الثورة السورية: أفول الكذبات الكبرى

02-06-2017

الثورة السورية: أفول الكذبات الكبرى

أفضل ما سمعته خلال السنوات العجاف الأخيرة، هو ما قاله الكويتي طارق السويدان (ولا أعلم حقيقةً إن كانت المقولة له أم هو نقلها عن غيره، وردّدها في لقاءاته التلفزيونية التبشيرية والمحرّضة على الثورات العربية)، وتتلخص المقولة بأن الثورة السورية هي الثورة الكاشفة.

لعلّ أهم ما كشفته الانتخابات الأميركية وفوز دونالد ترامب بها عكس كلّ التوقعات وتقارير التقصي والضخ الإعلامي المتواصل، هو أنه نبّه بقوة إلى تلك الهوّة المتسعة بين ما يريده الإعلام وما يفرضه الواقع، وأن تلك الكذبات الكبرى من نوع أن: الإعلام المعولم هو صورة الواقع ومرآته، ما هي إلا تضليل وتدجيل على الناس. فصار الإعلام بملحقاته المختلفة يذهب بعيداً في سحب وجرّ الناس إلى مواهبه المفضلة في تغيير مزاجها والتلاعب بمشاعرها وأحاسيسها وفرض أنماط مقترحة من الاختيارات الشاذة عليها. لا يشمل ذلك المجالات السياسية بما تمثّله من قدرات سيطرة وتحكم على العالم فحسب، بل يندرج على الطيف الواسع الذي تغطيه وسائل الإعلام في الحياة، يبدأ بالموسيقى والطعام والفنون والثقافة، ولا ينتهي بالعقائد والسياسات.
يبدو أن استراتيجية الدولة السورية وحلفائها في الدفاع عن كيانها الجغرافي وموقعها المقاوم وقرارها المستقل يحقق نجاحاً ملحوظاً، ويعزز الثقة أن عملية الطرد إلى الحواف، والنبذ نحو المحيط، أنجزت أمناً مقبولاً لمناطق واسعة نظيفة من «الثوار والمجاهدين». فبعد مصالحات دمشق وحمص وإرسال المسلحين إلى مدينة إدلب من أرياف دمشق وحمص وحلب، لا يعلم المرء أيّ مصير وأيّ انتصار ما زال يبشّر به ثوار الفنادق ومفكرو البترودولار في دول النفط والمحميات الأمّركية وجيفارات الخارج والزمن الأغبر في بلدان البرد والشتات! الذين مازالوا على أنغام وألحان مشغليهم وجوقاتهم التحريضية لتهديم سوريا وتخريبها وتهجير أهلها.
فبعد منظر الخروج الكبير والانهزام المذل الأسطوري لقوافل ثوار «آخر طبعة» وضلال الجهاديين من حلب في أواخر شهر كانون الأول 2016، بعد أن اجتاحوها واستباحوا أكثر من نصفها لأكثر من أربع سنوات، وتركوها منظراً للاعتبار الإنساني وأخذ العبرة المأساوية التي سببتها ثورات «الربيع العربي»، كل ذلك يجعل ثورة الأكاذيب الكبرى في سوريا تلفظ أنفاسها الأخيرة، وكل ما سيأتي لاحقاً هو تصفية في هامش المجريات، وليس في صلبها أو أساسها، ستجري الأمور - كما قلنا مراراً - كشلال حلول متدفقة، وكلّ من لا يلتقط ما حدث في حلب من قهر لمشاريع امتلاك سوريا وتغيير مسارها ومصيرها وقرارها هو: واهم جاهل حاقد غرائزي مرتزق يعيش في عالم افتراضي كمعظم ثوار الناتو ومنتظري المحررين الغرباء وسلاطين الزمن الانكشاري.
ورغم أننا اعتدنا الكذبات الكبرى - نحن أهالي حلب وسوريا المتبقين على الأرض - لكن لا بأس من التذكير بين فترة وأخرى، بأن ما حدث منذ أكثر من ٥ سنوات في سوريا عامة وفي حلب خاصة هو عملية اجتياح مسلح للمدن والبلدات السورية، وليس عصياناً مدنياً أو تمرّداً مسلحاً من الأهالي أصحاب البيوت، قوبلت هذه الحقيقة الساطعة كالشمس بالبروباغاندا الإعلامية الإخوانية المغذاة بالنفط والغاز المسال، بأن الشعب السوري يدافع عن نفسه وبيوته، وتم التعامي والتعتيم على أمثلة اجتياح مسلح، فاقعة، واضحة، وناصعة طوال تاريخ الأزمة السورية، ليس بدايتها اجتياح الجزء الشرقي من حلب ١٩-٧-٢٠١٢ مروراً باجتياحات معلولا وكسب وإدلب والرقة، وما جلبته على سوريا من جنسيات غريبة احتلت بيوت السوريين وبناهم التحتية، وليس آخرها الاجتياحات المسلّحة في ريف حماة ومحاولات اقتحام أسوار دمشق بشكل مشابه لما جرى في غربي حلب في مشاريع السكن (مشروع ١٠٧٠ ومشروع ٣٠٠٠ شقة وضاحية الأسد)، وما أدت له من نزوح وتشريد مئات الألوف من السوريين، أصحاب البيوت الحقيقيين.
صور مضللة تُصدَّر كلَّ مرة لـ«ثوار» يحتلون بيوت الناس وينهبونها، ويكونون سبباً مباشراً ومتكرراً في خرابها، بينما ستفاجئنا الصور في الإعلام النفطي الخليجي بأن ما يحدث تحرير وحماية ودفاع عن النفس. وللأسف سنجد جوقات ضخمة من المضللين وجيفارات الخارج يهلّلون ويقيمون حفلات الانتصار والتشفي بأبناء سوريا الصامدين الشرفاء المتبقين في بيوتهم تحت التهديد وتحت القصف اليومي، ما يشكّل الفرق الجوهري في النظرة لما يحدث في سوريا بين من يعيش المجريات على الأرض حقيقةً، وبين من يتابعها من الخارج ومن بعيد عبر مقاطع اليوتيوب وصور النت.
لا تنطبق سردية المدن السنية المظلومة والمهمشة مهما كثر مردّدوها والمتاجرون بها على سوريا بمدنها وريفها خاصة في حلب. حيث استمرت حلب كإحدى أهم المدن الصناعية الأشهر في الشرق الأوسط، وأمنت الدولة السورية في العقود الأخيرة كلّ الظروف الملائمة لنهضة اقتصادية غير مسبوقة ولنسب نمو مرتفعة، ونسب بطالة منخفضة، ويجب تذكّر الإنجازات الاقتصادية المهولة للاقتصاد السوري في حلب من بناء المناطق الصناعية المتعددة، وحالة الانتعاش المالي التي لمسها السوريون عبر ارتفاع مداخيلهم. وتبقى الأسئلة المتعلقة بما آلت إليه أوضاع حلب خاصة وسوريا عامة موجهة للثورة السورية، وهي المستجد الذي دخل الحياة الحلبية عنوةً في الخمس سنوات الأخيرة، ماذا حلّ بحلب والحلبيين؟ وسوريا والسوريين ولماذا؟
حلب لم تكن يوماً موئلاً خصباً ولا مستقرّاً صالحاً أو بيئة حاضنة لهذه اللوثة المجنونة المأجورة التي سموها «ثورة سورية»، وظلت حلب متشككةً من هذا الفوران والجنون الطائفي المذهبي طوال أكثر من سنة ونصف، ولعنه الحلبيون بكلّ الألفاظ والعبارات، حتى جاءها الاجتياح المسلح من أرياف إدلب وشمال حلب ومضللي الجهاد والغرباء كعقاب إجرامي وجزاء انتقامي وعلى حدّ قول أحدهم: «إن لم تنضم مدينة حلب إلى الثورة فسنقوم بجلب الثورة إلى حلب». تهديد نُفّذ بعد فشل كل المواعيد الثورية المقترحة في حلب.
الآن سيتوقف شلال الأكاذيب الكبرى حول حلب بالأدلة الدامغة والصور الصادقة، وستبدأ الحقائق بالظهور واضحة ناصعةً كالشمس المشرقة التي تبدّد التضليل والتلفيق.
شاهدنا مخازن أدوية أوروبية، ومشافي ميدانية متطورة جداً، ومستودعات للطعام والمساعدات الإنسانية، ومعامل التصنيع الحربي المتطورة، ونقلت الشاشات عشرات الألوف من السوريين تخرج من سطوة المسلحين، وتنقل روايتها عن حجم الظلم والقهر والقمع الذي عاشوا فيه، في ظل المجموعات المسلحة. كلّ ذلك يكشف حقيقة الحرب الإعلامية القذرة، وكيف يُحوَّل الذئب إلى ضحية، ويُبرّأ المسلحون من تجويع المدنيين وحرمانهم الطعام والدواء.
ورغم بعض المشاكل التي رافقت عودة الأهالي إلى أماكن سكنهم في مدينة حلب، فقد كشفت أن نغمة التغيير الديمغرافي للمناطق التي يحرّرها الجيش أو تخضع للمصالحات الوطنية إنما هي من كذبات التضليل الكبرى، وما تبع ذلك أو سبقه من تضخيم لأعداد الحلبيين الذين كانوا خاضعين لسطوة المسلحين في الحارات الشرقية، وظهر أن من خرج من حلب بمجملهم لم يتجاوزوا مع عوائلهم ٤٠ ألفاً، معظمهم من أرياف إدلب وحلب وحماة، ونكاد نجزم أن الاجتياح المسلح لعصابات المعارضات، هو من قام بالتغيير والسطو المسلح على أملاك أهالي حلب وأرزاقهم، وأن التحرير الأخير للحارات شرقي حلب هو ما أعادها إلى مالكيها الحقيقيين.
ونتساءل مع كثيرين: متى سيبدأ التوثيق الجدي والصحيح والصادق للسردية الوطنية السورية، لما حدث خلال السنوات العجاف والعشرية السوداء السورية؟ ومن سيقوم بذلك؟ بعيداً عن البروباغندات الإعلامية النفطية والعولمية، صاحبة المشاريع الخاصة بتدمير سوريا لامتلاك قرارها ومصيرها، فحلب تعدّ الكنز البشري الكاشف والمنطقة الأكثر مصداقية لرواية قصة الثورات العربية والربيع العربي المسخ في التوقيت الغربي.
بالفعل تبدو اليوم الثورة السورية أنها الثورة الكاشفة، أي والله إنها الكاشفة! فقد انكشف كلّ شيء، كم كشفت وكم عرّت وكم أزالت أقنعة! كم كشفت من تجار الدين وأصحاب اللحى المستأجَرة، وكم عرّت شيوخ الضلال ومروجي الأحزاب والفرق الضالة.
كم كشفت من حكام محميات عربية وسلاطين مجانيين أمنتهم سوريا وفتحت لهم الأبواب، وأجلستهم في صدر عرينها، فغدروا بها وطعنوها من خلف، فأذاقهم الله جزاء الغادرين الضالين.
وكم تجمع وكم تحشّد وكم تبَيتَ على سوريا بالليالي، فنقض الله نسجهم وقدِم إلى ما عملوا فجعله هباء منثوراً.
لاحظوا كيف تتفكك دوائر السوء حول سوريا، وكيف يتساقط رجال ونساء السوء تحت أنظار السوريين وأبصارهم.
- لم تعتد سورية على الغدر والكذب والدجل، مشمولة بالخير والبركات الربانية، وهي الأرض المشرفة المحمية برعاية الله وأجنحة الملائكة وبدعاء الأنبياء وبركة الصالحين المتقين.
- وأهلها وهم من هم، وفيهم لا يظهر منافقوها على متقيها، وفيهم سواعد الشجعان الذين يبذلون الدماء الطاهرة شهداء أحياء، لصدّ المعتدين الضلال تتار العصر الأخير، ليستمروا في حماية الأرض المكرمة الوحيدة، يوم تقوم الفتن وتنتشر في أصقاع العالم.
- ولأن أهل بلاد الشام هم أهل الفئة المرابطة حول بيت المقدس وأكناف بيت المقدس لا يهمهم الفُسّاق والضلال والمعتدين والمتألهين على الله.
- أهل الشام هم وعد الله ووعد رسوله ونصرهم قدر لا يتبدل، يعرفون ذلك بقرار قلوبهم الواعية الحاضرة المطمئنة، ويعلّمونه لأولادهم كتراتيل مباركة وأحاديث شريفة وآيات مقدسة، وعلى الجهّال والضلّال من صحارى الربع الخالي وفيافي القفار النفطية وجزر الأعور الدجال في نجد ورهط تميم اكتشاف ذلك بأنفسهم الآثمة.
هذه بضاعتكم رُدّت إليكم، لم تناسبنا ولم نحبها، لم تقنعونا بحضارتكم أو ثورتكم أو ديمقراطيتكم أو دينكم أو مذهبكم أو شرعكم، أيها «الثوار»!
ضبضبوا أغراضكم وغطوا نهبكم فوق حافلات العار والشنار، وأحرقوا خلفكم كلّ سلبكم وسحتكم، ولا تبقوا أثراً في هوائنا ومائنا وأرضنا لكم، أيها «الأحرار»! واتركوا الثلوج والأمطار تغسل أرضنا مما قد مرّ عليها من عاركم ومن دماركم، واتركونا لديننا ولشرعنا وخلقنا الحسن وأرضنا المطهار، وانقلعوا لديار أسيادكم وأعرابكم وسلاطينكم، ولظلام نهجكم ومصيركم، يا ذيول العار!

عبد المعين زريق

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...