إدلب: «التحرير المتدرّج» بالنار أو بالتفاهمات

04-08-2018

إدلب: «التحرير المتدرّج» بالنار أو بالتفاهمات

الجاهزيّة العالية في معسكر الجيش السوري وحلفائه توحي بأنّ العدّ العكسي لـ«معركة إدلب» قد بدأ فعلاً، لكنّ تعقيدات إدلب تبدو أكبر بكثير من كلّ ما سبقها من جبهات. ومن المرجّح وفق المعطيات المتوافرة أنّ المعركة الموعودة لن تُخاض بوصفها «معركة شاملة».

وإذا ما دقّت «الساعة الصفر» قريباً، فإنّ الهدف المتوخّى تحقيقه في المرحلة الرّاهنة سيكونُ بسط الجيش السوري سيطرته على أجزاء من محافظة إدلب، لا كاملها. ومنحت جولة «أستانا» الأخيرة فرصةً جديدة لأنقرة لتنفيذ التزاماتٍ سابقة، كشرط أساسي لتجميد دمشق وحلفائها جبهة إدلب مرحليّاً.

«معركة إدلب» الموعودة قادمةٌ حتماً، لكنّها دخلت مجدّداً في احتمالات متباينة في ما يخصّ مواقيتها. وإذا كانت المؤشّرات المتزايدة توحي بأنّها ستكون «أم المعارك»، فإنّ الإجابة عن سؤال مثل «مَن سيقاتل مَن في إدلب؟» تستحقّ أن توصف مجازاً بـ«أم الإجابات».

ويبدو هذا السؤال واجبَ الطرح بفعل أسباب كثيرة، من بينها تعقيد المشهد الميداني في المحافظة وسيطرة مجموعات «جهاديّة» على أجزاء واسعة منها. لكنّ السبب الذي يفوق ما سبقه أهميّة هو الدور الذي يُنتظر أن تلعبه «معركة إدلب» في التمهيد لإقفال ملفّات الحرب السوريّة نهائياً، ما يُعزّز أهميّة توافق معظم (إن لم يكن كل) اللاعبين الإقليميين والدوليين على خريطة المعركة ومساراتها ومواقيت مراحلها. وينبغي التنبّه إلى أنّ معركة إدلب بالمعنى «اللوجيستي» كانت قد بدأت بالفعل قبل قرابة عامين. فعلى امتداد العامين الأخيرين طرأت تحوّلات كبيرة على دور إدلب في «الحرب السوريّة» بمجملها، وشيئاً فشيئاً بات ذكرُها مقترناً بهزائم المجموعات المسلّحة على امتداد الجغرافيا السوريّة. ولا يُعدّ تزايد الضخ الإعلامي في شأن المعركة القادمة أمراً مفاجئاً، ولا سيّما أنّ «المهمّة» اكتملت مع إقفال ملفّي درعا والقنيطرة. 


«معركة كُبرى» أم معركتان؟

في خلال الأسبوعين الأخيرين دخل الجيش السوري وحلفاؤه في حالة تأهّب فعليّة في انتظار «الساعة الصفر». وتؤكد مصادر ميدانيّة عدّة أنّ «الجاهزيّة عالية والحماسة كبيرة، والقوّات مستعدّة لبدء المعركة في أي لحظة». ويتحفّظ مصدر قيادي عن التعليق على كل ما يخصّ الموعد المفترض، ويقول: «تأتي الأوامر برفع الجاهزيّة، فننفّذ وننتظر أمر العمليّات، سواء جاء بعد ساعة أو بعد يوم أو شهر. لدينا حقيقة واحدة مسلّم بها: سنحرّر كل شبر سوري حين تأتي الأوامر». وتوحي المؤشّرات بأنّ إدلب مرشّحة لتكرار سيناريو درعا، مع اختلاف جوهري، مفادُه أنّ حجم سيطرة المجموعات «الجهاديّة» في إدلب أكبر. وتحوّل مطار أبو الضهور العسكري (ريف إدلب الشرقي) أخيراً إلى أكبر نقطة تحشيد في محيط إدلب. ومن المرجّح تقسيم معارك إدلب إلى مرحلتين أساسيتين، عبرَ شطرِ المحافظة إلى مربّعَي عمليّات: معجّل، ومؤجّل.


ويبدو الخط الأفقي الممتدّ بين مطار أبو الضّهور ومدينة جسر الشغور (ريف إدلب الغربي) مهيّاً للتحوّل إلى خطّ فاصل بين المربّعين المذكورين، بحيث تكون المناطق الواقعة جنوب الخط مسرحاً للعمليّات الأولى، فيما يُرجَأ «شمال الخط» إلى مرحلة لاحقة، وبصورة تستحضر سيناريو «شرق وغرب السكّة». ومن شأن خوض المعارك وفق هذا التكتيك أن يمهّد لإحداث اختراقات في صفوف المجموعات، عبر منح الفرصة لمن يشاء منها لعقد تسوياتٍ شبيهةٍ بتسويات درعا، فيما يُتاح للمجموعات «الجهاديّة» مثل «النصرة» و«الحزب الإسلامي التركستاني» وسواهما الانسحابُ نحو الجزء الشمالي من المحافظة. ويفرض هذا السيناريو (في حال اعتماده) وجوب تأمين ريف حلب الغربي والحيلولة دون تحويل المجموعات المسلّحة له إلى محورِ استنزافٍ لتخفيف الضغط عن مناطق العمليّات الأولى. لكنّ هذا السلوك يبدو مستبعداً بالنظر إلى أنّ «حركة نور الدين زنكي» المسيطر الأبرز في ريف حلب الغربي تخوضُ صراعاً دامياً ضدّ «جبهة النصرة» المستهدف الأساسيّ في معارك ريف إدلب الجنوبي المفترضة. 


«كرة النّار» في الملعب التركي

برغم عدم الكشف إعلاميّاً عن أي توافقات محتملة بين «ضامني أستانا» في ما يخصّ المعركة المُنتظرة، فمن المرجّح أنّ كواليس الاجتماع الأخير قد شهدت اتفاقاً على منح مهلة زمنيّة للمجموعات الراغبة في عقد التسويات في معزل عن النار. وبخلاف القصف الجويّ، يبدو مستبعداً انطلاق العمليّات البريّة من دون تفاهمٍ مع الأتراك الذين يحتفظون بست نقاط مراقبة في النصف الجنوبي من إدلب. وتشير مُعطيات  إلى أنّ أنقرة حاولت انتزاع «تعهّدات روسيّة ــ إيرانيّة بتبريد جبهة إدلب في المدى المنظور». في المقابل، «وضعت دمشق وحلفاؤها شرطين أساسيين يجب على أنقرة السير في تنفيذهما لضمان تبريد الجبهة». ويدور الشرطان المذكوران في فلك «تفاهمات أستانا» والالتزامات المترتبة على اللاعب التركي الذي أبطأ في تنفيذهما: التزام أنقرة تحجيم نفوذ «جبهة النصرة» في أطراف محافظة إدلب القريبة من خطوط التماس (الريفين الشرقي والجنوبي)، والتمهيد لإعادة الحياة إلى عدد من الطرق البريّة الحيويّة. وتؤكّد مصادر واسعة الاطلاع أنّ «البديل الوحيد لفتح الجيش وحلفائه معركة إدلب، قيام عدد من المجموعات المسلّحة بشنّ معارك حقيقية على الجبهة المتطرّفة، بما يضمن إنهاء وجودها جنوب الخط الممتد بين أبو الضهور وجسر الشغور». 

المرحلة الثانية: «قسد» على الخط؟

إذا كانت «هندسة» المرحلة الأولى من معارك إدلب شبهَ مكتملة، فإنّ الأمر يبدو مختلفاً في ما يخصّ المرحلة الثانية. ومن المرجّح أنّ بقاء ملفّ إدلب مفتوحاً سيفرض نفسه إلى ما بعد حلحلة ملفّات سياسية أخرى مثل «اللجنة الدستوريّة»، و«عودة اللاجئين من دول الجوار»، و«خريطة الطريق» بين دمشق و«قسد». وتُبدي الأخيرة اهتماماً خاصّاً بخوض مزيد من المعارك «ضدّ الإرهاب»، نظراً لما يمكن أن يوفّره هذا الامتياز من «شرعيّة». ولم تكن التصريحات التي أدلى بها أخيراً الرئيس المشترك لـ«حركة المجتمع الديمقراطي» ألدار خليل، هي الأولى على هذا الصعيد، ففي مطلع العام الحالي كان صالح مسلم قد أدلى بتصريحات مماثلة في المضمون. ولا يبدو هذا الموقف حكراً على المكوّن الكردي في «مجلس سوريا الديمقراطيّة». ويؤكد «الرئيس المشترك» رياض درار  أنّ «تصريحات بعض مسؤولي الإدارة الذاتيّة حول قتال المتطرفين في كل الأراضي السورية تنبع من موقف مبدئي». ويقول درار إنّ «هذه التصريحات ليس لها علاقة بالمباحثات (التي أُجريت أخيراً في دمشق)، وحين يتطلّب الأمر سنقاتل الإرهاب في أي مكان في سوريا». وعن «احتمال التنسيق مباشرةً وعلناً مع الجيش السوري لخوض معارك من هذا النوع»، فأكّد درار أنّ «هذا الأمر ممكن من حيث المبدأ. لكن دماء المقاتلين يجب ألا تذهب هدراً، وعلينا أن نعقد اتفاقات أولى لنصل إلى الحد الأدنى الذي يجعلنا نتوافق على المواجهات الحربيّة ضدّ الخصوم». وتكمن أهميّة موقف «قسد» على هذا الصعيد في حجم الضغط الذي يمكن أن تستشعره أنقرة فيما إذا لوّحت دمشق (عبر موسكو) باستخدام هذه الورقة في معارك إدلب، وما يمكن أن يُسهم ضغط مماثل في انتزاعه من تنازلاتٍ تركيّة. وبرغم أنّ حصول مشاركة من هذا النوع يبدو أمراً مستبعداً في المرحلة الرّاهنة، فإنّ مصادر كرديّة واسعة الاطّلاع تؤكّد  أنّ «مقاتلي وحدات حماية الشعب سيلعبون دوراً محوريّاً وحتميّاً في معارك القضاء على المتطرّفين وتحرير إدلب منهم». 

أنقرة «تلعب» في عفرين

لا تضيّع أنقرة الوقت في عفرين. ومنذ أن أنجز الجيش التركي احتلال المنطقة تحت عنوان «غصن الزيتون»، بعونٍ من المجموعات المسلّحة السوريّة، انخرطت الأجهزة التركيّة في مساعٍ محمومةٍ لقلب «البيت العفريني» رأساً على عقب. ولم تقتصر تلك المساعي على محاولات التلاعب بالبنية الديمغرافيّة للمنطقة، بل شملت أيضاً محاولة استمالة من بقي في عفرين من أبنائها الأكراد السوريين. وتؤكّد مصادر من داخل عفرين أنّ الأجهزة التركيّة تعمل بشكل حثيث على زرع «روابط دينيّة» في قلب المجتمع العفريني، رغم أنّه ظلّ باستمرار مجتمعاً أقرب إلى العلمانيّة. وتستعين الاستخبارات التركيّة في سبيل تحقيق هذا الهدف ببعض رجال الطرق الصوفيّة والنقشبنديّة الأكراد، كما تعمل خفيةً على استقطاب بعض رموز «السلفيّة الكرديّة» إلى المنطقة. ومن المعروف أنّ بعض الحركات السلفيّة الكرديّة كانت قد لعبت دوراً مهمّاً في صعود نجم أبو مصعب الزرقاوي الأب الروحي لتنظيم «داعش» وأحد أبرز مُلهمي «جبهة النصرة» و«تنظيم القاعدة». في الوقت نفسه، تحوّلت عفرين إلى وجهة دائمة لعدد من ساسة الأكراد الأتراك. ويحاول هؤلاء مدّ جسور «قوميّة» مع أبناء عفرين الأكراد، والعزف على وتر «المظلوميّة» التي تعرّضوا لها و«تخلّي الجميع عنهم، بما في ذلك الكيانات السياسيّة والعسكريّة الكرديّة السوريّة». كذلك، يروّج هؤلاء لخطاب مفاده أنّ «الأتراك أقرب إلى الأكراد من العرب الهمج».


من «تصدير الفاتحين» إلى «ملاذ المهزومين»

في الأعوام الأربعة الأولى كانت المحافظة قد لعبت دوراً أساسيّاً في «تصدير» المسلّحين إلى كثير من مناطق الاشتباك السوريّة، ولا سيّما المتاخمة لها. وأسهم هؤلاء في تشكيل مئات «الكتائب» و«الألوية» المعارضة (سواء خارج محافظتهم أو داخلها)، وأطلق كثير من المعارضين على إدلب لقب «خزّان الثورة الكبير». 

كذلك، لعبت إدلب دور «المعبر الحيوي» لآلاف «الجهاديين» الوافدين من الحدود التركيّة، حيث أنشأت بعض التنظيمات معسكرات استقبال وتدريب في الريف يقصدها هؤلاء، قبل أن يتوزّعوا على جبهات مختلفة على امتداد الجغرافيا السوريّة. سيطرت المجموعات المسلّحة على معظم ريف إدلب منذ أوائل عام 2013. نقطة التحوّل الأولى سُجّلت في عام 2014 حين بدأت بعض مناطق الريف في لعب دور معاكس عبر جذب المجموعات المسلّحة من خارج المحافظة إلى داخلها. وبفعل الحضور الكبير الذي تحظى به «جبهة النصرة» فيها، وقع الاختيار عليها مقصداً لآلاف مسلّحيها الذين انسحبوا مدحورين من معارك طويلة وعنيفة ضدّ تنظيم «داعش» في أرياف دير الزور والرقّة والحسكة وحلب. أما التحوّل المفصلي في دور إدلب الوظيفي، فسُجّل مع خواتيم «معركة حلب»، وبدأت إدلب في التحوّل من «عمق استراتيجيّ» للمجموعات المسلّحة، إلى «ملاذ أخير». لاحقاً كرّت السّبحة. كفّت المحافظة عن «تصدير» المقاتلين في صورة «الأبطال والفاتحين» من مختلف الأيديولوجيّات، لتبدأ في استيرادهم مكلّلين بالهزائم.

 



صهيب عنجريني - الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...