مفهوم “البيئة الحاضنة للإرهاب”

26-04-2018

مفهوم “البيئة الحاضنة للإرهاب”

منذ بدء أحداث الحرب على سورية وفيها، شاع استخدام مصطلح “البيئة الحاضنة للإرهاب” للدِّلالة على وجود مناطق سورية تشكّل مثل هذه “البيئة الحاضنة”، انطلاقاً من، وبناءً على، سهولة دخول الجماعات الإرهابية إلى مناطق بعينها، وقدرتها على التغلغل فيها، واستمرار سيطرتها عليها، والذي يستشف، أو يستنتج منه برأي البعض، تبني سكان تلك المناطق لفكر الجماعات الإرهابية وسلوكها، أو وجود تشابه بنيوي بين المجموعتين، القادمة والحاضنة، فكراً وسلوكاً، ذلك في مقابلِ مقاومةِ مناطق أخرى واستعصائها على تلك الجماعات.
يحيطُ بمفهوم “البيئة الحاضنة للإرهاب” التباسٌ وغموضٌ دالّان، فهو يحمل مضامين متعددة، فضلاً عن الدلالات المتنوعة، ويحتاج، من ثمّ، إلى مزيد من التدقيق في تقصي مضامينه ودلالاته، بدءاً من محاولة تعريفه ورصد مكوناته وعوامل تشكل ماصدقاته في سياقاتها التاريخية وتعييناتها المجتمعية والثقافية، مروراً بالكشف عن تهديدات ومخاطر تكتنف مداركه الملتبسة واستعماله المضطرب في السياق السوري، وصولاً إلى محاولة تفنيد بعض استعمالاته الزائفة.
إنَّ مفهوم “البيئة الحاضنة” مستمد بالأساس من ميدان العلوم الطبيعية، ويعني الوسط أو الحيّز الذي يتوافر على جميع الشروط والأسباب التي تسمح لكائنٍ ما، أو ظاهرة، بالنشوء والحياة والنمو، إنه بعبارة أخرى، البيئة المناسبة أو الملائمة للوجود والاستمرار. جرى سحب هذا المفهوم من مجاله الأصلي، وتبيئته للاستخدام في العديد من الميادين الأخرى، الثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها، حيث بتنا نسمع حديثاً عن بيئة حاضنة للإبداع أو للتغيير أو للمقاومة أو للأعمال... إلخ. وأيضاً بيئة حاضنة للإرهاب. والعامل المشترك بينها كلّها، أنها مناسبة ومحفزة لبزوغ ظاهرة ما ولنموها واستمرارها.
بهذا المعنى، يمكن القول: إنَّ البيئة الحاضنة للإرهاب هي بيئة اجتماعية قد تقوم في حيّز جغرافي محدد، وتشكل سياقاً يساعد على نشوء وانتشار وتفاعل أفكار وسلوكيات الجماعات والأفراد الذين يتبنون فكراً تكفيرياً متطرفاً، ويتوسلون العنف طريقة وطريقاً لنشره والسيطرة من خلاله.
*   *   *   *   *
إلا أن هذا المفهوم، ليس وحيد الدلالة؛ بل يمكن التمييز بين عدة مستويات، وربما أنواع، من البيئات التي يمكن أن توصف بأنها حاضنة للإرهاب.
يمكن الحديث في المستوى الأول، عن بيئة مولّدة للإرهاب، وهي بيئة تتسم بحضور قويّ للفكر المتطرف، الدِّينيّ منه بخاصة، وباحتكاره للمجال العام، في مقابل ضعف حضور مؤسسات الدولة وخدماتها، وغياب الأحزاب السياسية والتنظيمات والمؤسسات ذات الطابع المدني والعلماني والخطاب التنويري المنفتح، ليتحول السكان في مثل هذه الوضعية إلى “أسرى” ذلك الخطاب المتطرف المتفرد بهم، وأسرى تلبية لاحتياجاتهم المعرفية والمعيشية.
هذا الارتهان عادة ما يرتبط بانتشار للفقر والجهل والأمية، وبمعدلات زيادة سكانية أكثر من مرتفعة، أما جغرافيا هذه البيئة فهي الأرياف البعيدة عن المركز وخططه التنموية، كما يمكن لحظها في العشوائيات وأحزمة الفقر المحيطة بالمدن، حيث تسهِّل وضعية هذه المناطق عمل الجماعات المتطرفة وتغلغلها بين السكان واستقطابهم فكرياً واقتصادياً، بحيث يتحولون شيئاً فشيئاً من الالتفاف حول أهداف هذه الجماعات، إلى تشكيلهم لنواة صلبة لها.
أما على المستوى الثاني، فيمكن تحديد نوع آخر من البيئة الحاضنة يُطلق عليه البيئة المتقبلة للإرهاب أو المتعاطفة وغير المقاومة، وربما المستسلمة والمنقادة له. وهي تختلف عن الأولى في أنها ليست مولدة للإرهاب، لكنه عندما يصل إليها، تكون مهيأة إما للانسجام معه، أو للانقياد له دون مقاومة. تتسم هذه البيئة بأن أفرادها عموماً ليسوا من متبني الفكر المتطرف، ونادراً ما ينضمون إلى صفوفه وجماعاته، في رفض ضمني لسلوكيات المتطرِّفين العنفية، إلا أنهم لا يبدون مقاومة لهم، ويتقبلون وجودهم بينهم في نوع من الاستسلام، والانقياد، وربما التعاطف الصريح أو الضمني، في محاولة منهم للحفاظ على مصالحهم بأقل الأضرار الممكنة ودون الاصطدام مع سلطة الأمر الواقع التي تفرضها الجماعات الإرهابية بقوة السلاح وسلطة المقدس الذي تنطق باسمه عادة.
تتسم هذه البيئة أيضاً، بانتشار الفقر والجهل، ولعلَّ أكثر ما تتسم به وعي سياسي شديد الهشاشة، وملتبس، وساذج إزاء مفهوم الدّولة والمواطنة والهويّة الوطنية الجامعة، ويمكن أن توجد، جغرافياً، كسابقتها، في الأطراف البعيدة عن المدن، وأيضاً في العشوائيات، وأحزمة الفقر، كما يمكن أن توجد في بعض البيئات المدينية المحافِظة التي تنحو نحو النأي بنفسها عن كل ما يهدد مصالحها.
ويمكن على المستوى الثالث الحديث عن تلك البيئة المشغّلة والمصنّعة لجرثومة الإرهاب في البيئتين السابقتين. فهي تخلّق الإرهاب معملياً وتصنّعه، وتعمل على استنباته وتوفير الشروط اللازمة والضرورية لكل ذلك. تتشكل هذه البيئة من فواعل دولية وإقليمية ذات مصلحة في توظيف الحالة الإرهابية واستخدامها لإحداث تأثيرات معينة أو تحقيق غايات وأهداف محددة منها زعزعة استقرار الدول، أو استحداث مراكز نفوذ وتأثير لها، أو إعاقة مسارات تنموية مستقلة وغير تابعة، وقد تكون منافسة في سياق إقليمي معين.
هذا ما حصل في حالة تصنيع جماعة الإخوان المسلمين منذ بدايات القرن الماضي، وبعدها كل المنظمات المستنسخة منها جذعياً وإن تم إلباسها إهاباً مختلفاً في الشكل، كالقاعدة، والنصرة، وداعش، وجماعات أخرى أقل شأناً. تشكل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قبلها، والسعودية وقطر وتركيا أمثلة واضحة في هذا المجال، من حيث تشكيلها بيئة مصنعة وموظفة للجماعات الإرهابية المختلفة، تخطيطاً وتمويلاً وتدريباً وتسليحاً وتسهيلات لوجستية، لا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض المنظمات الإرهابية، وبعد “الدفعة الأولى” من “المحرك الأول”، سرعان ما تمتلك عوامل قوة ذاتية عبر سيطرتها على أراضٍ وموارد طبيعية وبشرية تؤمن لها عوامل الاستمرار.
*   *   *   *   *
يمكن للمدقق في هذه المعاني/المستويات/الأنواع، المشار إليها أعلاه، أن يستنتج أن وجود بيئة حاضنة للإرهاب بالمعنيين الأول والثاني، يستلزم في حالة سورية توافر عوامل عديدة داخلية، وخارجية، تتوزع العوامل الداخلية بين الجغرافيا (الأرياف البعيدة عن الحواضر، أحزمة العشوائيات) وعوامل تنموية (ضعف الاستفادة من الخطط التنموية، أو غياب التشميل الفعلي فيها، وعدم إيلائها أهمية خاصة بوصفها مناطق ذات احتياجات خاصة بالمعنى العام، أو ذات أولوية في الاستجابة في حالة الكوارث الطبيعية كالجفاف الذي حدث في سورية، واستدعى نزوح مئات الآلاف من مناطق ليشكلوا أحزمة فقر جديدة حول المدن)، وعوامل سكانية (منها معدلات عالية في الزيادة السكانية مقابل دخول منخفضة وتنمية بشرية متدنية تعليميّاً وصحيّاً، الأمر الذي يسهم في إعادة إنتاج الفقر وتعميمه وتفشي الجهل والأمية وتدني معدلات التشغيل)، فضلاً عن قرارات اقتصادية تضعف عوامل قوة تلك المناطق ومواردها زراعياً أو صناعياً أو حتى تجارياً وسياحياً. إذ يشكل رفع الدعم عن مستلزمات الزراعة ومدخلات الصناعة، والاتفاقيات الاقتصادية التي لا تلحظ حماية المنتج الوطني، صناعيّاً وتجاريّاً، مصدر إفقار لسكان تلك المناطق، ومصدر سخط متنامٍ حتى ولو لم يطفُ على السطح. أما العوامل الثقافيّة فتتمحور في سيادة الخطاب الدينيّ المتشدد على حساب الخطاب المدنيّ والعلمانيّ، وغياب المنابر الثقافية باستثناء منابر المساجد التي استولى عليها تدريجياً خطباء نهلوا من الفكر الوهابي المتطرف. تتضافر العوامل الاجتماعية هنا مع ما سبقها، عبر ترسخ العلاقات التقليدية المحافظة ذات البنى البطريركية والتي أسبغ عليها الخطاب الديني آنف الذكر إهاباً مقدساً عبر مقولات الحلال والحرام التي هيمنت على كل ما عداها، وجعلت إمكانية إحداث أي خرق أو تغيير إمكانية شبه مستعصية، لأنها تعني الدخول في حرب مع المقدس الديني.
رافق ذلك كله، وعي سياسي متدنٍ، أو ملتبس، إزاء مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم الدولة والسلطة، وضعف الاهتمام بالشأن العام في ظل حياة سياسية شبه راكدة، بفعل غياب استراتيجيات وسياسات عامة لمواجهة ما سبق.
كل العوامل الداخلية سالفة الذكر، لا تعدو أن تكون أكثر من مجرد شروط مؤهبة أو مهيأة لاستقبال، أو إحداث، التأثير المطلوب، والذي تضطلع به العوامل الخارجية المتمثلة في البيئة المصنعة والمشغلة للإرهاب، بفواعلها الإقليميّة والدوليّة، وبما يخدم مصالحها، في ظل استقطاب حادّ وتبعية لازمة بين حوامل الفكر الإرهابي والنظام العالمي الإقليمي، والذي شهد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تسيُّد الولايات المتحدة الأمريكية المشهدَ العالميَّ، وتنامي تأثير السعودية ودول الخليج في المشهد العربي، بعد الارتفاع الكبير في أسعار النفط إثر حرب 1973 والذي تم من خلاله تمويل انتشار الوهابية في المنطقة، عبر المساجد والجمعيات الخيرية وتدريب الدعاة لتملأ الفراغ الناجم عن انفضاض الشعوب العربية عن المشروع القومي بعد هزيمة 1967، وأسهم تمويل الفضائيات الدينية في تجذير هذا الفكر المتطرف بشكل لم يكن متاحاً من قبل.
في الوقت نفسه، وفي علاقة جدلية من تبادل التأثير والتأثر، لا يمكن لهذه العوامل الخارجية أن تفعل فعلها دون وجود الشروط الداخلية المؤهبة والتي تشكل “كعوب آخيل” يمكن النفاذ منها.
تشكّل المرجعيات الدينية-الطائفية (من رجال الدين وخطباء المساجد) مدخلاً لإحداث التأثير المطلوب والمتبادل بين الخارجي والداخلي، غالباً ما يكون قادة الرأي في هذه المرجعيات ممّن جرى تأهيله وتحضيره في بلدان العقيدة الوهابية المتشددة، فضلاً عن ربطه مادياً ومالياً بتلك البلدان. تقوم هذه المرجعيات بدور الوسيط الناقل للأثر والمحدث للتأثير، عبر ارتباطها العضوي بالإيديولوجيا المتشددة، حيث تعمل على استحضار الوعي بالهوية الدينية المذهبية والطائفية، على حساب الانتماء الوطني المدني، يساعدها ضعف حضور مؤسسات الدولة وخدماتها في تفعيل هذا التأثير وتثقيله، كما يساعدها وجود أعدادٍ لا بأس بها من العمالة المهاجرة في بلدان الخليج، والتي خضعت هي أيضاً للتأثير الوهابي، وارتبطت مالياً ببلدانه، وهي بمعظمها من العمالة ذات المستوى التعليمي غير العالي والذي يسهل قولبة وعيه والتأثير فيه وعليه.
يكاد الأمر يكون متشابهاً مع المرجعيات القبلية والعشائرية، والتي تنتشر امتداداتها على مساحة دولٍ عدة، وتتوزع ولاءاتها بينها، ممّا يسهّل استقطابها عبر المال والنفوذ وتقديم الخدمات لأفرادها.
*   *   *   *   *
يمكن القول: إنَّ استخدام مصطلح البيئة الحاضنة للإرهاب بدون تدقيق وبإطلاقٍ للدلالة على جميع المناطق التي دخلها الإرهاب التكفيري في سورية يستبطن تهديداً ناجماً عن إطلاقيته وعموميته وغموضه والتباسه، فاستخدامه على هذا النحو يمكن أن يُحدث شرخاً مجتمعيّاً بين المناطق السورية والسوريين أنفسهم بوصفه وسماً لتهمة مشينة تسمح بتصنيف السوريين إلى سوريين أخيار (نابذون للإرهاب) وسوريين أشرار (حاضنون للإرهاب). ما يعني، في المآل الأخير تحميل جميع سكان تلك المناطق التي سيطر عليها الإرهاب مسؤوليةً عن وجوده بينهم، الأمر الذي يهدد إمكانية فتح الآفاق أمام المصالحة الوطنية التي ينبغي أن تؤسس لسورية ما بعد الحرب، كما أنَّه يحمل مدارك الكراهية والتخوين وربما عمليات الانتقام المادية والمعنوية.
فهناك فارقٌ ينبغي لحظه بين بيئات تحتضن الإرهاب عن وعي وقصد وبيئات أخرى “تحتضن/تخضع” للإرهاب بالقسر والإكراه خوفاً من بطشه وسياساته الراديكالية وعملائه وانتهازييه والمتكسبين منه، وربما تستسلم له بفعل “القوة الناعمة” التي يمارسها الخطاب الناطق باسم المقدس، والذي يدّعي احتكار الحقيقة وإنتاجها، خطابٌ احتكر الفضاء العام إلى حد كبير، كما أشرنا، برعاية شبه رسمية في كثير من الأحيان، وفي ظلِّ الجهل بالآخر، وشيطنته، وضعف التواصل معه، مما ساعد على ترويج السرديات الطائفية المفعمة بالتهويل والاختلاقات، في تطبيق لما أطلق عليه شتراوس “الكذب النبيل” الذي يشرعن الكذب لاستقطاب الجماهير، وأيضاً في ظل تقصير المؤسسة الدينية الرسمية عن الاضطلاع بدورها في إزالة اللبس الذي اكتنف الكثير من تفسيرات النصوص الدينية.
يندرج تحت “القوة الناعمة” عمل الجمعيات الدينية تحت تسميات خيرية، والتي نشطت بشكل لافت ومريب في السنوات التي سبقت الحدث، وكان كثيرٌ منها غطاءً لنشاط جماعة الإخوان المسلمين. وفي مقابل التضييق على عمل الجمعيات المدنية وعدم الترخيص لها، ملأت الجمعيات الدينية الفراغ، في ظلِّ تراجع دور الدولة الأبوي، ونظراً لتمويلها الخليجي السخي، استطاعت أن تستقطب الكثير من العائلات والشباب عبر المساعدات وبرامج رعاية الأيتام وتأمين فرص عملٍ للشباب وحتى المساعدة في تزويجهم.
*   *   *   *   *
نميل في ضوء التحليل السابق إلى القول: إنّه من الصعوبة بمكان الحديث عن بيئة حاضنة للإرهاب، إلا بنسبٍ ضئيلة جداً، وأنَّ ما يُطلق عليه بيئة حاضنة ليس إلا بيئة مستسلمة أو منقادة بالقسر والإكراه وليست حاضنة بالمعنى العلمي.
ورغم إدراكنا للصعوبات التي تكتنف الحصول على معرفةٍ دقيقةٍ بمكنونات النفس، للتدليل على ما إذا كان سكان المناطق التي أُطلق عليها أنها “حاضنة للإرهاب” هم موالون فعلاً له أم أنهم خاضعون بحكم الخوف وعدم توافر خيارات أخرى، إلا أنَّ المرء يمكنه أن يتحصّلَ على بعض المؤشرات المساعدة على ذلك، منها:
-نزوح عدد كبير من أهالي المناطق التي تدخلها الجماعات الإرهابية باتجاه المناطق التي تقع تحت سيطرة الدولة، هذا النزوح بحدِّ ذاته دليلٌ على رفض هؤلاء لوجود تلك الجماعات وعدم تبنيهم للإيديولوجيا المتطرفة، وتفضيلهم خيار النزوح بكلِّ ما يرتّبه من معاناة فقدان الممتلكات والدخول ومصادر الرزق وأماكن السكن وغيرها...
-أما من بقي في تلك المناطق، فقد اختار البقاء حفاظاً على ممتلكاته ومصادر عيشه وعدم رغبته بالتفريط بها والتعرض لتجربة النزوح المؤلمة، ما يعني أنَّ بقاءه لا يُعدُّ دليلاً على احتضانٍ أو تعاطف، بقدر ما هو رضوخٌ لأمرٍ واقع هو أهون الشرَّين برأيه.
-قسم ممن اضطر للبقاء تحت نير الجماعات الإرهابية، وبعد أن عانوا من الممارسات اللاإنسانية والإيديولوجيا التكفيرية، والتي أدّت إلى نفور الناس من هذه الجماعات وإلى بزوغ الاحتجاجات عليهم، حاولوا الخروج من تلك المناطق لكنهم اكتشفوا أنهم غدوا رهائن. فوجود المدنيين في المناطق التي احتلّها الإرهابيون شكّل درعاً بشرية احتمى الإرهابيون بها، ووسيلة لاستجلاب المساعدات والأموال، ومانعاً إنسانياً من القيام بأي عمل عسكري لتحرير تلك المناطق خوفاً من وقوع ضحايا من المدنيين (وحتى عندما كان بعض السكان يحصل على إذن بالخروج لشأن صحي مثلاً، كان يجري الاحتفاظ ببقية أفراد عائلته رهائن لضمان عودته). وقد شاهدناهم يخرجون أفواجاً، مختارين البقاء في كنف دولتهم، يستثنى من ذلك طبعاً الإرهابيون وأفراد عائلاتهم.
-العديد من أبناء تلك المناطق التي وقعت في أسر الإرهاب كانوا يخدمون في صفوف الجيش العربي السوري، وأسهموا هم أنفسهم في تحرير مناطقهم. وفي دليل إضافي على أن كثيراً من سكان تلك المناطق كانوا “خاضعين” للإرهاب لا “حاضنين” له، كانوا يخفون أمر وجود أبنائهم في صفوف الجيش خوفاً من الاضطهاد الذي سيتعرضون له إذا ما عُرف هذا الأمر والذي قد يصل إلى التنكيل والسجن إن لم يكن القتل.
-حتى في بلدان اللجوء ومخيماتها، فإن توصيف اللاجئين بأنهم بيئة حاضنة للإرهاب يستعصي عند استحضار مشاهد تدفق اللاجئين السوريين في البلدان التي سمحت لهم بالتصويت في الانتخابات الرئاسية كلبنان والأردن، تلك المشاهد التي دحضت فكرة أن هؤلاء اللاجئين هربوا من “بطش النظام” وشكلت صدمة حقيقية ومحرجة للكثيرين ممن سوّقوا لهذه الفكرة. وينبغي ألا يفوتنا في هذا السياق روايات عديدة عن أن اللاجئين فُتح لهم ممر وحيد للمغادرة، إما إلى الأردن في حالة الجنوب أو إلى تركيا في حالة الشمال، في حين أُغلقت بقية الممرات المؤدية إلى الداخل السوري من قبل المسلحين أنفسهم.
باختصار، يمكن القول: إنه لا يمكن الحديث باطمئنان وثقة عن وجود بيئات حاضنة للإرهاب بالمعنى الدقيق للكلمة، فالمؤشرات تدحض دقة مثل هذا القول، وإن كانت لا تنفيه بالمطلق، والتبصر والتدقيق في الاستخدام يمكنه أن يمنع التوظيف السياسي لهذا المفهوم وما يمكن أن يحدثه من شرخ بين السوريين، ولعل التعامل الواعي للحكومة مع الخارجين من هذه المناطق مؤشرٌ على التبصر بضرورة اعتماد سياسة الاحتواء، وهي سياسة تتطلب خططاً على المستوى الوطني لنزع أي فتيل يمكن أن يتسبب في مثل هذا الشرخ في وعي أو لاوعي السوريين.

 

د.إنصاف حمد: مركز دمشق للدراسات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...