، ملحد وليبراليّ، يؤيّد الصّهيونيّة (ولو من وجهة نظر نقديّة).


ويترتّب على ذلك أيضا عدم تقبّل الاشتراكيّين الماركسيّين فكرة أن يكون أيّ من أديان الأكثريّة، بطبيعته أو من حيث معتقداته، أكثر تقدّميّة من آخر أو أقلّ منه. ولكي يكون الدّين “أكثريّا“، أي البقاء حيّا على مدى قرون في أماكن وأنظمة اجتماعيّة مختلفة، فإنّه من الضّروري أن تكون لعقائده قدرة تكاد تكون لامتناهية على التغيّر والتكيّف، إذ أنّ الحاسم في هذا الأمر ليس العقيدة بقدر ما هو قاعدة اجتماعيّة في وضعيّة اجتماعيّة محدّدة. وهكذا نجد في الولايات المتّحدة مسيحيّة يمينيّة متطرّفة عنصريّة وإمبرياليّة عند الغالبيّة الأخلاقيّة أو المورمون (Mormons)، وتقليد مسيحي يساريّ مناهض للحرب وللعنصريّة كما عند مارتن لوثر كينغ (Martin Luther King). وفي جنوب أفريقيا، كان هناك مسيحيّون مؤيّدون لنظام الفصل العنصري (Apartheid ) وآخرون معارضون له؛ وفي أمريكا اللاّتينية، كان هناك كاثوليك يمينيّون مؤيّدون لحكم الأوليغارشيّة وداعمون للحكّام المستبدّين، إلى جانب “لاهوت تحرير” عند الكاثوليك اليساريّين؛ وبالطّبع، يوجد للإسلام أشكال متعدّدة ومختلفة، متعارضة في الغالب في ما بينها.


وغنيّ عن الذّكر أنّ الحجّة الرّئيسيّة التي استخدمت لتبرير فكرة أنّ الإسلام على وجه التّحديد دين متخلّف، إنّما ترتكز على المواقف السّائدة في البلدان الإسلاميّة تجاه النّساء والمثليّين. إلاّ أنّه يجب علينا أن نذكّر أولئك الذين يستخدمون تلك الحجج، بأنّ تلك المواقف نفسها كانت سائدة في المجتمعات الغربيّة حتى وقت قريب نسبيّا، بل هي لا تزال موجودة في تعاليم العديد من الكنائس المسيحيّة. ولكن العيب الأساسيّ لهذه الحجّة يعيدنا إلى الأسس الماديّة الماركسيّة، فسرّ العائلة المقدّسة الإسلاميّة يكمن في الأسرة المسلمة الأرضيّة. فليس الوعي الدّيني الإسلاميّ هو ما يحدّد وضع المرأة في المجتمع المسلم، بل إنّ الوضع الحقيقي للمرأة هو الذي يشكّل المعتقدات الدّينيّة للمسلمين. لقد ولد الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة، وانتشر غربا عبر شمال أفريقيا وشرقا عبر آسيا الوسطى. ولمدّة قرون، كان هذا الحزام الكبير بالأساس، فقيرا، متخلّفا وريفيّا، وهو لا يزال إلى اليوم كذلك إلى حدّ كبير. وتشهد مجتمعات أخرى، ذات مستويات تنمية وهياكل اجتماعيّة مشابهة، من إيرلندا إلى الصّين، اضطهادا مماثلا للنّساء وللمثليّين.


وأخيرا، هناك مسألة العلاقة بين الحزب الثّوريّ والعمال المتديّنين. فكلّ حزب من هذا النّوع ينشط في بلد لا يزال فيه الدّين قويّا عند النّاس، وهي حالة معظم أنحاء العالم، يجب أن يحسب لهم حساب، أي أن نقبل حقيقة أنّ الثّورة سيقوم بها العمّال الذين سيظلّون في معظمهم متديّنين. ولئن كان للأغلبيّة السّاحقة من العمّال أن تتخلّص من أوهامها الدّينيّة، فإنّ ذلك لن يكون من خلال البراهين والكتب والكرّاسات، ولكن من خلال المشاركة في النّضال الثّوري، ومن ثمّة من خلال بناء الاشتراكيّة. وفي مثل هذه الحالة، يجب على الحزب ضمان ألاّ تكون الاختلافات الدّينيّة، أو الاختلافات بين المتديّنين وغير المتديّنين، عقبة في طريق وحدة نضال الطّبقة العاملة. أضف إلى ذلك، أنّه بقدر ما يصبح الحزب حزبا جماهيريّا حقيقيّا يقود العمّال في أماكن العمل وفي المجتمع، بقدر ما سيكون في صفوفه فئة من العمّال الذين لا يزالون متديّنيين أو شبه متديّنين. وسيكون رفض هؤلاء العمّال بسبب أوهامهم الدّينيّة عملا طائفيّا ومضادّا للماديّة. بل إنّ ذلك سيكون تقاسما للخطأ الدّينيّ/المثاليّ الذي يرى في الدّين أهمّ عنصر في الوعي، ويعتبر الوعي أهمّ من الممارسة. وفي الوقت نفسه، يجب ألاّ يصبح الحزب حزبا دينيّا، أي حزبا يقوم خطّه السّياسيّ واستراتيجيتّه وتكتيكاته على اعتبارات دينيّة. فالانتصار الثّوري يعني أن يسترشد الحزب بالنّظريّة التي تعبّر عن المصالح الجماعيّة وعن نضال الطّبقة العاملة، أي الماركسيّة. ولذلك يجب على الحزب في هذا المجال أن يكون واثقا من أنّه هو من يثقّف أعضاءه المتدينيّين ويؤثّر عليهم، وليس العكس.


ولقد سبق أن وجد حزب ثوريّ عمل في مثل هذه الحالة، وهو الحزب البلشفيّ. وقد كتب منظّره الأساسيّ (لينين) بشأن هذه المسائل بحكمة ووضوح مقالا في عام 1909 بعنوان “موقف حزب العمّال من الدّين“، فيما يلي بعض المقتطفات منه:


الماركسيّة ماديّة. وبهذا الاعتبار فهي معادية للدّين بشدّة تفوق عداء الماديّين الموسوعيّين في القرن الثّامن عشر أو ماديّة فيورباخ له(…) ولكن الماديّة الجدليّة لماركس وإنغلز تذهب إلى أبعد من ذلك(…) ذلك أنّها تطبّق الفلسفة الماديّة في مجال التّاريخ(…) إنّها تقول إنّه يجب أن نعرف كيف نكافح الدّين، ولذلك يجب أن نفسّر بطريقة ماديّة مصدر إيمان الجماهير ودينها. ولا يمكن محاربة الدّين بالاقتصار على وعظ إيديولوجي مجرّد، يجب علينا أن لا نختزل الأمر في ذلك، بل يجب ربط ذلك النّضال بالممارسة الفعليّة للحركة العمّاليّة التي تستهدف القضاء على الجذور الاجتماعيّة للدّين.


لماذا يستمرّ الدّين…؟ نتيجة جهل النّاس، يردّ التقدّميّ البورجوازي، والرّاديكالي أو الماديّ البورجوازي. لذلك (فليسقط الدّين وليعش الإلحاد طويلا، ونشر الأفكار الإلحاديّة هي مهمّتنا الرّئيسيّة). ويقول الماركسيّون: هذا غير صحيح، إنّه وجهة نظر سطحيّة(…) فهي لا تشرح الجذور العميقة للدّين بما فيه الكفاية، وهي لا تشرحها بطريقة ماديّة بل بطريقة مثاليّة(…) فأعمق جذور الدّين اليوم يتمثّل في الظّروف الاجتماعيّة المترديّة للجماهير الكادحة وعجزها التامّ البيّن في مواجهة القوى العمياء للرّأسماليّة(…) فهل يعني هذا أنّ الكتب التّربويّة المضادّة الدّين ضارّة أو غير ضروريّة؟ لا بالطّبع، ولكنّه يعني وجوب أن تخدم الدّعاية الإلحاديّة للدّيمقراطيّة الاجتماعيّة مهمّتها الأساسيّة، ألا وهي تطوير كفاح طبقة الجماهير المستغلّة ضدّ المستغلّين.


ولنتفرض أنّ البروليتاريا في منطقة ما(…) تتكوّن من فئة متقدّمة من الاشتراكيّبن الدّيمقراطيّين (الاسم الذي كانت تحمله الجماعات الاشتراكيّة الثّوريّة في روسيا) الواعين إلى حدّ ما، وهم ملحدون بالطّبع، ومكوّنة من عمّال متأخّرين(…) يؤمنون بالله ويرتادون الكنيسة أو حتّى واقعين تحت التّأثير المباشر للكاهن المحلّي(…) ولنفترض أيضا أنّ النّضال الاقتصاديّ في هذه المنطقة قد أدّى الى شنّ إضراب. على الماركسيّ في هذه الحالة وضع نجاح حركة الإضراب فوق كلّ اعتبار، والردّ بقوة ضدّ تقسيم العمّال في هذا الصّراع بين ملحدين ومسيحيّين، لا بدّ أن يقف بحزم ضدّ أيّ انقسام من هذا القبيل. وفي مثل هذه الظّروف، قد تكون الدّعاية الإلحاديّة غير ضروريّة وضارّة، لا من جهة التخّوف من استنفار البورجوازيّة الصّغرى للفئات المتأخّرة، أو فقدان مقعد في الانتخابات، وما إلى ذلك، ولكن من أجل إحراز تقدّم حقيقيّ في الصّراع الطّبقيّ، وهو ما سيتكفّل في ظروف المجتمع الرأسماليّ الحديث بجلب العمّال المسيحيّين إلى الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة والإلحاد، بطريقة أفضل مئة مرة من دعاية ملحد صريح.
لايجب علينا أن نقبل جميع العمّال الذين لا يزال يحتفظون بإيمانهم بالله فحسب، بل يجب أن نعمل أيضا على جذبهم إلى صفوف الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ. ولئن كنّا نعارض تماما كلّ إهانة لمعتقداتهم الدّينيّة، إلاّ أنّنا نضمّهم إلينا لتثقيفهم وفقا لروح برنامجنا، وليس لكي يقفوا ضدّه
” (26).
هذه المقتطفات تؤكّد ما جاء في هذا المقال، وهو أنّ التّعامل مع المسألة الدّينيّة بشكل صحيح، وهذا أمر حيويّ جدّا في الحالة السّياسيّة الرّاهنة، لا يقتصر على مجرّد إبداء رأي فيها أو تعامل مرحليّ معها، أو حتى مسألة انتهازيّة انتخابيّة، بل يتجاوز ذلك إلى فهم الأفكار الأساسيّة للماديّة الجدليّة الماركسيّة.

الهوامش والإحالات:


1- Antoine Boulangé: Foulard, laïcité et racisme, l’Étincelle, 2004.
2- Frederick Engels: Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy, in: Marx & Engels, Selected Works, volume 3, Progress, 1989 [1886], pp. 366-367.
3- نفسه، ص 382.
4- Karl Marx & Frederick Engels : The German Ideology, Lawrence & Wishart, 1991 [1845], p. 42.
5- نفسه.
6- Karl Marx & Frederick Engels: Manifesto of the Communist Party, 1848.
7- Karl Marx: Preface to a Contribution to the Critique of Political Economy, Progress, 1977 [1859].
8- Friedrich Engels: Discours sur la tombe de Karl Marx, in: Marx & Engels: Œuvres choisies, Éditions du Progrès, Moscou, 1955] 1883[, p. 177.
9- Léon Trotsky: Le testament, in: Journal d’exil, Gallimard, 1960, p.189.
10- Karl Marx & Frederick Engels: Études philosophiques, Éditions sociales, 1977, p.24.
11- “إنّ إلغاء الدّين بوصفه سعادة وهميّة للشّعب هو طلب للسّعادة الحقيقيّة”، “ونقد الدّين هو(…) نقد وادي الدّموع الذي يمثّل الدّين هالته”؛ “لقد عرّى النّقد القيود من الزّهور الوهميّة التي تغطّيها، ليس لكي يحمل الإنسان قيودا غير وهميّة ومثبطة، بل لكي يلقي القيود ويقطف زهرة الحياة”، “لقد تحوّل نقد السّماء(…) إلى نقد الأرض”، وما إلى ذلك. (المرجع نفسه، صص 25-26).
12- نفس المصدر، ص 25.
13- هذا النصّ غامض وكان موضع خلاف، وقد استشهد به دليلا على معاداة ماركس للساميّة. وقد تحدّث جون روز (John Rose) عن ذلك بالتّفصيل في مقاله في هذا العدد من مجلّة الاشتراكيّة الدّوليّة (International Socialism). انظر أيضا:
Hal Draper: Marx and the Economic-Jew Stereotype, in: Karl Marx’s Theory of Revolution, vol. I: State and Bureaucracy (Monthly Review), 1977; Anindya Bhattacharyya: Marx and Religion, Socialist Worker, n° 4, March 2006.
14- Karl Marx & Frederick Engels: On Religion, Progress, 1957.
15- Karl Marx: Theses on Feuerbach, 1845.
16- Richard Dawkins: The Improbability of God, Free Inquiry, volume 18, n° 4, 1998.
17- يبدو داوكينز متبنيّا هذا الرّأي أو رأيا قريبا منه، انظر:
Richard Dawkins: The God Delusion, Black Swan, 2007, pp. 346-347.
18- Richard Dawkins : Religion’s Misguided Missiles, Guardian, 15 Septembre 2001.
19- ليس من السّهل أن ندرك إلى أيّ مدى وصل هيتشنز. وأنا أقتبس مرّة أخرى من يوتيوب في نقاشه للقسّ آل شاربتون (Al Sharpton): “أنت ترى أنّني لا أحبّ أعدائنا، وأنّني لا أحبّ من يحبّهم. أنا أكره أعدائنا وأعتقد أنّه يجب قتلهم(…) وأنا متأكّد تماما أنّه لا ينبغي أن يكون لأيّ بلد آخر ميزانيّة تهدّد ميزانيّتنا، وأنا لست عاطفيّا حيال ذلك”. وهو يقصد بـ”أعدائنا” و”ميزانيّتنا” أعداء الامبرياليّة الأمريكيّة وميزانيّتها.
20- Terry Eagleton: Lunging, Flailing, Mispunching, London Review of Books, 19 Octobre 2006.
21-  نفسه.
22- Karl Marx & Frederick Engels: On Religion, Progress, 1957.
23- Vladimir Lenin: Socialism and Religion, in: Collected Works, volume 10, Progress, 1965 [1905].
24- Paul Siegel: The Meek and the Militant-Religion and Power Across the World, Zed, 1986.
25- Dave Crouch: The Bolsheviks and Islam, International Socialism n° 110, 2006.
26- Vladimir Lenin: The Attitude of the Workers Party to Religion, in: Collected Works, volume 15, Progress, 1973 [1909].

 

 

جون مولينو John Molyneux

المصدر: الأوان

التعليقات

تحية طيبة من الأمانة العلميّة أن يتمّ ذكر اسم مترجم هذا المقال... أرجو تدارك ذلك (الجمل): شكرا للتنبيه

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...