الحرب الدائرة بين الإيديولوجيا والشعر … بين البورجوازية والفردية الرومنسية والالتزام.. أين الشعر؟

05-09-2017

الحرب الدائرة بين الإيديولوجيا والشعر … بين البورجوازية والفردية الرومنسية والالتزام.. أين الشعر؟

تتسلل الإيديولوجيا عادة في طيات النص الشعري؛ بحيث يستطيع تأدية رسالته وملامسة المشترك الإنساني.الحرب الدائرة بين الإيديولوجيا والشعر … بين البورجوازية والفردية الرومنسية والالتزام.. أين الشعر؟

أما إذا أطلت بشكل واضح داخل النص فإنها تعيق تحقيق هدف الشاعر في الدخول إلى دائرة التقاطعات الإنسانية الأساس؛ وتحصر إمكانية تقبّل نصه في إطار من يتفقون معه في الإيديولوجيا فقط.

ولقد ألقت الإيديولوجيا بحطامها على النقد، خاصة في زمن شيوع الواقعية الاشتراكية، فظهر النقد الإيديولوجي، وما يطلق عليه النقد الاجتماعي، ومن رواده العرب حسين مروة. حين دخل مفهوم الالتزام إلى الأدب، جر وراءه الإيديولوجيا، وانعكس ذلك على النقد الذي راح يبحث في النص الشعري عن مدى تمثيله لمجتمع الشاعر عامة ولطبقته خاصة، كما اهتم بدراسة الشعر من زاوية تجسيده للصراع الطبقي ومدى تأثيره الإيجابي فيه. وازداد تأكيد قضية «الموقف» وهو أن يكون للأديب موقف يتجلى في نصه. هذا الموقف الذي شذبته الحداثة، وتحول مع التنظير النقدي لقصيدة النثر إلى ما يسمى «الرؤيا». وفي هذا السياق يمكن تأمل الفروق في مفهوم «الرؤيا» بين أدونيس وأنسي الحاج من جهة، وبين عبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي من جهة أخرى.

الأدب هو موقف الأديب من المجتمع

ومن ضمن النظريات الأدبية المختلفة التي سايرت التاريخ العام للأدب، نجد أن الأدب الكلاسيكي قد حاكى الإيديولوجيا الإقطاعية ببعدها البرجوازي، على حين حررت الثورة الفرنسية الإنسان من العبودية فتغنى الأدب بالذات الفردية بنزعة رومانسية، أما أتباع ماركس من الأدباء، فأبدعوا أدبا يتماشى والنظرية الاجتماعية الماركسية فيما يعرف بأدب التصوير والالتزام، وآمن دعاة الخلق الفني بالأدب كياناً قائماً بنفسه، خالياً من أي إيديولوجيا، فنادوا بالفن للفن، وهم بهروبهم من النظريات قد سقطوا فيها، فحتى الفن للفن إيديولوجيا تستمد فلسفتها من الفلسفة الوجودية تارة والشكلانية الروسية تارة أخرى، حيث جعلت من الأدب كياناً لغوياً فقط، الإيديولوجيا إذاً، مجموعة من المواقف المحددة المتسقة، والأدب من ناحية ثانية هو التعبير بالكلمة عن موقف الأديب من المجتمع أو من الحياة أو ممن حوله.

الشعرية المؤدلجة إسلامياً

يرجح تاريخياً أيضاً أن خفوت شـــعرية حســـان بعد الإسلام يســـتدعينا إلى قراءة ما يســـمى اليوم «الأدب الإسلامي»، فإذا كانت الحقبة الزمنية الفاصلة بيننا وبين حســـان بن ثابت قد مدت بيننا ضباباً يحول دون وضوح الرؤية، فإن الأدب الإسلامي اليوم هو الوليد الشرعي لتلك الحقبة الإسلامية الأولى. الأدب الإسلامي «بصفة عامة» هو أدب قائم على «رسالة واضحة»، هذه الرسالة قد تشمل جميع جوانب الحياة، فهي أحياناً تكون اجتماعية وأحياناً عقائدية وأحياناً تربوية تهذيبية، بمعنى أنه أدب مخصص للدفاع عن العقيدة- الإيديولوجيا بكامل أبعادها الحياتية، ولعل ذاك التوجه «الإرشادي» أو «النصحي» الذي يبدو جلياً في الأدب الإسلامي هو ما جعل النقاد يرددون أن الأدب الإسلامي لا يلامس جوهر الشعر، باعتبار أن الأدب الإسلامي الموجود بين أيدينا اليوم هو أدب قائم في أغلبيته على الخطابية والمباشرة التي لا تتلاءم مع الشعر.

إن القصيدة بوصفها عملاً فنياً من حيث تكامل عناصرها الفنية تحقق نجاحها من خلال التداخل بين عنصري الفن والمضمون وليس هناك قيمة حقيقية لعمل فني لا تتمثل فيه علاقة التأثير المتبادل بين هذين العنصرين، ومن ثم يكشف النقد السليم عن خطأ في تمثل طبيعة العمل الفني إذا أقيم الشعر على أساس إيديولوجي صرف كما يكشف عن خطأ أيضاً إذا أقيم الشعر على عنصر جمالي صرف، فالموقف الإيديولوجي وحده لا يصنع العمل الفني وكذلك يفقد العمل الفني وزنه حينما يخلو من موقف. إن بين هذين العنصرين تداخلاً، فهما في الوقت الذي يصنعان فيه بنية فنية موحدة إذا بأحدها ينعكس على الآخر فيتأثر به. ولا شك أن ثقافة الشاعر ومعرفته ضروريتان في رسم خطوط هذا التداخل بين العنصرين فمن شأنهما أن تساعدا على بلورة الموقف والفن في القصيدة.

أليس من العسف الربط بين شعر مشغول بهَمٍّ محدّد والإيديولوجيا؟

يبدو الأقرب إلى هذا التوجه تحليلات حنا أرندت القائلة إن الإيديولوجيا هي عموماً رديف للظاهرة الشمولية وإنها تشكل نسقا تأويلياً نهائياً للعالم وهي تدّعي انطواء العلم كله بين جناحيها وأنها على دراية كلية بماضي العالم ومستقبله (وهذا ما كان ماركس في الحقيقة يقف ضده تماماً). مَنْ مِن الشعراء العرب يمكن أن يزعم امتلاكه نسقاً تأويلياً نهائياً للعالم ومعرفة كاملة بماضي العالم ومستقبله لينطبق عليه قناع الإيديولوجيا البشع؟. لو أننا فتشنا ملياً في الشعر العربي لوجدنا أن أحد أهم رموز الشعر العربي المعاصر هو من زعم دوماً امتلاك هذه الرؤية، هذه الإيديولوجيا، وهو لا يوضع في إطار توصيف «الإيديولوجيا»، لسبب يفوت على النقد العربي، وعليه ألا يفوتنا. من وُصِّفَ بذاك التوصيف بالأحرى هم الشعراء المهمومون بمشكل إنساني ووجودي ما.

أليس من العسف الربط بين شعر مشغول بهَمٍّ محدّد والإيديولوجيا؟. نحن هنا أمام منطق (تلفيقي)، لأنه يُلزِمُ الفعل الإنساني والوجودي والفكريّ إلزاماً الدخولَ في حقل افتراضي: الإيديولوجيا مُسْبَقة الصنع. هكذا استخدم المصطلح في الحقيقة خلال السنوات الأخيرة. تلفيقي أيضاً لأن فعلاً إنسانياً مشدوداً لنسغ فكرٍ ما لم يُنتج بالضرورة شعراً باهتاً مثقلاً بالإيديولوجيا الكريهة هذه. إن الانشداد إلى نبض الواقع وحركة الأشياء وحتى إلى السياسة بمعناها اليوناني، من جهة أخرى، ليس رديفا للإيديولوجيا. لو أن العالم الخارجي وحده من يتحكم بالمنجزات الجمالية والشعريات، لوجّب نفي أدباء ومفكرين وشعراء من تاريخ الأدب لأنهم ظهروا في فترات مُلتبسَة، بل منحطة كما قد يُقال، والمتنبي على رأسهم مادام قد أبدع في فترة «انحطاط سياسي» من النمط الذي يصفه الواصفون، بل عمل في بلاطات الأمراء والحكام وكان له «طموحٌ سياسيّ» لم يفتأ يلعب أحابيل السياسة من أجله. هذا الدرس التاريخي لن يقنع النقد المحلي لأنه مهموم بأمر آخر، ولأنه يستثمر الفشل الذريع الذي أوصلت إليه السياسة منذ سنوات السبعينيات في العالم العربي، بما في ذلك في الحقلان الأدبي والشعري، والمرارة التي تركتها فاعلة في ثلوب المتابعين الباحثين.

أحمد محمد السح - الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...