واشنطن تستثمرالحروب الأهلية في المنطقة

11-05-2006

واشنطن تستثمرالحروب الأهلية في المنطقة

 لم يعد ثمة شك في أن الحرب التي تشنها أمريكا على الإرهاب لا تستهدف سوى الإسلام والعرب والمسلمين أينما وجدوا ، وأنّ وصف الرئيس بوش بُعيد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لهذه الحرب بأنها صليبيه ، كان ترجمةً دقيقةً لما جرى ويجري الآن على الأرض العربية والإسلامية . فكثيراً ما أكد الكتاب والمحللون على أنه لم يثبت بالدليل القاطع على أن "أسامه بن لادن" الذي حارب في أفغانستان ضد الوجود السوفييتي - بتنسيق مع أمريكا والسعودية - هو المسئول عن تلك الأحداث ، كما لم يتوصل المحققون الأمريكيون لأدلة قانونية وموضوعية قاطعة تكشف عن هوية مرتكبي هذه الجريمة الحقيقيين . 
     الغموض الذي اكتنف التحقيقات التي أجرتها المؤسسات الأمنية الأمريكية حول تلك الهجمات ، يشبه كثيراً ذلك الذي أحاط بقضية اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي ، حيث جرى قتل كل من كان شاهداً أو دليلاً على مرتكبي جريمة الاغتيال أو عارفاً بمجرد معلومة عن الجناة الحقيقيين ، الأمر الذي لم تستطع الدوائر الاستخبارية الأمريكية ، أو لنقل : لم تُرد الكشف عنه ، بعد مضي أكثر من خمسة عقود على وقوع تلك الجريمة .

   والشيء ذاته يتكرر الآن بالنسبة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية (رغم المحاكمة المشبوهة لموسوي واعترافاته بالاشتراك في تدبير تلك الهجمات) ، والتي ألصقها المحافظون الجدد - فور وقوعها - بتنظيم القاعدة وبرئيسه "بن لادن" ، الذي كان بالأمس الحليف القوي لأمريكا حين كان ينسق معها في محاربة الغزو السوفييتي لأفغانستان ، ثم غدا عدوها الأول بعد ما تخلت عن وعود يبدو أنها كانت قد قطعتهـا على نفسها نحوه ، بعد أن تم اندحار ذلك الغزو .

   والواقع أن إصرار أمريكا على أن مسئولية هذه الهجمات تقع على عاتق ما تسميه بـ "التطرف الإسلامي" الذي يمثله تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن ليس إلاّ لذر الرماد في العيون ، ذلك أن المحافظين الجدد والمسيحية المتصهينة واللوبي اليهودي الأمريكي وإسرائيل الذين نجحوا في التسلل لدوائر صنع القرار في الولايات المتحدة لأكثر من خمسة عقود مضت ، كانوا وما زالوا يخططون لتوظيف الشعب الأمريكي والخزانة الأمريكية ، في تحقيق أهدافهم في السيطرة على البلدان العربية والإسلامية ، والاستيلاء على منابع النفط فيها ، فضلاً عن جعلها سوقاً مفتوحة للبضائع الأمريكية والإسرائيلية والغربية بعامة .

   فما أن وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، حتى اتخذتها أمريكا ذريعة لاجتياح قواتها لأفغانستان بدعوى القضاء على تنظيم القاعدة ، ثم تلت ذلك بغزو العراق واحتلاله ، فماذا كانت النتيجة ؟.

-1-العراق

أخذت الحرب الأهلية في العراق في الأشهر القليلة الماضية تطرق الأبواب بقوة إن لم تكن قد حطمتها ، حيث بدأت - بالفعل - تنشر الموت والدمار في كل اتجاه ، وبتنا نسمع من الإذاعات ووكالات الأنباء ، ونرى على شاشات التلفزيون كل يوم ، عشرات القتلى والجرحى من المدنيين والعسكريين العراقيين الذين يُذبحون أو يُقتلون رميا بالرصاص ، أو يُفجرون بالعربات المفخّخة والعبوات الناسفة على أساسٍ طائفي ، أو عرقي ، أو سياسي ، أو حتى ثقافي (اغتيال العلماء وأساتذة الجامعات).

   وإذا ما استرجعنا الأحداث منذ الاحتلال الأمريكي للعراق ، نجد أن الإدارة العسكرية لقوات ذلك الاحتلال أقدمت - وبتخطيط مسبق مع المحافظين الجدد في البيت الأبيض - على اتخاذ عدد من الإجراءات التي تؤدي في مجملها لتحقيق هدفين رئيسين : أولهما تقسيم العراق عملياً مع الاحتفاظ (شكلا) بوحدة ترابه ، وثانيهما : تهيئة الأجواء في بلاد الرافدين لإشعال نار حرب طائفية وعرقية ، إذا ما فشلت في تحقيق أهدافها الرامية لتشكيل دولة تدين حكومتها بالولاء التام للبيت الأبيض وتكون قاعدة لانطلاق أمريكا نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية ، ليس في العراق والمنطقة العربية فحسب ، وإنما في جنوب آسيا وعلى الحدود الغربية للصين بعامة ، وفي دول آسيا الوسطى وبحر قزوين بشكل خاص .

   وفي إطار هذين الهدفين ، قامت الإدارة الأمريكية بعدد من الإجراءات التي يمكن وصفها بـ "التمهيدية " كان من أبرزها :

أ) حل الجيش العراقي ، ما يعني أن ملايين من الجنود والضباط وعائلاتهم وذويهم باتوا دون مورد رزق يعينهم على تلبية احتياجاتهم اليومية التي كانت - أصلاً - ضئيلة ، بسبب الحصار الاقتصادي الدولي الذي كان مفروضاً على العراق أيام النظام السابق . وكان التبرير الذي أوحت به تلك الإدارة لهذا الفعل : أن هذا الجيش يدين بالولاء لصدام حسين الذي يعتبره الشيعة والأكراد على حد سواء العدو اللدود لهما ، كما أوحت بأن الغالبية العظمى من قادته هم من العرب السنة .

ب) التمهيد لتقسيم العراق ، وكان من أولى مظاهره أن أولت الإدارة الأمريكية الحالية والسابقة إقليم كردستان العراق عناية خاصة ترقى لمستوى الحماية بعد حرب الخليج الثانية ، حيث حولّت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون الإقليم إلى منطقة يُحظر على الطيران العراقي التحليق فوقها ، كما أجبرت نظام صدام – آنذاك - على إخلاء المنطقة الكردية من الموظفين والإداريين الحكوميين فضلا عن العسكريين ، ما أصبح معــه الإقليم في وضع أشبه ما يكون بدولة داخل دولة .

   أما المظهر التالي ، فقد واكب في ظهوره الاستعدادات التي كانت تجريها إدارة بوش لاحتلال العراق ، حيث نسقت مع قادة الأكراد وقادة الشيعة الذين كانوا موجودين - في ذلك الوقت - خارج العراق ، واتفقت معهم على عدد من الإجراءات كان من أخطرها على الإطلاق ، تسهيل غزو بغداد وتدمير الجيش العراقي ، ومن ثم تهميش العرب السنة الذين يعتبرون – في نظر الشيعة والأكراد – الدعامة الأساسية التي كان يرتكز عليها نظام صدام حسين في كل المواقف والأفعال التي كان يرتكبها بحق هاتين الفئتين من أهل العراق ، والتي ترقى في - نظرهما - إلى حد الإبادة الجماعية التي كان يمارسها ذلك النظام بحقهما .

   وكان من الطبيعي أن يستفز هذا الإجراء (التهميش) العرب السنة الذين ما فتئوا يؤكدون أنهم ذاقوا على يد صدام ونظام البعث من الظلم والاستبداد مثلما ذاق الشيعــــة والأكراد ، وإن اعتبار صدام وحزب البعث محسوبان عليهم فيـه ظلم فادح وتجاوز صارخ لحقائق الأمور ، وهذا ما يفسر اقتصار المقاومة الحقيقية للغزاة الأمريكيين - حتى اللحظة - على ما يسمى بالمثلث السني الذي تسكنه أغلبية سنية .

   وكان من الطبيعي أيضاً ، أن يكون هذا الإجراء "التهميش" سبباً في التنافر الذي بدأ يظهر بين العرب السنة من ناحية ، وبين الأكراد والشيعة العراقيين من ناحية أخرى . فبينما يعتقد العرب السنة أن مشاكل العراق العرقية والطائفية والمذهبية - التي ما كان لها أن تظهر لولا وجود الاحتلال - يمكن أن تُحلّ بسهولة بمقاومة الغزاة وطردهم من البلاد .. يرى قادة الشيعة والأكراد الذين جاءوا على ظهر دبابات الغزاة ، أن الاحتلال الأمريكي وفّر لهم فرصة ثمينة للتخلص من سيطرة العرب السنة على الحكم ، والذي استمر منذ نشأة العراق في العشرينات من القرن الماضي وحتى الآونة .

   وبعد مرور ثلاث سنوات ونيف على احتلال العراق ، يبدو للمراقبين أن أمريكا لم تستطع تحقيق هدفها الاستراتيجي الرئيس من احتلاله ، ونعني به إقامة نظام ديمقراطي بالمواصفات التي ذكرنا .. يكون أنموذجاً يُحتذى به في المنطقة ، برغم كل الإجراءات التي اتخذتها على هذا الصعيد بدئاً بالانتخابات والاستفتاءات التي جرت ، وانتهاء باتفاق قادة العراق السياسيين على تسمية رئيس وزراء جديد بدلا من المرشح السابق ، ما دفعها للمضي قدماً في خططها "سابقة التجهيز" لإشاعة حرب أهلية في العراق تؤدي إلى تقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات على أساس طائفي وعرقي ، فتكفل بذلك استمرار وجودها بدعوى الحفاظ على أمن العراقيين ومنع التنازع فيما بينهم بشكل أكثر حدة وتطرفاً مما هو عليه الآن .

   وحتى لا يبدو المحافظون الجدد - في نظر الإنسان الأمريكي والأوروبي والمجتمع الدولي - بأنه السبب فيما آل إليه العراق من خراب ودمار ، وحتى يتمكنوا من بسط سيطرتهم على المنطقة بكاملها ، أخذوا يطبقون ذات السياسة في دول عربية أخرى ، وبخاصة تلك التي بدأت تشتعل فيها خلافات سياسية وعقائدية يمكن أن تتحول إلى حروب أهلية طاحنة ، وذلك بتكثيف تدخلهم في تلك الخلافات وتغذيتها تحت دعاوى ومسميات متعددة ، كالمحافظة على حقوق الإنسان ، ومنع جرائم التطهير العرقي ، ونشر الديمقراطية الحقيقية ، وما إلى ذلك من مقولات مشبوهة بان الكثير من زيفها . وكان المقصد من ذلك كله إظهار الشعوب العربية والإسلامية بمظهر من لا يريد اللحاق بركب الدول المتقدمة ، بسبب لفظها لقيم الحضارة الغربية ، وتمسكها – في المقابل - بالمبادئ والقيم التي تنطوي عليها الثقافـة الإسلامية السائدة فيها .

-2-فلسطين

  والحقيقة غير ذلك تماماً .. فهؤلاء الذين يدعون لنشر الديمقراطية في المنطقة ، ساءهم أن يروا أنموذجاً حياً للديمقراطية الحقة يظهر في الأراضي الفلسطينية المحتلة . فحين جاءت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني التي جرت مؤخراً بنتائج على غير ما يشتهون ، والتي حققت حركة حماس (الإسلامية) فيها فوزاً ساحقا ، راحوا يعاقبون الشعب الفلسطيني على خيارهم الديمقراطي بقطع المساعدات التي التزموا بها عنه ، الأمر الذي يضرب بمصداقية دعواتهم للديمقراطية والحرية والشفافية وغيرها من الشعارات التي أصموا بها آذاننا ، عرض الحائط ، ويصيبها في مقتل .

   والواقع أن المسألة – في نظر المحافظين الجدد - لا تتعلق بنشر الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية بعامة من عدمه ، وإنما ترتبط بمدى تحقق الأهداف المرسومة المسبقة لهذه البقعة من الأرض العربية (الأراضي الفلسطينية المحتلة) ، وهي القبول بالحلول التي تطرحها إسرائيل وأمريكا للقضية الفلسطينية ، ودعم الذين يوالونهم في هذا النهج من قادة السلطة الفلسطينية وبخاصة أولئك الذين وقعوا على اتفاق أوسلو ، مثل محمود عباس وغيره من قادة فتح .

   لذلك ، ما أن تحقق فوز حماس الساحق في تلك الانتخابات ، حتى أوقفت أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول المانحة مساعداتها للفلسطينيين ، بدعوى خشيتها من أن تقع في يد حكومة حماس التي تعتبرها منظمة إرهابية يُحظر التعامل معها ، بينما تستهدف – في الواقع - معاقبة الشعب الفلسطيني الذي أيد حماس من ناحية ، وإفشال الحكومة التي شكلتها في مهمتها من ناحية أخرى .

   أما ثالثة الأثافي فتتمثل في دعمها المقيت لمحاولات رئيس السلطة عباس وبعض الحاقدين من قادة فتح ، لاستحداث سلطة تنفيذية تكون موازية لحكومة حماس الشرعية وتتمتع بكامل الصلاحيات التي من المفروض أن تتمتع بها الحكومة الشرعية .. فتُسلم إليها المساعدات ، وتتجمع لديها كل المسئوليات والاختصاصات ، ما يجعل من حكومة حماس التي أفرزتها الانتخابات وأيدتها غالبية الشعب الفلسطيني ، أشبه ما يكون بـ "خيال المآتة" ويجعل من رئيسها إسماعيل هنيه مجرد "طرطور" كما صرح بذلك هو نفسه !! .

أمريكا تعاقب الفلسطينيين على خيارهم الديمقراطي  

   ليس من شك أن اتخاذ الغرب لمثل هذه المواقف ، وتمادي مؤسسة الرئاسة الفلسطينية في تجاوزاتها على الشرعية ، سوف يذكّي الخلافات القائمة بين حركتي حماس وفتح والوصول بها لحد الصراع العسكري على السلطة من ناحية ، كما ينمي التنازع بين مؤسسة الرئاسة وبين الحكومة الشرعية التي شكلتها حماس على الصلاحيات من ناحية أخرى .

   والدليل على ذلك ، ما صرح به عباس أثناء زيارته لتركيا عن أن القانون الفلسطيني يسمح له بإقالة حكومة حماس متى شاء .. لكنة لن يستخدم هذا الحق في الوقت الراهن !!، ناسياً أو متناسياً أن هناك المجلس التشريعي الذي يملك حق منح الثقة لأي حكومة فلسطينية يجري تشكيلها أو حجبها عنها . وكان عباس قد صرح قبل ذلك أنه سيتجاوز أية قرارات تتخذها حكومة حماس إذا ما رأى فيها تعارضاً مع مصلحة الشعب الفلسطيني ، متناسيا - أيضاً - أنه وسلفه الراحل عرفات ، هما اللذان وقعا على اتفاق أوسلو المشئوم الذي لم يجلب للفلسطينيين سوى العار والدمار ، وهما اللذان تنازلا بموجبه عن أهم الأوراق التي كانت تقوي من موقف الفلسطينيين وتدعم المطالبة بحقوقهم ، وأهمها عدم إضفاء الشرعية على قيام الكيان العبري على الأرض التي سرقتها العصابات الصهيونية عام 48 !! فضلاً عن مطالبة عباس ومن قبله عرفات فصائل المقاومة الفلسطينية بالتخلي عن استخدام السلاح في مقاومة الاحتلال الصهيوني .

   والأمرُّ من ذلك كله ، انه لا يخجل من أن يستند في مواقفه ضد الشرعية التي أفرزتها تلك الانتخابات ، إلى الدعم الذي يحظى به من أمريكا ودول أوروبا التي لم تخف يوماً انحيازها السافر لإسرائيل ، ولا عداءها المستتر وأحياناً الصريح للثقافة الإسلامية وقيمها ومبادئها ، والتي يعتبرها بوش المسئولة عن الهجمات التي تعرضت لها واشنطون ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، كما يعتبرها والمحافظون الجدد الخطر الداهم الذي يهدد وجود الحضارة الغربية وقيمها ومبادئها . كما يستند عباس في تجاوزاته إلى "شلة الزعران" من بعض قادة فتح المنحرفين الذين لا يريدون أن يصدقوا أن عهد الفساد والسرقات الذي كانوا يعيشون في رحابه قد ولّى إلى غير رجعة ، وأن الشعب الفلسطيني بات مصمماً على "كنسهم" من السلطة إلى الأبد حتى لو استطاع الأعداء إفشال حكومة حماس في إنجاز مهامها الإصلاحية ، كما أصبح مصمماً أكثر من أي وقت مضى على إرجاع القضية الفلسطينية لجذورها ، وبخاصة عدم الاعتراف بالكيان العبري الذي قام على الأرض التي سرقتها العصابات الصهيونية عام 48 .

-3-السودان

   ويكاد السيناريو ذاته يتكرر في السودان ، حيث باتت الإدارة الأمريكية تتدخل في شئون هذا البلد العربي ليل نهار ، وتخلق له الأزمة تلو الأخرى حتى أصبح مهدداً بخطر الشرذمة والتقسيم .

   ففي البداية أشعلت أمريكا وإسرائيل نار الفتنة بين أهل الجنوب وأهل الشمال منذ أكثر من عشرين عاما ، استمرت خلالها الحرب بين الحكومة والمتمردين بضراوة حتى انتهت باتفاق مصالحة هش ، أعطى أهل الجنوب الحق في الانفصال عن السودان إذا ما ارتأوا ذلك ، في الاستفتاء الذي تقرر إجراؤه بعد مضي ست سنوات على تاريخ عقد الاتفاق . وليس من شك أن أمريكا وإسرائيل سوف تلجئان - في ذلك الاستفتاء – لاستخدام كل ما من شأنه تكريس انفصال الجنوب عن السودان .

   ثم جاءت مشكلة دارفور التي حاولت أمريكا ومعها فرنسا والغرب ، أن تجيّش المجتمع الدولي ضد الحكومة السودانية ، بدعوى معاضدة الخرطوم لأعمال الإبادة التي تقوم بها بعض الفئات المتصارعة في ذلك الإقليم ، والتي لم تُثبت جميع التحقيقات التي جرت حول هذا الموضوع ، وعلى كافة المستويات المحلية والأفريقية والدولية ، صحتها . ورغم قيام أفريقيا بتشكيل قوة من دولها لحفظ الأمن في ذلك الإقليم ومحاولتها التوفيق بين الأطراف المتنازعة ، غير أن أصابع أمريكا وإسرائيل ما زالت تزيد النار في ذلك الإقليم اشتعالاً بتدخلهما السافر والمتواصل ، وبمحاولة الإدارة الأمريكية بالذات تدويل القضية واستصدار قرار من الهيئة الأممية يسمح بإرسال قوات دولية – سواء من حلف الناتو أو غيره – بدعوى حفظ الأمن فيه .

   وهناك أيضاً المشكلات التي تواجهها حكومة السودان مع المتمردين في المنطقة الشرقية وعلى الحدود مع إريتريا ، حيث تحاول الأصابع الأمريكية والإسرائيلية تكثيف التمرد القائم هناك ضد الحكومة المركزية في الخرطوم التي أظهرت قدراً من التمرد على أمريكا والأمم المتحدة ، حيث أقسم الرئيس حسن البشير على ألاّ يسمح بمحاكمة أي سوداني خارج وطنه حتى لو كلفه الأمر حياته ، ما دفع المحافظين الجدد في البيت الأبيض الأمريكي مؤخراً إلى تجميد أرصدة بعض الشخصيات السودانية التي اتهموها بارتكاب جرائم إنسانية في دارفور .

   والواقع أن إصرار أمريكا وإسرائيل على العبث بمصير السودان ، يحقق لهما هدفاً ستراتيجيا رئيساً في هذه البقعة الهامة من الوطن العربي طالما سعياً إليه وهو : تقسيم السودان إلى دويلات يسهل التعامل معها والهيمنة عليها والسيطرة على مواردها الطبيعية الواعدة وبخاصة النفط والمعادن ، كما يتحقق لهما السيطرة على البوابة الجنوبية لمصر التي تعتبر بمثابة العمود الفقري للأمة العربية ، ما يجعل أمنها واقتصادها - إذا ما تحققت مخططات أمريكا في السودان - في مرمى الخطر ومعها المنطقة العربية بكاملها . 

-4-لبنان

   أما لبنان ، فالمآمرة التي حاكتها أمريكا وفرنسا وإسرائيل بالتعاون مع فئات لبنانية معينة ، نجحت في تحقيق عدة أهداف بضربة واحدة ، وبخاصة بعد أن استغلت حادثة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ووظفتها ضد سوريا بحرفية عالية ، وبذلك حققت عدة أهداف منها :

أ) زرع بذور الشقاق بين اللبنانيين أنفسهم حيث توزعوا ما بين مؤيد للعهد ومعارض له ، ما تسبب في نشوب أزمة سياسية لم يستطع اللبنانيون حتى اللحظة - رغم الاجتماعات المتواصلة التي يعقدها مؤتمر الحوار الوطني الذي يضم مختلف الأطياف السياسية في لبنان لبحث الأزمة – أن يجدوا لها مخرجا ، وبخاصة ما يتعلق بموضوعين رئيسين : الأول تنحية رئيس الجمهورية الحالي إيميل لحود عن منصبه ، والذي فشل المؤتمر في آخر اجتماع له في الوصول إلى قرار بهذا الشأن ، وموضوع نزع سلاح مليشيا حزب الله الذي ما زال مستبعداً من أجندة المؤتمر .

ب) الإيقاع بين الشعبين السوري واللبناني ، حيث تعرض المواطنون والعمال السوريون الذين يتواجدون في لبنان إلى المضايقات بعد انسحاب القوات السورية من لبنان ، إضافة إلى ردود الفعل المتبادلة بين النظام السوري والحكومة اللبنانية المعارضة برئاسة سنيوره ، والتي لم تخل من الإيماءات والمشاعر التي تتصف بقدر لا يمكن إهماله من عدم الثقة بينهما .

ج)- محاولة تجريد المخيمات الفلسطينية في لبنان من السلاح وإخلاء الأراضي اللبنانية من المواقع التي تشغلها المنظمات الفلسطينية الموالية لسوريا والمسموح بإقامتها بموجب الاتفاق الذي عقد بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين لبنان في عهد الرئيس الأسبق فؤاد شهاب .

د) فتح ملف تجريد المقاومة اللبنانية المتمثلة في "حزب الله" من سلاحها ، بدعوى استكمال تطبيق القرار الأممي رقم 1559 الصادر بشأن إخلاء الأراضي اللبنانية من جميع القوات الأجنبية وحل المليشيات اللبنانية القائمة .

ه) طرح ملف إخلاء الساحة اللبنانية من النفوذ السوري والإيراني المتمثل في دعم هاتين الدولتين لحزب الله ، والذي ترى أمريكا وإسرائيل والدول الأوروبية فيه خطراً على أمن الكيان العبري . 

-5- سوريا

   تتعرض دمشق - منذ الغزو الأمريكي للعراق - لضغوط هائلة من الإدارة الأمريكية بسبب إعلان النظام السوري وقوفه – آنذاك – بجانب بغداد ضد ذلك الغزو . وقد تمثلت تلك الضغوط في عدة مواقف اتخذتها واشنطن كان من أظهرها :

أ) استصدار القرار الأممي رقم 1559 الذي اقترحته أمريكا بالتعاون مع فرنسا ، بشأن دعوة جميع القوات الأجنبية المتواجدة على الأرض اللبنانية (السورية) للانسحاب ، وكذلك حل المليشيات العسكرية اللبنانية (حزب الله) ، والدعوة لتمركز قوات الجيش اللبناني – بدلاً من تلك المليشيات - على الحدود مع إسرائيل .

ب) اتهام سوريا بحيازة أسلحة كيماوية ومحاولتها الحصول على سلاح نووي أو تكنولوجيا نووية تمكنها من صنع هذا السلاح ، ما يُذكِّر العرب والسوريين والمجتمع الدولي بالاتهامات التعسفية التي وجهها البيت الأبيض لنظام صدام قبل الغزو ، والتي تستهدف تحقيق أغراض غير المعلن عنها وأبرزها تهيئة الرأي العام الأمريكي والدولي لأي اعتداء من أي نوع ، قد تقوم به القوات الأمريكية أو الإسرائيلية على سوريا بهدف إسقاط النظام فيها ، والتخلص من رئيسه بشار الأسد ، أو تطويع هذا النظام – على الأقل – بما يسمح بتشكيل حكومة سورية طيعة تدين بالولاء لواشنطن وتأتمر بأمرها .

ج) إصدار الكونجرس الأمريكي لقانون "معاقبة سوريا" الذي يستهدف فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على النظام في سوريا ، إذا لم يتخل عن تقديم الدعم والمساندة لحزب الله اللبناني ، وعدم السماح للمساعدات الإيرانية من الوصول لهذا الحزب عبر الأراضي السورية ، والعمل على منع المنظمات الفلسطينية التي لها مكاتب في دمشق من ممارسة أعمالها ، وأخيراً وليس آخراً عدم السماح للعناصر المؤيدة للمقاومة العراقية من التسلل للعراق عبر الأراضي السورية .


د) الدعوة لتطبيق النظام الديمقراطي الأمريكي القائم على السماح بتعدد الأحزاب في سوريا ، والمحافظة على حقوق الإنسان ، وإدخال إصلاحات جذرية في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الثقافية .. ولكن .. بشرط أن يتم كل هذا على الطريقة الأمريكية ، التي تستهدف جعل الحكومة السورية حكومة طيعة ، ومهيأة للانتماء لركب الدول التي تأتمر بأمر واشنطن ولا تعصي لها أمراً .

هـ) تجدد الضغوط الأمريكية في الأيام الأخيرة على النظام السوري ، حيث طالبته واشنطن بعدم التدخل في الشأن اللبناني على الرغم من انسحاب القوات السورية من لبنان تطبيقاً للقرار الأممي رقم 1559 كما ذكرنا . وقد واكبت هذه الضغوط ، تلك الاتهامات التي وجهها اللبنانيون المعارضون لسوريا بشأن استمرار نفوذها في لبنان رغم انسحابها العسكري منه ، وصدور تقرير الخارجية الأمريكية الذي يضع سوريا وإيران وليبيا والسودان على قائمة الدول التي ما زالت – في نظر واشنطن - ترعى الإرهاب .

                                                                 

-6-السعودية

 ليس من شك أن العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة هي من القوة بحيث لا يمكن فصلها بالسهولة التي يتصورها البعض ، ذلك أن المصالح المشتركة بين البلدين تظل العنصر الحاكم لهذه العلاقة ، وهي مصالح متبادلة لا يمكن لأي من الطرفين الاستغناء عنها ، ولا مجال لمناقشتها الآن .

   لكن إشاعة جو من عدم الاستقرار في المملكة ، يظل هدفاً لصانع القرار الأمريكي طالما أصبح هدفه هو عمل كل ما من شأنه السيطرة على هذه المنطقة . لذلك نرى الإدارة الأمريكية لا تكلّ عن بث الرسائل المباشرة وغير المباشرة إلى النظام السعودي ، بهدف إخطاره بعدم الرضا عن ممارسات الحكومة السعودية حيال موضوعات معينة طالما رددتها ، مثل الحفاظ على حقوق الإنسان والمرأة وتعديل المناهج والمقررات الدراسية التي تحث على كراهية الغير ، والقضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه .. وغير ذلك من الدعوات التي ملّ الشارع السعودي والعربي والإسلامي من سماعها ، ومن المواقف الأمريكية المتناقضة بشأنها .

   أضف إلى ذلك تلك البحوث التي أجرتها وما زالت تجريها مؤسسات بحثية أمريكية لصالح البنتاجون ، مثل مؤسسة راند التي دعت في إحدى بحوثها حكومة بوش إلى الاستيلاء على منابع النفط في المنطقة الشرقية من السعودية التي تقطنها أغلبية شيعية وإقامة جمهورية فيها ، وما إلى ذلك من الدعوات المشبوهة التي تستهدف – في المرحلة الراهنة على الأقل – إرهاب النظام السعودي وتطويعه بما يتفق والمخططات الأمريكيـة "سابقـة التجهيز" لهذه المنطقة الحيوية من العالم .

   ومهما يكن من أمر هذه الضغوط ، من حيث قوتها ، ومدى جديتها وآفاق قدرتها على التأثير في دول المنطقة وأنظمتها ، فضلاً عن الشك في إقدام صناع القرار في الولايات المتحدة على تنفيذ العديد من التهديدات التي تنطوي عليها تلك الضغوط إذا لم تستجب الدول المعنية لها .. بغض النظر عن ذلك كله ، فإن الظاهرة التي لا تحتمل النقاش حول جديتها والبادية للعيان هي : أن المحافظين الجدد لن يتوانوا عن عمل أي شيء من أجل إشاعة الحروب الأهلية في دول المنطقة ، بهدف تقسيمها وتفتيتها إلى دويلات متناحرة ، لا تبقي من طاقاتها البشرية وثرواتها الطبيعية ما يعين - في المستقبل البعيد وليس المتوسط أو المنظور – على عناصر بقائها ، كدول مستقلة قابلة للاستمرار والحياة . وهذا عين ما تحاول الدولة العبرية في فلسطين أن تفعله .. فهل يتعظ العرب ويستجيبوا لنداء العقل في منع وقوع هذه الكوارث التي تتوالى على المنطقة قبل فوات الأوان ؟.
 

موسى راغب
المصدر: المحيط

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...