فواتير صفقة القرن

25-05-2017

فواتير صفقة القرن

الفواتير السياسية والاستراتيجية أهم وأخطر من الفواتير الاقتصادية والتجارية.
بلغة الأرقام، حصد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في زيارته للسعودية عقوداً ومشروعات تتجاوز في بعض التقديرات حاجز الـ ٣٨٠ مليار دولار، على عشر سنوات. هذه بذاتها تستحق أن توصف بـ«صفقة القرن».

بالنسبة إلى ترامب المأزوم بقسوة داخلياً ويتهدده شبح العزل من منصبه على خلفية اتهامات خطيرة ينظر فيها الكونغرس عن طبيعة علاقاته مع روسيا أثناء الانتخابات الرئاسية، فإنّ الصفقة، التي لم يحز مثلها رئيس أميركي آخر، قد تساعد في تثبيته على كرسيه في البيت الأبيض.
هنا يتبدى اعتباران متعارضان، كلاهما يحاول أن يطوّق الآخر. الأول أنّ ضخ أموال هائلة في شرايين الاقتصاد الأميركي ــ ينشط قدرته التنافسية ويوفر مزيداً من الوظائف ــ ويخفف من الضغوط عليه. والثاني، أنّ قوة المعارضة في الميديا وداخل الحزب الديموقراطي والأوساط الحديثة في المجتمع الأميركي تطلب أن تمضي في مساءلته إلى آخر الشوط حتى عزله مهما كانت صفقاته.
كان لافتاً في مساء إعلان صفقة الرياض أن محطة الـ«CNN» بثت فيلماً قصيراً بعنوان «تاريخ ووترغيت»، في إشارة إلى أنه قد يلقى مصير الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي غادر منصبه على خلفية فضيحة التجسس على مقر الحزب الديموقراطي.
وبالنسبة إلى السعودية، فإن الصفقة الهائلة أقرب إلى «الجزية السياسية» لتفادي الضغوط المحتملة عليها من رئيس أميركي أعلن أثناء حملته الانتخابية أن من يريد الحماية عليه أن يدفع. هكذا، كان الدفع مقابل الحماية الأمنية.
بصياغة أخرى، بدت العملية كلها كـ«سطو مسلح تحت تهديد الخوف» على الخزائن السعودية.
من دواعي الخوف المفرط الأجواء السلبية التي تبدت في الكونغرس عند إقرار قانون «جاستا» بما يشبه الإجماع. بمقتضى ذلك القانون، فإن الملاحقات القضائية قد تطال أعداداً كبيرة من السعوديين أمام المحاكم الأميركية للحصول على تعويضات كبيرة لأهالى ضحايا «١١ سبتمبر». هكذا، كان الدفع مقابل خفض الضغوط.
ثم لم يكن خافياً أن أحد دواعي الصفقة، التي تستنزف الاقتصاد السعودي وتنهكه، تمكين ولي ولي العهد محمد بن سلمان، من خلافة والده مباشرة وإزاحة ولي العهد محمد بن نايف، الذي يحظى بثقة المؤسسات الأميركية نظراً إلى دوره في الصدام مع الجماعات المتطرفة. هكذا، كان الدفع مقابل خلافة الابن لأبيه.
يستطيع دونالد ترامب الآن أن يقول إن ما تعهد به أثناء حملته الانتخابية قد تحقق بأكثر من أي توقع وحساب، وإن الأطراف التي هددها بادرت إلى الدفع قبل أي حركة ضغط فعلي. وذلك لا يؤسس لأي قيادة سعودية في الإقليم.
القيادة تعني امتلاك القرار المستقل والقدرة على الحركة المستقلة وبناء تصورات لها صفة النفاذ العام. تلك اعتبارات صورة تقوضت تماماً في قمم الرياض الأميركية العربية الإسلامية.
كان مثيراً أن عدداً كبيراً من الذين شاركوا فيها لم يطّلعوا بصورة مسبقة على ما تضمنه بيان الرياض من التزامات، وأخطرها ما أطلق عليه «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي».
وزير الخارجية اللبناني ــ كمثال ــ قال إنه فوجئ بما احتواه أثناء عودته بالطائرة إلى بلاده، كأن الانضمام إلى مثل هذه الأحلاف العسكرية يجري بالإخطار.
اسم التحالف بذاته كاشف ودال على نوع الترتيبات التي يُخطط لها في الإقليم. لم يوصف بـ«التحالف العربي» ــ كالذي أعلنته السعودية من طرف واحد للحرب في اليمن، ولم ينضم إليه أي جيش عربي خارج منطقة الخليج. ولم يوصف بـ«التحالف الإسلامي» ــ كالذي أعلنته تالياً من طرف واحد أيضاً دون تشاور مع أي دولة إسلامية، ومات في مهده. ولم يوصف بـ«الناتو العربي» ــ وهو صلب المشروع حتى لا تلصق الهوية العربية به، فهذه خارج معادلات الشرق الأوسط الجديد، التي بشر بها الرئيس الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز، وتبنتها إدارات أميركية متعاقبة.
من العنوان يُقرأ الخطاب، كما يقول المصريون، وهو يشير مباشرة إلى إسرائيل والتطبيع العسكري والاستخباري والاقتصادي معها، من دون أي انسحابات من الأراضي المحتلة منذ عام ١٩٦٧. بالمعنى السياسي والاستراتيجي، هنا صلب «صفقة القرن».
هذه الصفقة تعني التطبيع المجاني مع إسرائيل والاقتتال المجاني مع إيران. لا يمكن أن تعزى تصريحات ترامب، في الرياض وتل أبيب، عن أولوية الخطر الإيراني إلي أي ضغط سعودي. العامل الإسرائيلي هو الأساس، والقصة طويلة منذ صعود الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩.
بنص اتفاق الرياض، فإنّ «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي» يضم ٣٤ ألف جندي للمشاركة عند الحاجة في أي عمليات عسكرية في العراق وسوريا.
السؤال الأول الذي يطرح نفسه: لماذا العراق وسوريا بالذات واستبعاد أي مناطق أخرى للنزاعات الدموية في الإقليم مثل ليبيا واليمن؟
يكاد أن يكون مستحيلاً على مثل هذا التحالف التدخل العسكري في العراق، فالولايات المتحدة تشارك بصيغ عديدة في العمليات الجارية في الموصل ضد «داعش»، وإيران ــ العدو المعلن للتحالف المزمع ــ حاضرة في المشهد ومؤثرة فيه. حقائق المشهد العراقي لها الكلمة الأخيرة والمصالح تحكم في النهاية، واستبعاد ليبيا واليمن تعبير عن أولويات تتناقض في الجوهر مع الأولويات المصرية والسعودية على التوالي. كما أن استهداف سوريا بالتحالف العسكري دونه تعقيدات كثيرة يصعب تجاوزها بأي حساب بالنظر إلى الحضور الروسي في ميادين القتال، لكن الاحتمال يظل قائماً وفواتيره مرعبة.
السؤال الثاني: ممن سوف تتكون القوة الضاربة في هذا التحالف؟
بعض الإجابات الغربية المنشورة ترجح أنها سوف تكون من مصر والأردن. هذه ليست مسألة يسيرة مصرياً، فليست هناك مصلحة واحدة في التورط في مثل هذا الحلف، أو إرسال قوات إلى الخارج للقتال بالنيابة عن آخرين. كما أن الإرث الوطني في رفض الأحلاف العسكرية عائق لا يمكن تجاهل عواقب تخطيه.
كان لافتاً في كلمة الرئيس المصري في قمة الرياض أنه لم يذكر إيران مرة واحدة، على عكس الكلمات الأخرى التي تبارت في إدانتها. الموقف المتحفظ إشارة لها معناها وتستحق المضي إلى الأمام لا التوقف في منتصف الطريق، أو الارتداد إلى الخلف تحت وطأة الضغوط. الإشارة نفسها تعني نوعاً من الممانعة في الانجراف باحترابات مذهبية تتصادم مع تقاليد مصرية عتيدة على مدى العقود والقرون. إذا رفضت مصر، لن يُكتب لتحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي أي وجود وستذروه رياح الخريف. وإذا شاركت، فإن أبواب الجحيم سوف تفتح على مصاريعها.
السؤال الثالث: لماذا أجلت الإجراءات التنفيذية لهذا التحالف إلى العام المقبل ٢٠١٨ ولم يُشرع فيها فوراً؟ أقرب الإجابات إلى المنطق أن حجم التعقيدات يُرجح الفشل المبكر، وأن المؤسسات الأميركية تحتاج إلى وقت إضافي حتى تتدبر الحسابات قبل أي مجازفات تضرب مصالحها.
بشكل أو بآخر، تبدو الفكرة استجابة ما للمخاوف السعودية والتعجل الإسرائيلي، فضلاً عن أنها تتسق مع انحيازات ترامب، لكن الأمور ليست بالسهولة التي بدت عليها في الرياض.
والسؤال الرابع: ما عواقب أي صدامات محتملة مع إيران وحزب الله وحركة حماس على الوضع العام في الإقليم؟
إنه الانهيار الكامل الذي لن يفضي إلى أي مكسب لأي طرف، باستثناء إسرائيل. العواقب تسرّع بسيناريوات التقسيم على أساس مذهبي وعرقي ودخول الإقليم في حروب مذهبية بلا نهاية. مشرق عربي مفكك في سوريا والعراق ومرتهن في لبنان والأردن وتحت حد الخطر في كل مكان آخر، بما في ذلك مصر والسعودية نفسها. وتمكين إسرائيلي كامل من مقادير الإقليم بلا أي التزامات وفق المرجعيات الدولية. ‫في تخطيط ترامب، أن تجرى مفاوضات فلسطينية إسرائىلية تحت رعايته حول ملفات الوضع النهائي بصفقات منفصلة، لا صلة بين ملف وآخر.‬
هكذا تمضي «صفقة القرن» إلى مذبحة لأي حق فلسطيني، أو معني في العالم العربي.‬ وهذه هي الصفقة الكبرى في نهاية اللعبة.‬

عبد الله السناوي

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...