قراءة مادية وعلمانية لتاريخ علويّي سوريا

07-02-2018

قراءة مادية وعلمانية لتاريخ علويّي سوريا

 

يعدّ شتفن ونتر أحد أهم المؤرخين ممن كتبوا عن الإقليم، وكتابه الجديد يكتسب أهميةً خاصةً. «تاريخ العلويين ـــ من حلب الوسطى إلى الجمهورية التركية» (منشورات برينستون)، يقارب هذا الموضوع الحساس، ضمن السياقات الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية والإدارية بهدف استيعاب تحولات الهوية العميقة عبر العصور


لا شك في أن العلويين هم الطائفة الأكثر وروداً ذكرها في هذه الأيام وفق ما يورد الكندي شتفن ونتر في كتابه «تاريخ العلويين ـــ من حلب الوسطى إلى الجمهورية التركية» (A history of the Alawis: from medieval Aleppo to the Turkish republic. pup, princeton 2016).

الحرب في سوريا وعليها، فتحت أوسع المجالات أمام الجماعات الدينية المتطرفة لاستعادة فتوى شخص مغمور في التاريخ الإسلامي اسمه ابن تيمية... هذا الذي دعا إلى إبادتهم، دوماً باسم الدين والإسلام حسب فهمه وتأويله القاصرين، بل وحتى وفق تأويل فاجر للدين. ثمة أمور كثيرة مرتبطة بموضوع المؤلَّف، ومنها الادعاء بأن العلويين طائفة منعزلة سكنت الجبال، جبال العلويين في سوريا، وكذلك الادعاء بأن سبب ذلك الفرار من الاضطهاد التاريخي، ولم تربطها بالمجتمعات المحيطة بها أي علاقة.

شتفن ونتر، وهو أحد أهم المؤرخين، إن لم يكن الأهم بالمطلق، الذين كتبوا عن الإقليم (انظر مؤلفه عن الشيعة في لبنان العثماني) عاِلم رصين، يعتمد المراجع الأساس، العربية والأجنبية والعثمانية والتركية، مما يمنح هذا الكتاب أهمية خاصة آخذين في الاعتبار حساسية الموضوع.

يؤكد الكاتب أنّ الأحداث الراهنة في سوريا، جعلت بعضهم يستدعي كتابات قديمة عن العلويين، تم اختصارها في ادعاء ما يسمى «الانحراف الديني» والعزلة والاضطهاد. كما يؤكد للقارئ أنه ما من تقرير صحافي، غربي استعماري تضليلي، أو تضليلي بترودولاري، عن سوريا والحرب فيها وعليها، إلا ويشدد على أن العلويين أقلية خارجة عن الجماعة وما إلى ذلك من الترهات.

من الصعب ذكر كافة نقاط هذا المؤلَّف، شديد التكثيف، في هذا العرض الذي رأينا ضرورة إثرائه بمصورات، لكننا نأمل أن نتمكن من إثارة اهتمام القارئ للاطلاع عليه، وهو هدف عروضنا جميعاً.

بدايةً، يؤكد الكاتب على ضرورة الانتباه إلى أنّ علوّيي سوريا يختلفون عن علويي تركيا. ولذلك وجب على الباحث الحذر في ما يخص المراجع التاريخية والكتابات المعاصرة.

يعرض الكاتب في مقدمة المؤلَّف المراجع التي استند إليها عمله، منها تلك العائدة إلى عصر المماليك، والمحفوظات العثمانية والتركية، والكتابات الخاصة بالعلويين عن ذاتهم (prosopographical literature) التي تعكس اعتراضهم على الادعاء بأنهم جالية/ جماعة (community) منعزلة مختلفة عن المجتمعات الريفية المحيطة بها، ومنقطعة عن العالَم. كما استعان بأوراق المحاكم الشرعية في طرابلس (الشام) التي توضح سيادة البيروقراطية العلوية في الإقليم ــ نجاح مردّه زراعة التبغ التجارية ــ وبمحفوظات وزارة الخارجية الفرنسية والقيادة العسكرية الفرنسية وغيرها.
تناول المؤلف بالذكر، المفصل أحياناً، والنقاش، بعض ما يرد في مؤلف محمد أمين غالب الطويل «تاريخ العلويين» من آراء واجتهادات.


يؤكد أن المراجع السابقة عن العلويين، كافة، قدمت تاريخاً مقتطعاً histoire événementielle لنموهم ووجودهم الطويل والفاعل. لذلك، فإن المؤلَّف ــ دوماً وفق الكاتب ـــ يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى تقديم تاريخ مادي لتاريخ العلويين، أي إنه لا يركز على الجانب العَقدي كما فعلت المؤلَّفات العديدة عنهم. فالمؤلَّف يتناول بالبحث المعمق جذور العلويين وانتشار دعوتهم في مختلف أنحاء سوريا، أي بلاد الشام ومحيطها، ومنها القاهرة والقدس والخليل ونابلس وعسقلان وغزة وعينتاب والرقة ودياربكر ومردين وتكريت والرحبة وعانا والحلة والنجف، وحتى في اليمن وإيران.


لذلك نرى أن مقاربة الكاتب عِلمانية (séculier, séculaire)، دوماً وفق المصطلحين اللذين وظفهما، تمنح الأولوية للسياقات الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية والإدارية، والنظر إليها عبر تطوّرها طويل الأمد (longue-durée)، بهدف استيعاب تحولات الهوية العميقة عبر العصور وكيفية حصول ذلك والأسباب.

أما التشنيعات المهينة بحق العلويين، التي سادت في كتابات الرحالة الغربيين عنهم، فمردها ــ يقول المؤلَّف ــ أنّهم استقوها من أفراد طائفيين التقوهم خلال ترحالهم وتجولهم. لكن الكاتب يوضح أيضاً أن تشنيعات على هذه الشاكلة يعثر المرء عليها بخصوص طوائف أخرى، في الكتابات الإسلامية والمسيحية واليهودية على السواء.


هنا يلفت إلى أن الرحالة الشهير كارستن نيبور أرجع احتمال ورود التشنيعات القبيحة بحق «النصيريين»، إلى إساءة تأويل رموزهم وأسمائهم الرمزية والمصطلحات الدينية وغير الدينية التي يستعملونها. كما يذكر أن العلويين يفضلون الإشارة إلى أنفسهم بمصطلح «المؤمنين». كما يبين أن المصطلح «نصيري» استعمله المؤرخون الأوربيون، ثم صار يطلق عليهم. أما المصطلح «علوي»، فلم يتم توظيفه إلا في نهايات الدولة العثمانية، دوماً وفق الكاتب.

من الأمور الأخرى التي يذكرها الكاتب أن المصطلح «علوي»، لم يتم تبنيه إلا في المراحل الأخيرة من الحكم العثماني، بينما كانوا هم يطلقون على أنفسهم مصطلح «الفلاحين» والخصيبيين (نسبة إلى الحسين بن حمدان الخصيبي).
بعد هذا المدخل المختصر، من المفيد الآن الانتقال إلى بنية المؤلف تفصيلياً، علماً بأنه أثراه بمجموعة من المصورات نعرض بعضها هنا.


يبدأ الكاتب عمله التاريخي بمقدمة عن منهجية بحثه والمراجع التي استخدمها، ومناقشة بعض المؤلفات الأخرى عن الموضوع.
في الفصل الأول «النصيريون في سورية [بلاد الشام] القرون الوسطى: من طائفة دينية إلى جماعة (confessional community) - القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر»، يبدأ الحديث عن جذور العلوية بالتركيز على تمكن الشيعية الحمدانية في حلب عام 947 (من التأريخ السائد - ت س)، ويؤكد رفضه عدّها فرعاً من الشيعية (shiʽism) الإثناعشرية. وبناء على مراجعه الأولية، يؤكد أنّها كانت دعوة مستقلة منذ البداية. كما يبين أنها انتشرت في وادي الفرات في شمالي سوريا وحلب وحماة، إلى أن وصلت إلى المرتفعات الساحلية من عكا جنوباً إلى اللاذقية شمالاً.


كما يوضح عدم صحة الرأي السائد والمحلي القائل بأنّ مرد ذلك الانتشار كان الفرار المستمر من الاضطهاد المزعوم. وبناء على البحث الكرونولوجي وتتبع نشاط الدعوة النصيرية/العلوية أيضاً، يؤكد أن نشاط الدعوة العلوية في تلك الأقاليم جعلها منافساً للإسماعيلية والإسحاقية (نسبة إلى إسحق بن جعفر).

الدعوة العلوية كانت ــ وفق المؤلَّف ـــ الأهم حتى القرن الحادي عشر، وكسبت دعم سلالات مسلمة حاكمة مختلفة منها الحمدانيون والتنوخيون والفاطميون. لذلك، فإنها تطورت تاريخياً كأهم تيار إسلامي. أما انحصارها في الجبال فمرده الحروب الصليبية التي عنت انتهاء الدعوة، ما دفعهم إلى التنظيم القبلي حماية لأنفسهم من الأمراء الإسماعيليين النزاريين.

الفصل الثاني «أبعد من الملجأ الجبلي - العلوية والدولة السنية (القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر»، يتناول علاقة العلويين بسلطات الدولة وبالإسماعيليين، وموضوع ابن تيمية وسياسة الاضطهاد وثورة أو انتفاضة عام 1318 و«الحملة العِقَابية» ـــ دوماً وفق الكاتب ـــ على مدينة جبلة في عام 1318 والتي عادة ما تؤخذ على أنها تمثل سياسة المماليك تجاههم، مع أنها كانت رداً على الثورة/ الانتفاضة التي اندلعت بسبب الضرائب التي فرضت عليهم، أي بسبب مادي، وليس بسبب روحي، أي اختلاف مذهبي أو ديني. ما يعني بالضرورة أن يشرح الكاتب سياسات المماليك النقدية تجاه العلويين.

ما يخص فتوى ابن تيمية التكفيرية، فالكاتب يوضح أنها وردت في مرجع واحد فقط يذكر العلويين في تلك الفترة، وإن تحولت، أخيراً، إلى المرجع الإسلامي الواحد والوحيد عن العلوية أو النصيرية بعد اندلاع الحركة الوهابية وانتشار قطعانها في بعض أنحاء جزيرة العرب. قبل ذلك، ابن تيمية هذا، كان منبوذاً حتى تلك الفترة، ولم يكن لآرائه التكفيرية أي تأثير في الفكر الإسلامي في العهدين المملوكي والعثماني، ولم يلتفت أحد إليه قبل القرن الثامن عشر.

الفصل الثالث «مسح ومعاقبة: اندماج العلويين في الإمبراطورية العثمانية (1516-1645» خصصه الكاتب للحديث المفصل أولاً في المسح السكاني العثماني، ما يثبت، في ظنه، مدى سيطرة الدولة العثمانية وهيمنتها على الإقليم في القرن السادس عشر، وأن العثمانيين لم يحاولوا إطلاقاً إبادة العلويين، على عكس التراث المحلي المتداول. أما هدف العثمانيين الواضح، فكان مضاعفة عائداتهم الضريبية من العلويين وجمع الضرائب الإضافية التي فرضت عليهم. كما يوضح أنّ العثمانيين عملوا في الوقت نفسه على إلغاء الضرائب على مناطق العلويين التي كانت في مرحلة النمو أو التطور.


في القسم الثاني من الفصل، يوضح أن الدولة العثمانية نظرت إلى التمردات العلوية في الجبال على أنها مشكلة اقتصادية لا دينية. فالوثائق العثمانية العائدة إلى تلك المرحلة، كانت ترى أنّ «الأميين» من العلويين كانوا ضحايا تضليل قياداتهم. كما يؤكد الكاتب أن الدولة العثمانية لم تحاول التمييز بحقهم على أسس دينية. فقد فرضت عليهم ضرائب إضافية (انظر الخرائط المرفقة عما يسمى درهمو-رجال/ أي ضريبة الفرد).

في الفصل الرابع «عصر الحكم الذاتي: نخب/ زعامات/ وجهاء (notables) العلويين بصفتهم جامعي الضرائب على الفلاحين ـ 1667-1808»، يوضح الكاتب أنه مع بدء اللامركزية العثمانية في القرن الثامن عشر، عملت السلطات فيها على توظيف وجهاء وعائلات علوية معروفين لجمع الضرائب من الفلاحين في الإقليم. ما ساعد في تطور زراعة التبغ التجارية، وأضحى هؤلاء في المقابل من السادة. كما يوضح أن نمو التباينات الاجتماعية داخل الجماعة وليس الاضطهاد الخارجي، هو العامل الذي قاد إلى زيادة المشاعر القبلية وارتفاع معدلات الهجرة إلى المناطق الداخلية، وكذلك إلى استيطان منطقة هتاي [الإسكندرون] الواقعة في تركيا.
الفصل الخامس خصصه الكاتب للحديث عن أحداث القرن التاسع عشر ومرحلة الإصلاحات العثمانية. يبين هذا الفصل أن السادة العلويين صاروا على صدام مع القيادات المحلية التي أمنت لنفسها نوعاً من الاستقلالية عندما بدأ التفكك العثماني في مطلع القرن، ما أدى بدوره إلى اتهام الدولة العثمانية الجماعة بأنها هرطقية، وهو ما يحصل للمرة الأولى على الإطلاق.

رغم الاضطهاد الذي تعرضت له القيادات الإقطاعية العلوية، فإن الكاتب يبيّن أنها استمرت في ولائها للدولة العثمانية ومحاربة نفوذ محمد علي في الإقليم (1832-1840 ت س). كما يبيّن أن العلويين خضعوا في تلك المرحلة لاضطهاد متزايد في مرحلة التنظيمات وحكم السلطان عبد الحميد الثاني، بما في ذلك التجنيد الإجباري وإجبارهم على التسنن. رغم ذلك، يبيّن الكاتب أن العلويين عملوا في تلك المرحلة على الإفادة من نمو التعليم الحديث في الدولة العثمانية ومن التمثيل في المجالس المحلية، ما منحهم صوتاً سياسياً يمثلهم للمرة الأولى في تاريخهم.

من المهم هنا تأكيد الكاتب على أنّ تحول الخلافة العثمانية من دولة إسلامية إلى دولة سنية، أي طائفية، وتبعا لذلك تحويل السنة إلى طائفة متميزة، هو ما قاد إلى نشوء «طوائف» أخرى في الإقليم. عملت «الأقليات» على تنظيم نفسها وفقاً للشروط المستجدة المحيطة بها والناشئة عن لجوء الدولة إلى الطائفية لتثبيت حكمها المتحلل والآيل للانهيار والتفكك. اعتماداً على المراجع الأصلية، يؤكد الكاتب أنّ الطائفية أقحمتها الخلافة العثمانية في مرحلة احتضارها.

الفصل السادس والأخير «لم يضحوا مواطنين بعد: العروبة والكمالية والعلويون (1888-1936 ت س»، خصصه الكاتب للحديث عن ازدواجية المحاولات العثمانية المتأخرة والتركية والفرنسية الهادفة لدمج السكان العلويين في الدولة الحديثة. بعد تفحص المفهوم الحميدي وفهم تركيا الفتاة للمواطنة وكيفية تطبيقها، يتحدث الكاتب عن اليقظة العلوية، مركّزاً على حركة اليقظة عشية الحرب العالمية الأولى التي قادتها مجموعة جديدة من المثقفين العلويين نيابة عن مواطنيهم. يقول الكاتب إنّ أساس مقاومة العلويين لقوات الاحتلال الفرنسية (1918-1921 ت س) كان جزءاً من خطة تركية كمالية، ووجب وتبعا لذلك عدها استكمالاً للجبهة الجنوبية (Güney Cephesi) في حرب التحرير التركية.

كما يتناول الكاتب بالحديث والتحليل مصائر مختلف الجماعات العلوية في سوريا وتركيا، مشيراً إلى أنّها كانت منقسمة تجاه الموقف من الاحتلال الفرنسي، أي إنه لم يوجد موقف «علوي» موحّد تجاه المسألة إبان المحادثات بين سوريا وفرنسا عام 1936 ت س؛ بما يعني عدم صحة، بل نفي صلاحية أي ادعاء بأن «النصيريين» وقفوا مع الاحتلال الفرنسي.

العرض التاريخي المستند إلى الوثائق يوضح على نحو بديهي أنه لم يوجد تطور أفقي للمصير العلوي منذ حضور الدعوة الخصيبية إلى حلب الحمدانية. كما يؤكد تباين تطورات العلويين المُعاشة عبر نحو عشرة قرون والأعداد الكثيرة للمناطق والأقاليم والمناطق التي قطنوها، إضافة إلى الشروط السياسية التي عاشوا في ظلها، بدءاً من انهيار حكم الدولة الفاطمية في جنوبي سوريا، مروراً بعصر الصليبيين وبدء التحديث النسبي في العصر المملوكي حتى العهد العثماني وانتهاءً بالاندماج في السوق العالمي.


المصدر: زياد منى - الأخبار

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...