سوبرمان: 80 عاماً في خدمة الإمبراطورية الأميركية

14-05-2018

سوبرمان: 80 عاماً في خدمة الإمبراطورية الأميركية

Image
 مان

إنه أسطورة أميركيّة معاصرة تطوّرت عضوياً عبر العقود لتصبح واحدة من أهم أيقونات الثقافة الشعبيّة الأميركيّة ومساحة تسمح بقراءة هادئة في تلافيف العقل الإمبراطوري الذي يحكم دولة العالم العظمى. إنه «سوبرمان» أو «الرجل الفولاذي» الذي تحتفل الولايات المتحدة بالذكرى الثمانين لأول ظهور له عام 1938 في العدد الأول من مجلة «أكشن كوميكس»


كان الأميركي جيري سايغل في الـ13 من عمره عندما كتب قصّة قصيرة عنونها بـ «زمان الرجل الخارق – سوبرمان» ووضع رفيقه في المدرسة جو شيستر رسوماً لها عندما قبلت للنشر في مجلة صغيرة لهواة الخيال العلمي عام 1933. منذ اليوم الأول، كانت لدى الصديقين قناعة بقدرة شخصية سوبرمان على الاستمرار حتى بعدهما. لكن صناعة الكوميكس الأميركيّة حينها لم تر تلك القيمة الكامنة في هذا الرّمز الثقافي. عاندتهما لسنوات قبل أن تأتي اللحظة التاريخيّة على يد فينيس سوليفان محرر «أكشن كوميكس» المجلة الجديدة من «شركة كوميكس المحققين» (DC). صودف أنّ فينيس كان يبحث عن مواد يضمنها عدده الأول، فباع الصديقان له حقوق الشخصيّة بـ 130 دولاراً أميركيّاً. هكذا، ظهر البطل الأبيض الوسيم ذو العينين الزرقاوين والمهاجر إلى أميركا من كوكب «كريبتون» على صفحات كل عدد من «أكشن كوميكس» طوال الأعوام الثمانين التالية وإلى وقتنا الرّاهن. إذ صدر العدد 1000 الشهر الماضي في موازاة عدد تذكاري خاص يستعيد محطات هامة في حياة «سوبرمان». 

منذ العدد الأول لـ «أكشن كوميكس»، كان سوبرمان كسراً لقواعد لعبة الكوميكس الأميركيّة وقتها. هو كان شخصية الكوميكس الأولى التي ظهرت في قصة من 13 صفحة مقارنة بصفحتين أو أربع كما كان الأمر عليه في مجلات تلك المرحلة. تسبب نجاحه الاستثنائي في قرار شركة DC بإصدار مجلة موازية مخصصة لسوبرمان كأول شخصيّة كوميكس أميركية تحظى بعنوانها الخاص. 

مجلات «الكوميكس» في النصف الأول من القرن العشرين كانت ربما أهم أدوات تشكيل وعي الناشئة عبر الولايات المتحدة، وقد حذّر الخبراء مبكراً من أن شخصيات الأبطال الوهميين في تلك المجلات ظاهرة غير صحيّة. يومها، كتب أحدهم (فريدريك ويرثام في كتابه الشهير «إغواء البريء») إنهم يشكّلون خطراً داهماً على عقول الفتيان والفتيات، تماماً كأبطال أساطير دينيّة معاصرة تُلهم قناعات المؤمنين المسحورين بها، وتدفع سلوكياتهم في اتجاهات ليست بالضرورة عقلانيّة بصفتها نوعاً من أفيون شعوب جديد. والحقيقة أن جماعات مسيحية أميركية شكت في وقت مبكر أن شخصية سوبرمان قد تكون بديلاً عصريّاً في عقول اليافعين عن شخصيّة السيّد المسيح. شكوى مفهومة شكلاً وموضوعاً، فشعبيّة البطل الفولاذي الساعي لإحقاق الحقيقة والعدالة ما لبثت تتسع، بينما تحفل قصصه برموز أسطوريّة واستعارات توراتيّة واضحة تمنحه شرعيّة نبي جديد. 

قصة نجاته من الموت رضيعاً وإرساله إلى الأرض تتقاطع بوضوح مع قصة النبي موسى في مفاصل كثيرة. ذهب فلاسفة - حللوا شخصية سوبرمان بوصفها رمزاً ثقافيّاً يمكن قراءته على مستويات متعددة - إلى أن سوبرمان كأنه «مسيح» أميركي عصري أرسلته الآلهة من أجل خلاص الإنسان. بل إن اسم سوبرمان الأصلي في كوكبه الأم يعني «كلمة الله»، واسمه الأرضي - كلارك - مأخوذ من تعبير قديم يعني «القسّ». كما تتكرر في قصصه أسماء أشخاص وأماكن ذات جذر توراتي، وتأتي على أيديه المعجزات صغيراً، ويموت ليقوم من جديد مُخلصاً للبشر. 

هذه المرجعيّة العقائدية لشخصيّة سوبرمان لم تكن بالضرورة نتاج ثقافة الصديقين سايغل وشيستر اليهوديين بحكم الديانة، بقدر ما هي ثقافة أميركيّة سائدة ألقت بظلالها على أسطورة عصريّة استمرت تكبر بشكل عضوي على أيدي عدد كبير من الأشخاص عبر العقود، مستعيرةً رموزها وأبعادها من أجواء محيطها المباشر. وبالفعل، شهدت شخصيّة سوبرمان انعطافات عدة تزامناً مع تحولات الحياة الأميركيّة. فالبطل الذي تربى تربية أميركيّة كلاسيكيّة على يد والديه ــ الأرضيين - في ولاية كنساس، بدأ حياته العمليّة معادياً بنحو ما للنظام القائم في أجواء فترة الكساد الكبير ثلاثينيات القرن الماضي. كان نصيراً للفقراء، والنساء المعنفات، بينما كان مالكو العقارات الجشعون في أعلى قائمة أعدائه. لكنه ما لبث أن أعماه النجاح الهائل عن بداياته (الاشتراكيّة) تلك، لينخرط مع دخول الجيش الأميركي الحرب العالميّة الثانية في النظام الإمبراطوري كواحد من أهم الرموز الثقافية التي حُشدت لدعم المجهود الحربي ضد النازية. لاحقاً، حمل شعاره المشهور خلال مرحلة الحرب الباردة «للحقيقة والعدالة وطريقة العيش الأميركيّة» كنقيض تام للاتحاد السوفياتي، عدو الرأسماليّة والفردانيّة. ثم دخل في طور جديد تخلى فيه عن الجنسيّة الأميركيّة على أساس أن القيم الأميركيّة معولمة تصلح لكل البشر، وأنه كبطل خارق سيتولى أدواراً أبعد من حدود أميركا ذاتها وعلى امتداد الكوكب... كأنّه شرطي لحفظ الأمن والسلام العالميين وفق التعريف الإمبراطوري دائماً.


هنا وجدنا سوبرمان في مواجهة كل أعداء أميركا عبر العالم: في يوغسلافيا السابقة، والعراق والصحراء ضد الإرهابيين الإسلاميين، وحتى في طهران دعماً للمتظاهرين (العزّل) في مواجهة السلطات الإيرانّية الغاشمة. ويتهمه بعضهم الآن بالانحياز إلى صف الليبراليين في مواجهة ترامب واليمين الأميركي المتشدد. 

مهما يكن من أمر سوبرمان، فهو يبقى دائماً للناشئة الغربيّة أنموذج الدولة الأميركيّة الخارقة في إطار ميثولوجيا دينيّة أسطوريّة تناسب ذوق العصر. هو السلطة التنفيذيّة التي ينبغي أن يثق بها الأميركيون لاستخدام القوة من أجل الخير (افعل ما شئت يا سوبرمان، فنحن نثق بك)، مع قبول كون الخيارات غير واضحة أحياناً. مما يعني تقبّل اتخاذ قرارات مؤلمة تودي بالأرواح (غزو العراق مثلاً) فـ «العالم بحاجة لك لمواجهة الأشرار» أعداء الإمبراطوريّة. وهو في الوقت عينه، سلطة قضاء أعلى تحدد «من معنا ومن ضدنا» وينفّذ أحكامه ضد الأعداء متسرعاً دون مرجعيات أو تحقيقات. كما يمتلك قدرات هائلة على التجسس على كل أميركي بحجة استهداف المجرمين. وهو بشخصيته الأخرى ـــ الصحافي كلارك كينت ــ يلعب دوراً إعلاميّاً مشبوهاً يصوغ «الحقيقة» للأميركيين ويبيعهم على صفحات جريدة «الكوكب اليومي» هراء أيديولوجيّاً بما يوافق أهواء سوبرمان. وهو يعطي نفسه صلاحيّة إنشاء معزل على غرار غوانتنامو هائل في قلب كنساس لعزل أعدائه المارقين بدون محاكمات ولا قوانين.

لكن خطر سوبرمان فلسفيّاً، يتجاوز هذه الأبعاد السياسيّة الفجّة نحو مسألة أبعد أثراً تتعلق بتوظيف الإمبراطوريّة الأميركية لهذه الأسطورة المعاصرة في تحقيق أغراضها للتأثير في وعي الناشئة الأميركية. مهما ادعى سوبرمان أنه كرس وجوده على هذا الكوكب لحماية السلام العالمي، فإنه يحقق ذلك فقط من خلال العنف والقهر والقتل أحياناً. لكن عنف سوبرمان ليس مجرد عنف شرطي يقتل أميركياً أسود أو مدنيّاً عراقيّاً لمقاومته الاعتقال، بل عنف مضخم على مستوى أسلحة دمار شامل. منذ غلاف عدد «أكشن كوميكس» الأول، يوظّف ذلك العنف الاستثنائي لحفظ النظام... الأميركي. تلك كانت دائماً وفق رينيه جيرار صاحب كتاب «العنف والمقدّس» غاية الأساطير الدينية والقوميّة: أن تبرّر العنف ضد الآخر المختلف وتعطيه ثوباً جميلاً مقبولاً. وقد كان بالصدفة في حالة سوبرمان أزرق وأحمر كما ألوان علم الإمبراطوريّة. 

ليست أسطورة سوبرمان إبداع شابين صغيرين لم يحظيا بفرصة التعليم الجامعي على هامش كساد أميركا الكبير. سوبرمان كان ضرورة أميركيّة لتبرير العنف الهائل وتجميله في المخيال الجمعي الأميركي كي يصير ممكناً للناشئة الأميركية أن ترى في جرائم بحجم هيروشيما وناغازاكي وفيتنام وغزو العراق عملاً بطولياً وعنفاً إيجابياً. بالقتل تسقط الإمبراطوريات وبالعنف تقام، وسوبرمان رمز أعلى لدورة العنف البشري هذه، وهي تصل إلى ذروتها عبر التاريخ في الإمبراطوريّة الأخيرة قبل القيامة بدقائق. أسطورة سوبرمان المعتمدة على العنف المقدّس، والعنف المتبادل خطر على البشريّة بما تمثله، واستمراريتها عبر العقود نذير شرّ شؤم مستطير، ونجاحها المتمدد انتصار آخر مستمر للثقافة الأميركيّة في موازاة أيقوناتها الثقافية الأخرى: مطاعم ماكدونالد، وتلفونات «أبل» وسجائر «مارلبورو»... عيداً سعيداً يا سوبرمان لك في أميركا. في هذا الجزء من الكوكب، نتمنى لك سقوطاً سريعاً.

 


الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...