الغاز الطبيعي.. كيف سيغير اكتشافه خريطة التحالفات القائمة في شرق المتوسط؟

19-05-2018

الغاز الطبيعي.. كيف سيغير اكتشافه خريطة التحالفات القائمة في شرق المتوسط؟

على شاطئ البحر كانوا يتدربون. مدفعية تدك أهدافاً وهمية بالقنابل، ومروحيات تهاجم عن قرب، ومظليون يضيقون الخناق على العدو الافتراضي. إنها المناورات الضخمة التي أجرتها القوات التركية الخميس 10 مايو/ آيار، بولاية إزمير غربي تركيا، بمشاركة قوات من عدة دول . وعندما انتهى الصخب، تحرك رئيس الأركان التركي، خلوصي أقار في اتجاه الميكروفون، ليلقي بكلمة استمرت نحو عشرين دقيقة، كان أهم ما جاء بها أن جيش بلاده لن يسمح بفرض الأمر الواقع في جميع البحار، وأنه سيواصل حماية حقوق ومصالح تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية في شرق البحر المتوسط.والسؤال: ما هو الأمر الواقع الذي يتحدث عنه القائد التركي، ويتوعد بتغييره؟ وما هي حقوق تركيا وشمال قبرص التركية التي يتمسك بها الرجل؟ إنه التوتر الذي يحكم الآن منطقة شرق البحر المتوسط، التي تعيش ما يشبه الحرب الباردة جراء التداخل بين النزاع على مناطق وجود الغاز الطبيعي، مع الصراعات الحدودية والسياسية التاريخية مثل تلك بين تركيا واليونان وقبرص والتوترات الأيديولوجية والسياسية الأحدث كتلك التي بين تركيا ومصر وإسرائيل. ورغم الرسالة الحادة التي وجهها رئيس الأركان التركي، فإن هناك من يرى أن الاقتصاد سيتغلب في النهاية على السياسة، وخطوط الغاز هي التي ستعيد تشكيل تقاطعات مصالح دول المنطقة، وليست الخلافات الأيديولوجية والسياسية. في هذا التقرير نرصد ما يصنعه الغاز من تحالفات وعداوات بين جيران الكنز الطبيعي الأكبر في العالم.

الغاز صنع هذا التحالف الرباعي ضد تركيا

“تركيا متمسكة بحقوق قبرص الشمالية في غاز شرق المتوسط”، عبارة متواترة في كلمات المسؤولين الأتراك، في رأي إمرى أرشان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مرمرة التركية. ويقول إمري أرشان إن “هذه الرسالة وصلت عملياً للدول الأربع المتحالفة ضد تركيا، قبرص وإسرائيل ومصر واليونان، عبر الوجود العسكري التركي في المنطقة البحرية المحيطة بجمهورية شمال قبرص”.

ويعتقد أرشان أن “قبرص وإسرائيل ومصر واليونان تشكل كتلةً جيواستراتيجية معادية لتركيا، رغم أن البلدان الأربعة لديها مصالح مختلفة، وأسباب متباينة للتوتر مع تركيا، لكنها تتوحد حول ملف الغاز في حلف لن يستمر طويلا”. ويرى أن احتياطيات الغاز بإسرائيل في شرق المتوسط، ستساعد على تحسُّن العلاقات بين تركيا وإسرائيل من جهة، وبين تركيا وإسرائيل وقبرص من جهة أخرى، وهذا بدأ بالفعل مع إسرائيل منذ 2016، ولكن بسبب القدس وغزة، توترت العلاقات مع إسرائيل مرة أخرى، ولكنه قال: “أتوقع أن الغاز سيلعب دوراً في استعادتها”،والغاز سوف يعيد حوار المصالح بين تركيا وإسرائيل.

يبدو أن الجغرافيا قبل السياسة ستملي شروطها على الجميع، فأقصر وأنسب خط لأنابيب الغاز من شرق المتوسط إلى الأسواق الأوروبية سيكون عبر تركيا، حسب إمرى . ويقول إنهم يحتاجون لبناء خط الأنابيب لتصدير الغاز، ولا توجد بدائل حقيقية عن تركيا. “كنت في إسرائيل، العام الماضي (2017)، وقالوا إنهم واعون إلى أن الطريق الوحيد الممكن سيكون عبر تركيا؛ لأن خط الأنابيب تحت البحر سيمر بها قبل أن يصل لأوروبا”. ويرى أن الحكومتين التركية والإسرائيلية ستتعاملان ببراغماتية مع ملف الغاز، ورغم المشكلات السياسية المتصاعدة نتيجة السياسات الإسرائيلية والقدس، فإن خط أنابيب الغاز سيُبنى بواقعية، وربما يمر بمنطقة أضنة في جنوب تركيا، ولكن المحادثات متوقفة حالياً -مؤقتاً- بسبب المشكلات السياسية. وتطبيقاً لمبدأ لا تضع البيض في سلة واحدة، تريد إسرائيل توزيع الطرق وتنويع شركائها في عملية تصدير الغاز. وتفكر إسرائيل في مسارات متوازية، فرغم توقيعها صفقةً كبيرةً لتصدير الغاز إلى مصر، فإنها تناقش مد خط يمر بتركيا، حيث قال وزير البنية التحتية الوطنية للطاقة والمياه الإسرائيلية، إن تركيا وإسرائيل ستوقِّعان على بناء خط أنابيب بينهما لتصدير الغاز، وفي الوقت نفسه تدرسان خيارات أخرى على التوازي، بينها مصر واليونان.

الغاز سيجبر طرفي النزاع في قبرص على التفاوض

بالنسبة للأزمة القبرصية، فالقبارصة الشماليون (الأتراك) يقولون إنهم يجب أن ينالوا حصةً عادلةً من الغاز القبرصي، المكتشف حول الجزيرة المقسَّمة لشطرين منذ سبعينيات القرن الماضي. وكان يُفترض أن يؤدي الغاز المكتشف إلى تسهيل محادثات توحيد الجزيرة القبرصية، لكنها انهارت وأصبح الغاز موضوع خلاف وليس موضوع وفاق. ويرجح إمرى أرشان أنه سيتم استئناف المحادثات بسبب الغاز، على طريقة العلاقات بين تركيا وإسرائيل، التي تشهد توترات سياسية، ولكن هناك توافق متوقع حول موضوع الغاز.

والغاز هو صانع “الاتفاقية التاريخية” بين مصر وإسرائيل

“إحنا جبنا جول يا مصريين”، هكذا دافع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن صفقة استيراد الغاز الإسرائيلي بقيمة 15 مليار دولار في مواجهة الجدل الذي أثارته داخلياً، معتبراً الصفقة بمثابة هدف أحرزته القاهرة في المرمى، وقال إن مصر تحولت إلى مركز إقليمي بمجال تداول الطاقة. ويبلغ المدى الزمني للصفقة 10 سنوات، وتشمل استخراج الغاز من حقلي “لوثيان” و”تامار” قبالة سواحل البحر المتوسط، بقيمة تصل إلى 7.5 مليار دولار لكل منهما، وبموجب الاتفاق، سيتم تصدير 3.5 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، من كل حقل إسرائيلي على حدة. وبدأ العمل والإنتاج فعلياً من حقل غاز “تامار”، في حين تُستكمل إجراءات البناء بـ”لوثيان”، ومن المتوقع أن يبدأ العمل والإنتاج العام المقبل (2019). وقالت شركة “ديليك” الإسرائيلية إنه قد يتم استخدام خط الأنابيب التابع لشركة غاز شرق المتوسط (مصرية) والذي كان يُستخدم لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل. ورحَّب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بتوقيع اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر ووصفها بـ”التاريخية”، وقال: “إنها ستدخل المليارات إلى خزينة الدولة”.

والأردن تحت الضغط حتى يحدث الانقلاب المصري الكبير 2020

مع صفقة غامضة بقيمة 15 مليار دولار، ترغب إسرائيل في إعطاء رسالة ضغط على الأردن، تلوِّح فيها بأن مصر يمكن أن تصبح الآن طريقاً بديلاً آخر للغاز الإسرائيلي، لتحثَّ عمّان على الالتزام بالاتفاق السابق بين إسرائيل، وشركة الكهرباء الوطنية الأردنية (NEPCO). وكان الأردن شهد مظاهرات في أكتوبر/تشرين الأول 2016؛ احتجاجاً على صفقة الغاز الطبيعي المبرمة هذه. فإسرائيل تريد الآن الاستفادة من فرصة استعادة حصة سوقية في الأردن، قبل أن تقف مصر على قدميها، لتصبح دولة منافسة للغاز الإسرائيلي” حسب صبحت كربوز المحلل الاقتصادي المختص في الغاز والطاقة. إذ إن مصر تستعد لإحداث انقلاب كبير في خريطة إنتاج الغاز بالمنطقة حينما تصبح مصدِّرة للغاز بحلول 2020 مع نشاط الشركات الدولية في حقل “ظُهر” وعدة حقول أخرى، ويفضل الأردن شراء غاز طبيعي أرخص من مصر. ويعتبر حقل “ظُهر”، قبالة سواحل مصر، أكبر اكتشاف للغاز في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وتؤكد شركة إيني المكتشِفة، أن هناك ما يقارب 850 مليار متر مكعب من الغاز.

تركيا تعاني نهماً للطاقة وقلة في مواردها من الغاز والنفط

تبدو تركيا دولة سيئة الحظ بالمقارنة بجيرانها فيما يتعلق بالنفط والغاز؛ إذ إن إنتاجها من النفط والغاز ضئيل بالمقارنة مع جيرانها مثل أذربيجان وروسيا والعراق وإيران والشرق الأوسط الغني بالنفط، وتستورد تركيا معظم احتياجاتها من الطاقة، حيث تشكل الموارد المحلية 26% فقط من إجمالي الطلب. وفي العام الماضي (2017)، بلغ إنتاج تركيا المحلي من النفط نحو 2.6 مليون طن في السنة، تم حفره في مقاطعة باتمان الجنوبية الشرقية، والإنتاج المحلي بعيد عن مواكبة الطلب المحلي المتنامي، بعد أن أسهم بنسبة 1% فقط من الإجمالي المطلوب العام الماضي (2017). وتحتل تركيا المرتبة الأعلى من حيث متطلبات الطاقة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) على مدار الأعوام الـ15 الماضية، وفقاً للبيانات التي جمعتها الحكومة التركية. لكن الجغرافيا عوضتها بميزة أخرى، هي موقعها بين هذه البلدان الغنية بالنفط والاقتصادات الغربية المتقدمة صناعياً، المستهلِكة للغاز والنفط. وتعتبر تركيا معبراً مهماً للطاقة؛ إذ يتم حالياً نقل النفط الخام والغاز الطبيعي عبر خطوط أنابيب برية إلى تركيا، من روسيا وأذربيجان والعراق وإيران، ثم يتم نقل النفط الخام إلى المصافي بتركيا أو في الخارج.

وتحاول تركيا تعويض نقص مواردها من الوقود الأحفوري بأهميتها الجيوستراتيجية لمشاريع خطوط الأنابيب. لكن ذلك يحتاج الكثير من الأموال والاستقرار، وحتى التقارب السياسي مع بلدان لا تشارك أنقرة رؤاها الإقليمية، مثل روسيا وإيران. وهناك 4 خطوط أنابيب لتوريد الغاز إلى تركيا، اثنان منها من روسيا، أكبر مورِّد للغاز الطبيعي، التي تضخ 53% من إجمالي الاستهلاك في عام 2016، تليها إيران وأذربيجان، اللتان قدمتا 31% من إجمالي الطلب في العام الماضي (2017)، حسب بيانات القناة الرسمية التركية. وترغب أنقرة في أن تكون مركزاً للطاقة، حيث تقع بموقع استراتيجي عند مفترق الطرق بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ودول الشرق الأوسط الغنية بالنفط، والدول الأوروبية التي تحتاج إلى إمدادات النفط والغاز.

تركيا تحاول جذب خطوط الغاز من شرق المتوسط باتجاهها

تراهن تركيا على أن دورها الجغرافي الاستراتيجي كدولة عبور يمكن أن يفتح الطريق أمامها لتكون مركزاً للطاقة في أوروبا القارية. تعاقدت أنقرة وبدأت في إنشاء خطَي أنابيب جديدين؛ مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي بالأناضول (TANAP)، ومشروع خط أنابيب الغاز TurkStream (تركستريم). في أواخر العام الماضي (2017)، وافقت تركيا وروسيا على بناء Turk Stream (تركستريم)، التي ستنطلق من روسيا عبر البحر الأسود إلى محطة استقبال بالساحل التركي على بُعد 100 كيلومتر غرب إسطنبول قيد الإنشاء. اللافت أن نزاعاً في منطقة أخرى من العالم كان الدافع إلى ذلك، فالأزمة بين روسيا وأوكرانيا دفعت موسكو إلى توقيع صفقة خط أنابيب للوصول إلى السوق الأوروبية عبر تركيا بدلاً من الأراضي الأوكرانية.


وقبل ذلك، تم توقيع بروتوكول TANAP، الذي يعد ذا أهمية استراتيجية لكل من أذربيجان وتركيا، بين البلدين، في أواخر عام 2011، لإرسال الغاز الأذربيجاني إلى تركيا، ثم إلى أوروبا. الهدف الأول أمام تركيا الآن هو اجتذاب مسارات خطوط الغاز من دول شرق المتوسط كما فعلت مع إيران وروسيا، وهي العملية رغم الخلافات السياسية بين الجانبين حول الملف الأكثر تعقيداً بالمنطقة، وهو الملف السوري.

 


عربي بوست


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...