ماركس وانغلز: صداقة غيّرت وجه التاريخ

24-01-2018

ماركس وانغلز: صداقة غيّرت وجه التاريخ

 

منذ القرن التاسع عشر إلى وقتنا الراهن، بذلت الرأسماليّة بأذرعها المختلفة جهوداً مكثفة في تغييب الفكر الماركسي وتشويه الشيوعية، لا سيّما بعد ثورة 1917 ولاحقاً على يد المنظومة الإمبراطوريّة الأميركيّة خلال الحرب الباردة. ولعل واحداً من أهم تكتيكات تلك الحرب كان ربط صورة كارل ماركس العجوز (الجليل) المتعب بلحيته الضخمة بكل فظائع الستالينيّة وأعمال العنف المنسوبة فعلاً أو تزويراً لليساريين.

بل إن تمثالاً له على تلك الصورة معروض في متحف الشمع (مدام توسو) في لندن بين أنجيلا ميركل ومارلين ديتريتش. صانع الأفلام والمخرج الهاييتي راوول بيك أراد تقديم ماركس للأجيال الجديدة، فاختار بحسه الفني الرفيع أن يهرب من تلك الصورة/ الصنم كما جعلتها الرأسماليّة، نحو لحظة مبكرة من عمر هذا الفيلسوف المذهل الذي غيّر شكل التاريخ المعاصر - إلى الأفضل أو الأسوأ بحسب موقعك الطبقي طبعاً - فكان «كارل مارس شاباً» (2017). اسم الفيلم مراوغ بعض الشيء، ربما تعبيراً عن هذا السعي الواعي من المخرج للانسحاب من الصورة التقليدية لماركس أكثر من وصفه لأبعاد القصة الدرامية التي تسجل في 118 دقيقة عشيّة التقاء المفكر الألماني الشاب (26 عاماً) كارل ماركس اللاجئ من بلاده ألمانيا إلى باريس، بالبرجوازي الثوري الآتي من مانشستر فريدريك إنغلز عام 1843، وكيف تكثّفت صداقتهما المعقدة لتنتهي تلك المرحلة وفق الفيلم بإطلاقهما المشترك للنص المؤسس للشيوعية (المانيفيستو) عام 1848. «كارل ماركس شاباً» يتبع ربما اتجاهاً في السينما المعاصرة (مثلاً «شكسبير عاشقاً» – 1998)، يعمد إلى تصوير شخصيات التاريخ المشهورة في مراحل شبابها، لمنحها نوعاً من جاذبيّة عصرية تسهّل تسويق العمل تجاريّاً بدلاً من صورها المتهالكة الغالبة على المخيّلة الشعبية.

«كارل ماركس شاباً» دراما تاريخيّة مبنيّة بحذق على دراسة مكثّفة لكتابات ومراسلات الرفيقين ماركس وإنغلز، تحاول بقدر ما تسمح به أدوات الدراما تلخيص الأفكار الشيوعيّة الكلاسيكية في حوارات شديدة الكثافة. لعب دور ماركس النجم الألماني المعروف أوغست ديهل الذي تألق في رسم صورة جديدة مشّوقة عن الرّجل الجليل في يفاعته. أما إنغلز، فيقدمه الألماني الواعد ستيفان كونارسكي بأناقة، عاكساً تلك الكيمياء الاستثنائية التي ربطت أقدار الرفيقين. لكن الشخصيّة التي تربط كل أحداث الفيلم، فكانت الجميلة جيني زوجة ماركس (أبدعت في تقديمها الألمانية فيكي كريبس) التي لم تكن مجرّد ظل لشخصيّة المفكر الأهم خلال آخر 200 عام، بل مكوناً أساسيّاً من صراعات ماركس في الفكر والنضال والحياة، كأنها أحد أطراف مثلث لصناعة أفكار الاشتراكيّة العلميّة.

تساعد المساحة المعطاة في الشريط لشخصيّة جيني ماركس في تحقيق غاية المخرج بإعادة الأنسنة لشخصية ماركس بعد عقود التشويه الرأسمالي الطويلة. وكان يمكن لقصّة حبّهما ـــ توازيها قصة حبّ جميلة أيضاً بين إنغلز وماري بيرنز العاملة الإيرلنديّة ذات الشعر الأحمر والعيون البراقة (تلعب دورها البريطانيّة هنّا ستيل) التي كان والد إنغلز قد طردها من العمل في مصنعه ـــ أن تأخذ التوتّر في تعاقب أحداث الفيلم إلى مستوى آخر. لكن بيك آثر الالتزام بالمسائل التاريخيّة وسياق الأحداث.

يقدم الفيلم نوستالجيا من القرن التاسع عشر عبر تنقلات الأبطال بين باريس وبروكسل ومانشستر ولندن، لكن بعد شارة النهاية يستعرض صوراً أرشيفيّة لأشخاص وأحداث مثل تشي غيفارا، سقوط جدار برلين، مظاهرات وحراكات (احتلوا) وحتى بوب ديلان. لكنّه يختار أن يُسقط مرحلة لينين وستالين والاتحاد السوفياتي من السّرد المرئي للتاريخ بعد مانيفستو 1848 للهروب من الصور السلبيّة التي علقت في عقول المشاهدين بعد عقود من البروباغندا الموجهة. عرض «كارل ماركس شاباً» بداية في «مهرجان برلين» وقوبل بترحيب النّقاد قبل أن يطلق تجاريّاً في صالات محدودة عبر أوروبا. لكنّه لا يبدو إلى اللّحظة قادراً على تجاوز نجاح عمل بيك السابق أي وثائقي «أنا لست زنجيّك» عن حياة جيمس بولدوين. بيك ولد في هاييتي، وقضى يفاعته بين الكونغو والولايات المتحدة وفرنسا، قبل أن يقصد ألمانيا للدراسة ويتولى لاحقاً وزارة الثقافة في مسقط رأسه لعامين. انتقل بعدها إلى فرنسا وأنجز حتى الآن 13 فيلماً راوحت بين الدراما والوثائقيّات، لكنّه لم يقل كلمته النهائيّة بعد، رغم أن عديدين اعتبروه أقوى مخرج يمكن ترشيحه ليتولى صناعة فيلم عن حياة نجم تلفزيون الواقع الذي صار رئيساً للإمبراطورية: دونالد ترامب.

الماركسيّون من العيار الثقيل سيجدون الفيلم تبسيطاً مخلاً في أفكار ومناخات تكوّن معلمهم الأكبر فلا هو يتحّدث عن رأس المال، ولا يفسّر مثلاً انقلاب ماركس على أستاذه هيغل. لكنّهم مع قطاع عريض من الشباب البرجوازي سيستمتعون بتلك الرحلة المشوّقة نحو استعادة أنسنة الثنائي ماركس/ إنغلز بلمسة عصريّة بعدما تساقطت عليها كتل من ظلام الشيطنة الرأسمالي الحالك، فكادت أن تذوي.

المصدر: الأخبار

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...