لماذا لا يستطيع الغرب هضم الروس؟

17-03-2018

لماذا لا يستطيع الغرب هضم الروس؟

 

حين يتعلق الأمر بروسيا أو بالاتحاد السوفييتي تصاب الدراسات والروايات التاريخية بالارتباك، هذا ما يحدث في الغرب وتبعا لذلك في جميع "الدول العميلة" التابعة له.
تختلط الخرافات بالواقع، بينما يتمّ حقن التلفيقات في لاوعي المليارات من سكان العالم بكل براعة. إن روسيا بلد شاسع، في الواقع هي البلد الأكبر مساحة على وجه الأرض. لكنها غير مأهولة كلها. إنها عميقة وكما وصفها يوماً كاتب كلاسيكي: "من المستحيل فهم روسيا بواسطة الدماغ. يمكن فقط الإيمان بها."

العقل الغربي لا يحبّ عموماً الأشياء المجهولة والروحانية والمعقدة. منذ "غابر الأزمان"، وخصوصاً منذ الحروب الصليبية والبعثات التبشيرية الاستعمارية الوحشية في كل أرجاء العالم، يقوم الغربيون برواية الخرافات عن "الأعمال النبيلة" التي قاموا بها في الأراضي التي نهبوها. يجب أن يكون كل شيء واضحاً وبسيطاً: "أصحاب الفضيلة الأوروبيون كانوا يعملون على إدخال الحضارة إلى المتوحشين وعلى نشر الديانة المسيحية، أي من أجل إنقاذ تلك الأرواح البدائية المسكينة المظلمة."
بالطبع لقي عشرات الملايين من البشر حتفهم في هذه العملية، بينما وضعت الأصفاد في أيدي وأرجل ملايين آخرين واقتيدوا كعبيد إلى "العالم الجديد". الذهب، الفضة، وغيرها من الغنائم إضافة إلى أعمال السخرة تم (ولا يزال يتم) استعمالها من أجل بناء جميع القصور في أوروبا، والسكك الحديدية، والجامعات والمسارح، لكن ذلك لا أهمية له، لأن المذبحة ارتدت شكلاً مجرداً في غالب الأوقات وبعيداً عن عيون الجمهور الغربي المفرطة الحساسية.

الغربيون يحبون البساطة، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بتعريف "الخير والشر". لا يهم إن تمّ تحوير الحقيقة أو فبركتها كلياً بشكل منهجي. ما يهمّ هو أن لا يكون هنالك شعور عميق بالذنب أو تأنيب للضمير. إن المسؤولين الغربيين وصانعي الرأي العاملين لديهم يعرفون شعوبهم- "رعاياهم"- بشكل تام، وفي غالب الأحيان يقدمون لهم ما يطلبون. الحكام والمحكومون يعيشون عموماً بنوع من التكافل. لا ينفكّون يشتكون من بعضهم البعض، لكن أهدافهم متشابهة في غالب الأوقات: العيش الهانئ، الرغيد إلى أقصى حد، طالما أن الآخرين مجبرين على دفع ثمن ذلك من ثرواتهم، من عملهم و من دمهم غالباً.

من الناحية الثقافية، فإن غالبية مواطني أوروبا وأميركا الشمالية يكرهون أن يدفعوا فاتورة نمط حياتهم الباذخ، بل يكرهون أن يعترفوا أن نمط حياتهم "باذخ" إلى أقصى حدّ.
إنهم يحبّون الشعور بأنهم ضحايا. وأنه يتم "استهلاكهم". يحبون أن يتخيّلوا أنهم يضحّون بأنفسهم من أجل بقية العالم.

وفوق كل ذلك، فإنهم يكرهون الضحايا الحقيقيين: الذين يقومون بقتلهم واغتصابهم ونهبهم وشتمهم منذ عشرات السنين بل منذ قرون.

لقد أظهرت "أزمات اللاجئين" الأخيرة مدى الحقد الذي يكنّه الأوروبيون لفرائسهم. إن البشر الذين صنعوا ثراءهم وفقدوا كل شيء في هذا السبيل تتم إهانتهم واحتقارهم وشتمهم. سواء كانوا أفغان أو أفارقة أو شرق أوسطيون أم جنوب آسيويون. أو روس، مع أن الروس لهم فئتهم الخاصة بهم.

الكثير من الروس من ذوي البشرة البيضاء. وغالبيتهم تأكل بالسكّين والشوكة، ويشربون المشروبات الكحولية، ولديهم مستوى ممتاز في الموسيقا الكلاسيكية الغربية والشعر والأدب والعلوم والفلسفة.

في نظر العيون الغربية، يبدو الروس "طبيعيون"، لكن في الواقع، ليسوا كذلك.
الروس يريدون دوماً "شيئاً آخر"، إنهم يرفضون اللعب حسب القواعد الغربية. يطالبون بعناد أن يبقوا مختلفين وأن يتم تركهم وشأنهم.
حين يتم فرض التحدي أو الهجوم عليهم، فإنهم يقاتلون.
نادراً ما يكونون البادئ بالضرب، لا يغزون أحداً أبداً.

لكنهم حين يتعرّضون للتهديد والاعتداء، فإنهم يقاتلون بعزيمةٍ وبأسٍ شديدين، ولا ينهزمون أبداً. إن المدن والقرى الروسية تتحوّل إلى مقابر للغزاة. الملايين منهم مستعدّين للموت في سبيل وطنهم، لكي تحيا البلاد. وهذا الأمر يتكرّر مراراً وتكراراً، لأن الجحافل الغربية هاجمت وأشعلت الأراضي الروسية خلال قرون، دون أن تستخلص أقلّ العبر ودون أن ترعوي أو تتراجع عن حلمها الكارثي بالاستيلاء والسيطرة على هذا العملاق الفخور العنيد.

في الغرب، لا يحبّون الناس الذين يدافعون عن أنفسهم، أولئك الذين يقاتلونهم وبالأخص أولئك الذين ينتصرون عليهم.
الأمر أكثر سوءاً من ذلك.

إن روسيا لديها تلك العادة الفظيعة... ليس فقط عادة الدفاع عن نفسها، هي وشعبها، بل هي تقاتل من أجل الآخرين، وتدافع عن الأمم الخاضعة للاستعمار والنهب وكذلك عن تلك الأمم التي تتعرض للعدوان.

لقد أنقذت روسيا العالم من النازية. ودفعت ثمن ذلك 25 مليون من الرجال والنساء والأطفال، لكنها فعلتها، بكل شجاعة وكبرياء وغيرية. لم يغفر الغرب أبداً للاتحاد السوفييتي هذا الانتصار الملحمي، لأن كل ما هو كريم ويتطلب التضحية هو عدو مباشر لمبادئ الغرب وهذا يعني هو "خطير جداً".

لقد هب الشعب الروسي واقفاً، وقاتل وانتصر في ثورة اكتوبر 1917، وهو الحدث الذي أثار هلع الغرب أكثر من أي شيءٍ آخر في التاريخ، لأن هذا الحدث حاول خلق مجتمعٍ يسوده العدل الكلّيّ، مجتمع بدون طبقات لا يوجد فيه تمييز بين الأعراق. وولدت منه الأممية، حدث قمت بالحديث عنه مؤخراً في كتابي: ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى: أثرها على العالم وعلى ولادة الأممية.

لقد ساعدت الأممية السوفييتية، مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية، بشكل مباشر أو غير مباشر عشرات الدول في جميع القارات لكي تنهض وتقارع الاستعمار الأوروبي والإمبريالية الأميركية الشمالية. لم يغفر الغرب وخاصة أوروبا أبداً للشعب السوفييتي عموماً وللروس خصوصاً مساعدتهم لعبيد الغرب من أجل أن يتحرروا.

في تلك اللحظة بالذات بدأت أكبر موجة من الدعاية في التاريخ الإنساني بالانتشار. من لندن إلى نيويورك، من باريس إلى تورونتو، انطلقت بقوةٍ مدمرةٍ هائلةٍ شبكة معقدة من الهستيريا المعادية للسوفييت وللروس بشكل خفي. عمل في هذه الشبكة عشرات الآلاف من "الصحفيين" وضباط الاستخبارات وعلماء النفس والمؤرخين والأساتذة الجامعيين. لم يتم توفير أي أمر له علاقة بالاتحاد السوفييتي أو روسيا (ما عدا بعض المنشقين الروس الذين جرى تمجيدهم وفي غالب الأحيان "فبركتهم").

إن المبالغات بخصوص ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى وبخصوص الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية تمت فبركتها والمبالغة بها بشكل منهجي ومن ثم نقشها في كتب التاريخ الغربية وفي الخطاب الإعلامي الذي لا يوجد فيه أي شيء حول الغزوات والاعتداءات العنيفة القادمة من الغرب والتي كانت تهدف إلى تدمير الدولة البلشفية الفتية. من الطبيعي أن لا يوجد مكان في هذا الخطاب من أجل الإشارة إلى الفظائع الوحشية التي ارتكبها البريطانيون والفرنسيون والأميركان والتشيك والبولونيون واليابانيون والألمان وغيرهم.

لم يتم السماح للآراء السوفييتية والروسية أن تخترق رواية الدعاية الغربية الأحادية التي لا تقبل النقاش.

مثل قطيع من الخراف المطيعة، تقبّل الجمهور الغربي هذا التضليل الإعلامي واستمد غذائه منه. في نهاية المطاف، قام العديد من الأشخاص الذين يعيشون في المستعمرات الغربية وفي "الدول العميلة" بالأمر ذاته. بل إن عدداً كبيراً من الشعوب المستعمَرة أخذت تلوم نفسها على بؤسها.

بعد ذلك وقع الحدث الأكثر عبثيةً، لكن المنطقي في العمق: الكثير من الرجال والنساء بل وحتى الأطفال الذين يعيشون في الاتحاد السوفييتي سقطوا ضحية الدعاية الغربية. وبدل أن يحاولوا إصلاح بلدهم الذي يعاني من نواقص لكنه كان لا يزال بلداً تقدمياً جداً، تخلوا عنه، وتحولوا إلى مجموعة من الساخرين، "الخائبي الأمل"، الفاسدين والموالين للغرب بشكل ساذج لكنه قطعي.

كانت تلك هي المرة الأولى ومن المحتمل جداً أن تكون الأخيرة في التاريخ التي يدافع فيها الغرب عن روسيا. لقد حصل ذلك بواسطة الخداع والأكاذيب الوقحة والدعاية الغربية. وما حصل بعد ذلك يمكن بكل سهولة تسميته عملية إبادة عرقية.

تعرض الاتحاد السوفييتي في البداية إلى هزةٍ في أفغانستان، ومن ثم إلى جرح مميت بسبب تلك الحرب وسباق التسلح مع الولايات المتحدة والمرحلة الأخيرة من الدعاية التي كانت تتدفق مثل الحمم من مختلف المحطات الإذاعية المعادية والممولة من قبل الدول الغربية. بالطبع فقد لعب "المنشقّون" المحليون أيضاً دوراً هاماً.

تحت قيادة غورباتشوف، هذا "الأحمق المفيد" للغرب، أضحت الأمور غريبةً بشكل كبير. وأنا لا أعتقد أنه تقاضى الأموال من أجل تدمير بلده، لكنه فعل كل شيء من أجل تهشيمه، أي بالضبط ما كانت تريد واشنطن منه أن يفعل. بعد ذلك، وأمام أعين العالم أجمع، دخل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية بشكل مباغت حالة الاحتضار، وبعدها أطلق صرخة كبيرة وانهار. لقد مات بشكل مؤلم لكنه سريع.
لقد ولدت روسيا جديدة رأسمالية بشكل سريع جداً، روسيا قطاع الطرق، الموالية للطغم المالية وللغرب بشكل مرتبك. روسيا التي يحكمها رجل سكير، بوريس يلتسين: المحبوب والمدعوم من واشنطن ولندن وغيرها من مراكز السلطة الغربية.
كانت روسيا تلك اصطناعية بشكل تام ومريضة- وقحة وبلا شفقة، بنيت على أفكار الآخرين- روسيا راديو ليبيرتي وإذاعة صوت أميركا و بي بي سي، روسيا السوق السوداء، والطغم المالية والشركات المتعددة الجنسية.

ويتجرأ الغرب اليوم بالقول إن الروس "يتدخلون" بشيءٍ ما في واشنطن؟ هل هم مجانين؟

إن واشنطن وعواصم غربية أخرى لم "تتدخل" فقط . بل مزقوا الاتحاد السوفييتي بشكل صريح إلى قطع وبدأوا بعدها بركل روسيا التي كانت في ذلك الوقت نصف ميتة. هل تمّ نسيان كل ذلك أم أن الجمهور الغربي من جديد "غير واعٍ" بشكل كلي بما جرى في تلك الأيام المظلمة؟

واصل الغرب إهانة هذا البلد الجريح الذي تم إفقاره، ورفض الإيفاء بالتزاماته في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. لم يقدم أية مساعدة لروسيا. انفلتت الشركات المتعددة الجنسية من عقالها وبدأت "خصخصة" الشركات العامة الروسية، وسرقة ما تم بناؤه بعرق ودم العمال السوفييت خلال عقود من السنين.

تدخل؟ اسمحوا لي أن أكررها: كان ذلك تدخلاً مباشراً، كان غزواً، كما كان الاستيلاء على الموارد سرقة وقحة ! بودي أن أقرأ وأن أكتب حول هذا الموضوع، لكننا لا نسمع الكثير من الحديث عنه، أليس كذلك؟

يقولون لنا اليوم إن روسيا مصابة بجنون العظمة، وإن رئيسها كذلك مصاب بجنون العظمة! إن الغرب يكذب بدون رفّة جفن في زعمه أنه لم يحاول قتل روسيا.
في تلك السنوات... سنوات موالاة الغرب، حيث تحولت روسيا إلى شبه دولة عميلة للغرب، أو بالأحرى شبه مستعمرة! لم يأتِ من الخارج أية شفقة أو أي تعاطف. الكثير من هؤلاء الحمقى- مثقفو مطابخ موسكو والمقاطعات- استفاقوا بغتةً، لكن بعد فوات الأوان. لم يكن لدى الكثيرين منهم ما يأكله. لقد حصلوا على ما كان يقال لهم أن يطالبوا به: "حريتهم وديمقراطيتهم" الغربية والرأسمالية بنمطها الغربي. أو باختصار: الانهيار الكلّي.

إني أتذكر جيداً كيف كان الوضع "حينها". بدأت بالعودة إلى روسيا، أصبت بالذهول، خلال عملي في موسكو، تومسك، نوفوسيبيرسك، لينينغراد. كان الأساتذة الجامعيون يبيعون مكتباتهم في البرد القارس، في الممرات المظلمة لمترو نوفوسيبيرسك... الحشود أمام البنوك... كبار السن المتقاعدون الذين يموتون من البرد والجوع خلف أبواب ثقيلة من الإسمنت... الأجور التي لا يتم دفعها، عمال المناجم والمدرسون الجائعون...

روسيا في الحضن الغربي القاتل، للمرة الأولى و لنأمل أنها الأخيرة!
روسيا التي هبط فيها معدل الأعمار إلى ما دون دول أفريقيا جنوب الصحراء. روسيا التي أهينت، المتوحشة، والتي تكابد الآلام المرعبة.

لكن هذا الكابوس لم يعمر طويلاً.

وما حدث من أحداث- في السنوات القصيرة لكن الرهيبة تحت قيادة غورباتشوف ويلتسين، وقبل كل شيء تحت قيادة الإملاءات الغربية- لا يمكن نسيانه ولا غفرانه أبداً.
إن الروس يعلمون بشكل تام الآن ما الذي لا يريدونه!

لقد نهضت روسيا من جديد. شاسعة، غاضبة ومصممة أن تحيا حياتها الخاصة بها، وتتبع طريقها الخاص بها. وفي بضعة سنين، انتقلت البلاد، من أمةٍ تم إفقارها وإهانتها وسرقتها وإخضاعها للغرب، إلى أمةٍ حرّة ومستقلّة وانضمّت من جديد إلى صف الدول الأكثر تطوّراً والأكثرة قوة في العالم.

وكما كان الحال قبل غورباتشوف، عادت روسيا من جديد قادرة على مساعدة الدول التي تتعرّض للعدوان الظالم والعنيف الذي تشنّه الإمبراطورية الغربية.
إن الرجل الذي يقود هذه النهضة، الرئيس فلاديمير بوتين، رجل صلب، لكن روسيا، والعالم معها أيضاً، تتعرض لتهديدات كبرى ولذلك ليس من وقتٍ للضعف.
إن الرئيس بوتين ليس إنساناً كاملاً (وهل هنالك أحد كامل حقاً؟)، لكنه وطني حقيقي، وأجرؤ على القول إنه أممي.

اليوم، مرة جديدة، يكره الغرب روسيا وقائدها معاً. الأمر ليس مدعاة للدهشة، إذ إن روسيا التي لا يمكن هزيمتها والقوية والحرة هي أسوأ عدوّ تتصوره واشنطن وممثلو سلطتها.
هكذا يشعر الغرب، وليس روسيا. فالبرغم من كل ما فعلوه بها، بالرغم من عشرات الأشخاص الذين فقدوا أو دمرت حياتهم، كانت روسيا ولا تزال جاهزة للتفاهم، بل جاهزة للمسامحة وحتى للنسيان.

هنالك شيء مرضيّ بشكل عميق في الروح الغربية. إنها لا تقبل أي شئٍ آخر سوى الخضوع التام وغير المشروط. يجب أن يسيطر الغرب، أن يكون هو المسؤول الذي يمسك دفّة القيادة، يجب أن يشعر أنه استثنائي. حتى حين يقوم بقتل وتخريب الكرة الأرضية بأسرها، فإنه يصرّ على الشعور بأنه متفوق على باقي العالم.
هذا الإيمان باستثنائيته هو الدين الغربي الحقيقي، أكثر مما هي المسيحية ذاتها بكثير، والتي لم تعد تلعب دوراً كبيراً في الغرب منذ عقود طويلة. إن الاستثنائية دين متعصب وأصولي لا يرقى إليه الشك.

يصرّ هذا الإيمان أيضاُ على أن روايته هي الوحيدة المتاحة في العالم، ويعتبر أن الغرب هو المرشد الأخلاقي ومنارة التقدم والقاضي والمعلم الروحي الوحيد الكفؤ.
تتكدّس الأكاذيب فوق بعضها. وكما في جميع الأديان، كلما كان الواقع المزعوم عبثياً، كلما كانت الأساليب المستخدمة للدفاع عنه فظةً ومتطرفةً. وكلما كانت الفبركات مثيرةً للضحك أكثر، كلما كانت التقنيات المستخدمة لإخفاء الحقيقة فاعلة أكثر.
اليوم، تستخدم الإمبراطورية مئات الألوف من "الجامعيين"، والمدرسين، والصحفيين، والفنانين، وعلماء النفس، وغيرهم، الذين يدفع لهم بسخاء، في كل أنحاء العالم. من أجل هدفين فقط : تمجيد الرواية الغربية وتشويه سمعة كل من يقف عقبة أمامها، كل من يجرؤ على انتقادها.

إن روسيا، هي أكثر الخصوم الذين يكرههم الغرب، مع الصين التي تأتي بعد حليفها القريب.

إن الحرب الدعائية التي أطلقها الغرب هي من الجنون والشدة بحيث أنه حتى بعض المواطنين الأوروبيين والأميركيين الشماليين بدأوا يشكّكون بالروايات التاريخية القادمة من واشنطن ولندن وغيرها.

حيثما توجّهنا، يوجد خليط هائل من الأكاذيب، من أنصاف الحقائق، مستنقع معقّد لا يمكن اختراقه من نظريات المؤامرة. يتم الهجوم على روسيا بحجة أنها تدخلت بالشؤون الداخلية الأميركية، ولأنها تدافع عن سوريا، وتدعم دولاً لا تستطيع الدفاع عن نفسها وقعت ضحية للترهيب، لأنها تمتلك وسائلها الإعلامية الفاعلة، بحجة أن رياضييها يتعاطون المنشطات، لأن روسيا لا تزال شيوعية، لأن روسيا لم تعد اشتراكية. باختصار، يتم الهجوم على روسيا بسبب جميع ما يمكن أو لا يمكن تخيله.
إن الانتقاد الذي تتعرض له روسيا هو من الشمولية والغرابة لدرجة تدفع المرء للبدء بطرح الأسئلة المشروعة: "وماذا عن الماضي؟ ماذا بخصوص الرواية الغربية حول الماضي السوفييتي، وبشكل خاص حقبة ما بعد ثورة أكتوبر وحقبة ما بين الحربين العالميتين؟"

كلما أوغلت في تحليل هذه الدعاية الغربية المعاصرة المعادية لروسيا وللصين، كلما ازدادت عزيمتي على دراسة الرواية الغربية عن التاريخ السوفييتي وعلى الكتابة عن هذه الرواية. وأنا أخطط بالفعل للقيام باستقصاء حول هذه القضايا في المستقبل، بالاشتراك مع أصدقائي، من المؤرخين الروس والأوكرانيين.
في نظر الغرب، فإن الروس هم "خونة".

فبدل أن ينضمّوا إلى الناهبين، وقفوا إلى جانب "الملعونين في الأرض"، في الماضي والحاضر. رفضوا أن يركع وطنهم وأن يتحول شعبهم إلى عبيد. حكومتهم تفعل كل ما بوسعها لتجعل روسيا تعيش حالة الاكتفاء الذاتي، ولتكون روسيا مستقلةً بشكل تام، ومزدهرةً، وفخورةً وحرةً.

تذكّروا أن "الحرية" و"الديمقراطية" وغيرها الكثير من المصطلحات لها معانٍ مختلفة كلياً في أرجاء العالم. إن ما يحدث في الغرب لا يمكن وصفه "حرية" في روسيا والصين والعكس بالعكس.

إن المجتمعات المحبطة، التي في طريقها للانهيار، المبعثرة والأنانية في أوروبا وأميركا الشمالية لم تعد تلهم حتى شعوبها. الملايين يفرّون كل عام إلى آسيا، إلى أميركا اللاتينية وحتى إلى أفريقيا. هرباً من الفراغ والخواء ومن البرود العاطفي. ليس من شأن روسيا أو الصين أن تقول لهم كيف يعيشون أو لا يعيشون!
في هذه الأثناء، فإن الثقافات الكبرى مثل روسيا والصين ليست بحاجة ولا تريد من الغربيين أن يقولوا لها ما هي الحرية وما هي الديمقراطية.

إنها لا تهاجم الغرب وتنتظر نفس الشيء بالمقابل.

إنه أمر مزعج ومحير حقاً أن تقوم الدول المسؤولة عن المئات من عمليات الإبادة الجماعية، وعن قتل مئات الملايين من البشر في جميع القارات بالتجرؤ على إعطاء الدروس للآخرين. الكثير من الضحايا تخاف بشدة أن تتكلم.

ليس روسيا.

إنها رصينة، لطيفة، لكنها عازمة كلياً على الدفاع عن نفسها إذا تطلب الأمر، هي والكثير من البشر الآخرين الذين يعيشون على هذا الكوكب الرائع ولكن الذي أصابته ندوب عميقة.

إن الثقافة الروسية شاسعة: من الشعر والأدب إلى الموسيقا، إلى الباليه وإلى الفلسفة...
إن قلوب الروس طيبة، يذوبون بسهولة حين يتم التعامل معهم بالحب واللطافة. لكن حين تكون حياة الملايين من الأبرياء عرضة للتهديد، سرعان ما تتحوّل قلوب وعضلات الروس إلى صخر وفولاذ. في مثل هذه اللحظات، حيث وحده الانتصار يمكن له أن ينقذ العالم، تصبح القبضات الروسية قاسية، وكذلك السلاح الروسي.
لا شيء يعادل الشجاعة الروسية في الغرب السادي الجبان.
إن الأمل والمستقبل يتجهان شرقاً، على نحوٍ لا رجعة فيه.
ولهذا السبب فإن روسيا مكروهة من الغرب بكل هذا البأس.
13 آذار/مارس 2018
*أندريه فلتشيك، فيلسوف وروائي وسينيمائي وصحفي استقصائي أميركي من أصل تشيكي. ولد في لينينغراد. من كتبه الرواية الثورية اورورا والعديد غيرها من الكتب. يكتب بشكل خاص لمجلة نيو ايسترن آوتلووك الإلكترونية. قام بتغطية الصراعات والحروب في عشرات البلدان. عاش فلتشيك متنقلاً بين أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأوقيانوسيا. وهو حالياً يعيش متنقلاً بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط ويتابع عمله في بقية أنحاء العالم.

أندريه فليتشيك*- ترجمة: علي إبراهيم ـ موقع أورهاي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...