لهذه الأسباب لم يؤمن تولستوي بقدرات شكسبير الأدبية

30-11-2018

لهذه الأسباب لم يؤمن تولستوي بقدرات شكسبير الأدبية

ل تعلم أن تولستوي لم يتقبل شكسبير أبدًا؟ حتى أنه لم يؤمن يومًا بأي من قدراته كأديب! في كتاب وُضع عن سيرة تشيخوف الذاتية، جاء على لسانه أنه قال ذات يوم من بين ضحكاته:


لم ترق أعمالي للسيد تولستوي، ولقد أسرّ لي هذا الأمر يومًا قائلًا:تعلم أنني لا أطيق شكسبير، أما أنت.. فقصصك حتى أشد سوءًا!سنفترض بالطبع أن السيد تولستوي كان يمزح بشأن تشيخوف، وأنه لم يكن معجبًا بأعماله وإنما عاشقًا لها؛ فمما نعلم أن تولستوي قد تعلق بقصة «حبّوبة»[1] حتى أنه قرأها على مديرة منزله مرتين في ليلة واحدة، أما عن شكسبير فالأمر تعدى كونه مزحة؛ كان تولستوي العبقري شديد الحدّة في رأيه عن شكسبير.


– لقد قرأت «ماكبيث» بعظيم اهتمام، ولكن للأسف، لم تكن سوى مهزلة حقيقية.


– ولقد قرأت «يوليوس قيصر»، ولقد فاجأتني رداءتها.


– ما هو إلا عمل غير مهذب، غير أخلاقي، مبتذل وعبثي.. متحدثًا عن «هاملت».


– كلما تحرر الناس من أثر الثناء الزائف الذي مُنح هباءً لشكسبير، كلما كان ذلك أفضل.[2]


وما يزال هذا الانطباع عسيرًا حقًا على التفسير، الأمر الذي أثار حيرة العديد من أساطين الأدب: «ذوق عجيب!»، ولكن هل نجرؤ أن نناقض عبقرية تولستوي؟ أم هل نجرؤ على الادعاء بأن حصيلة قراءاتنا واطلاعنا قد تماثل يومًا حصيلته؟


ربما تبدو تلك النظرة المتدنية لأدب شكسبير معضلة من النظرة الأولى، ولكننا سنحاول كشف اختلاف رؤية كل منهما، وسنسعى جاهدين لتحليل هذا الأمر وحل اللغز، متلبسين روح شيرلوك هولمز، خطوة بخطوة؛ بداية من ملاحظة عقب السيجارة الأول وحتى اكتشاف الجثّة.

لكشف الالتباس، نحتاج أولًا أن نوضح أن كتابة النص النثري تختلف تمامًا عن آليات كتابة الدراما أو النص المسرحي، وإن لاح التشابه بينهما لخضوعهما لذات التصنيف الإبداعي، الكتابة الأدبية، ولكن الاختلاف بينهما جدّ أصيل.


أما كاتب النص النثري فقادر بكلماته على خلق صورة حية متحركة ذات تفاصيل دقيقة. يتميز النص النثري برسم الحالة الروائية حتى أنه لا يدع تفصيلة أو حدثًا رئيسيًا أو فرعيًا دون وصفه. يصف الكاتب النثري الحالة المزاجية غير المستقرة للأبطال ويصوغ الأفكار العميقة منها والمتناقضة. ويتجلى ذلك على التحديد في نصوص «بونين» و«ناباكوف»؛ ذلك الأسلوب الذي يشحذ العبارة حتى تصيب المعنى المطلوب.


أما عن النص الدرامي أو المسرحي (متضمنًا المونولوجات) فيختلف عن النص النثري كفرق الليل من النهار، فالشخصيات توضع في النص بلا وجوه، بلا ملامح تفصيلية، وهي ذات طبيعة نمطية ربما يخدمها النص فيما بعد فتخرج عن طور عاديتها. وبينما يأتي المونولوج في العادة كآلية عملية جامدة لإيصال الأحداث للمتلقي، تُعرَّف القصة في النص الدرامي باعتبارها البطل الرئيسي، حيث يجد البطل نفسه في موقف حرج تنبلج منه مُعضلة الرواية، بينما يقف الشعر على لسانه متربصًا به مقيدًا إياه في مشهد جامد غير حسّي.

يمكننا ببساطة إفراد مثال أكثر دقة على هذا الاختلاف العميق بين النص النثري والنص الدرامي، تشيخوف على سبيل المثال، ذلك العبقري الذي منحه الله موهبة كتابة النص النثري وإبداع النص الدرامي على حد سواء، ولهذا تتمتع مؤلفاته بمميزات النص النثري الرهيف دون إفراط في استخدام الأسلوب الدرامي، فالمونولوجات قصيرة والملاحظات مذكورة في تمام موضعها وحتى الشعر، منعه تشيخوف من أن يطغى على الأسلوب القصصي الرقيق.

قليل من الناس من مُنح موهبة الحكاية وصار حكّاءً بارعًا. وإن كان لـتولستوي وشكسبير حظ من هذه الموهبة، فالأمر يختلف عند تولستوي؛ فهو لا يسرف في سرد الأحداث في متتالية غزيرة، وإنما يتمهل عند كل حدث، عند كل مشهد، بتفصيل دقيق، فحين تقرأ لـه فحواسك مجبرة على إعمال عقلك لا إراديًا من زخم التفاصيل التي تكاد تتحرك أمام ناظريك على شاشة عريضة في أحداث مثيرة وأصوات تتفاعل.


لم يكتفِ تولستوي بخلق شخصياته البديعة في رواياته وإنما قام بإخراج الرواية منفردًا، فوضع في كل رواية مشهدًا واقعيًا كاد الجمهور وقت أن نُشرت الروايات أن يذوب من فرط الانبهار.


بينما يقدم تولستوي رواية ومحاكاة سينمائية، يركز شكسبير على قلب القصة وقالبها وفحواها. وفي حين يؤمن تولستوي بالواقعية النابضة والحقائق الدرامية، يتجه شكسبير بموهبته نحو الشاعرية والمبالغة المفرطة.

«ألقت آنا كارينينا بنفسها تحت عجلات القطار»، مشهد بقدر واقعيته استطاع أن يلهب خيال القراء، وذلك حيث إنه في عام نشر الرواية لم يكن في روسيا سوى قطار واحد فقط يصل سانت بترسبرج بموسكو، مما يعني أن معظم القراء لم يشاهدوا في حياتهم أبدًا ما يمكن أن تفعله عجلات القطار بجسد سيدة رقيقة، تمامًا كأن يوصف مشهد انتحار شخص في أيامنا هذه محترقًا بنيران صاروخ صعد إلى الفضاء.


أبدع تولستوي في ذكر الحادثة وترك لخيال القارئ تصويره وتصوّره؛ «مسرح الأحداث هو عقل القارئ»، تلك كانت تيمة تولستوي المفضلة.

وتلك المشاهد البديعة في السجن، والتفاصيل التي رَسَمت بشاعة نقل المتهمين في شُحنات، في روايته الأخيرة «البعث»، والتي حملت صرخة جريئة غير مسبوقة مُستجيرة من بشاعة العيش في ظل روسيا بلا قانون.


وهلّا تحدثنا عن المشهد الضخم الذي صوّره تولستوي لمعركة بورودينو[3] في «الحرب والسلام»؟ حيث يتحول عشرات الآلاف من الناس أمام عينيك لهدف مباشر للمدافع حاصدة الأرواح، ملحمة مرسومة بالتفاصيل، وصور حية محفزة للخيال، ودقة في الوصف لا توازيها إلا أقلام من عاصروا المعركة أو مسهم سعيرها. حتى الفيلم المأخوذ عن الرواية لم تقترب محاكاته من بِدع المشاهد التي صوّرها تولستوي تصديقًا لإيمانه بأن «مسرح الأحداث هو عقل القارئ».


بينما يقدم تولستوي رواية ومحاكاة سينمائية، يركز شكسبير على قلب القصة وقالبها وفحواها. وعلى الرغم من أنها قد تبدو مهمة سهلة يسيرة بالمقارنة، ولكن إن كان مؤلف النص الدرامي مُبدعًا كــشكسبير، فيمكن لقالب القصة هذا أن يعيش مئات الأعوام، متجددًا على يد كل صاحب رؤية خاصة، فالنص الدرامي خاضع للتأويل والاقتباس؛ يكتب شكسبير المسرحية، ثم يهديها لكل ذي رؤية وعين فنانة، ذلك أن شكسبير يكتب للفنانين، للمسرح ولكل من يبتغي تشكيل وتطوير قالب الفكرة بوحي من إبداعه.


يُرجع البعض عظمة النصوص النثرية وإبداعها – بنظرة قاصرة – إلى كونها تصور العديد من وقائع الحياة التي نعيشها أو نشهدها، ولكن الأمر في الحقيقة يتعدى ذلك، فالراغبون في قراءة القصص الواقعية الحزينة يمكنهم أن يتخذوا من صفحات الحوادث مستقرًا حتى حين، ولكن الكتابة الإبداعية تختلف عن تلك الحقائق الواقعية الجامدة التي قد تحفز مدامعك ولكنها أبدًا لن تصل إلى الجهد الذي يبذله تولستوي، فهو كاتب القصة والمخرج والمصور وحتى البطل الرئيسي، متلبسًا روح كل الشخصيات رئيسية كانت أو فرعية، نافخًا فيها من روح إبداعه.


النصيحة الأولى التي قد نمنحها للراغبين في الاشتغال بالأدب: أن ابدأ كشكسبير؛ بفكرة شاعرية ذات هيكل واضح، وانتهِ كتولستوي؛ بتفاصيل حية وانغماس في نفوس الشخصيات وتاريخها ودوافعها.وعلى الجانب الآخر، يؤمن شكسبير بأن إبداع النص الدرامي لا يتوقف عند كاتبه بل يتعداه إلى الفنان، جازمًا بأن الفكرة يجب أن تتطور وتتقولب بشكل شاعري، مانحًا للجميع فرصة إحياء النص بل وخلقه من جديد إن اقتضت الرؤية.


ولقد أبدع تولستوي في رسم شخصية «آنا كارنينينا»، بصورة فريدة ليست ذات مثيل، وذلك كونه قد أصاغ جميع جوانبها وخلجاتها بدقة متناهية وحرفية. أما عن «هاملت» فتتميز شخصيته وبواعثها وأزماتها بكونها جذرًا قد تتشعب منه آلاف الشخصيات التي تحمل نفس الأزمة ونفس دواعي الانهيار، حتى أن الممثلة الفرنسية سارة برنار قد تلبست شخصية هاملت في إحدى معالجاتها وأدتها ببراعة نابعة من كون الشخصية قد أُبدعت في الأصل قابلة للتطويع.

 وفي حين يؤمن تولستوي بالواقعية النابضة والحقائق الدرامية، يتجه شكسبير بموهبته نحو الشاعرية والمبالغة المفرطة.
وبهذا نرى أن لكل مبدع منهما، تولستوي وشكسبير، روحًا خاصة وآلية مختلفة، ولكنها تنتمي كلها لذات القوانين العالمية للدراما التي أقرها أرسطو. وحيث إن هيكل النص هو أساس الدراما بداية من العصور الإغريقية وحتى يومنا هذا، وإذ تشترط كتابة الدراما أن يكون للنص المسرحي هيكل واضح وفكرة صارمة، يحتاج النص في حينها لتدخل المخرج الذي يطور من الفكرة ويمنحها روحًا ويرسم لها أبعادًا شاعرية، بدلًا من الفكرة الرئيسة للنص في طوره الأولي والمخيبة لآمال كل نفس شاعرية تتوق لتتوحد مع النص.


لذلك فإن النصيحة الأولى التي قد نمنحها للراغبين في الاشتغال بالأدب: أن ابدأ كشكسبير؛ بفكرة شاعرية ذات هيكل واضح، وانتهِ كتولستوي؛ بتفاصيل حية وانغماس في نفوس الشخصيات وتاريخها ودوافعها.

 


*من كتاب المسرح ما بين الجنة والجحيم، للمخرج الروسي ألكساندر ميتّا.

 

 

رولا عادل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...