الحلقة التاسعة من كتاب"عشرة أعوام مع حافظ الأسـد" دبلوماسية الصحف

15-12-2018

الحلقة التاسعة من كتاب"عشرة أعوام مع حافظ الأسـد" دبلوماسية الصحف

دبلوماسية الصحف (1)


في حزيران 1999, زار الصحفي البريطاني المخضرم الراحل باتريك سيل سورية و إسرائيل بعد زمن قصير من الانتخابات الإسرائيلية. كان سيل صديقاً قديماً لسورية, فقد نشر كتاباً شهيراً عن حياة الرئيس الأسد في عام 1988 تحت عنوان: الأسد: " الصراع على الشرق الأوسط. و كان قد عاش في دمشق أثناء فترة الانتداب, و كتب رسالة الماجستير عن الإنقلابات السورية في الخمسينيات من القرن العشرين. و كان متزوجاً أيضاً ابنة الدكتور صباح قباني, سفير سورية الأسبق إلى الولايات المتحدة في السبعينيات من القرن نفسه.

بإختصار, كان سيل يعرف سورية جيداً, و أبواب الرئيس السوري مفتوحة أمامه. و قبل قدومه إلى سورية, كان قد سافر إلى إسرائيل لإلقاء محاضرة مشتركة مع إتامار رابينوفتش - سفير إسرائيل في الولايات المتحدة و شريكنا السابق في المفاوضات - في مركز موشيه ديان. و إضافة إلى ذلك, كان سيل قد قابل رؤساء الوزراء شامير و بيريز و باراك, و قام بجولة في مرتفعات الجولان مع ضباط من الجيش الإسرائيلي. و قال له باراك رسمياً إنه يسعى إلى " سلام الشجعان " مع سورية.

كان ذلك المصطلح وليد أفكار الرئيس الأسد, و نقله عنه في ما بعد ياسر عرفات و استعمله في عدد لا ينتهي من المرات, الأمر الذي جعله جزءاً من مفردات السلام في الشرق الأوسط, و هو ما دفع الرئيس الأسد إلى التوقف عن استخدامه بعد أن استخدمه عرفات في مكانه و في غير مكانه, بقوله: " إنني أنا الذي أطلق عبارة سلام الشجعان, و لكن و بعد أن رأيت استخدامها على نحو مبتذل, قررت ألا أستخدمها أبداً ". و ذكر باراك في حديثه مع سيل أن الطريق الوحيد إلى سلام مستدام في الشرق الأوسط يمرّ عبر دمشق: " سياستي هي تقوية أمن إسرائيل بالتوصل إلى نهاية للصراع مع سورية ".
و أصبح هذا التصريح, بالطبع, عنواناً عريضاً على الصفحة الأولى من جريدة الحياة الصادرة في لندن, والتي كان سيل يكتب فيها زاوية منتظمة. و في دمشق, تحدّث سيل إلى الرئيس, و أجرى معه مقابلة موجزة نُشرت على الصفحة الأولى في جريدة الحياة. و كان عنوانها: " الأسـد: باراك قوي و صادق, و يريد السلام مع سورية ".

و كانت المرة الأولى التي يتبادل فيها رئيس الجمهورية العربية السورية ة رئيس وزراء إسرائيل رسائل نيّات حسنة عبر وسائل الإعلام. و مما يلفت النظر هو أن كلّ هذا جرى عن طريق إحدى أكبر الصحف العربية و أوسعها انتشاراً.

نُشِرَت مقابلة الأسد في 23 حزيران 1999, و حملت رسالة قوية إلى الولايات المتحدة, موضحة مدى التزام سورية بسلام حقيقي في الشرق الأوسط. قال الأسد إن السلام ليس خياراً جديداً لسورية, مشدّداً على أنه طالب بالسلام العادل و الشامل منذ عام 1975. و حينما سُئل الأسد عن باراك, أجاب: " لقد تابعت تصريحاته. و هو يبدو رجلاً قوياً و صادقاً. بناء على نتائج الانتخابات في إسرائيل يبدو أنه يتمتع بتأييد واسع في إسرائيل ". و أضاف الأسد أن انتخاب باراك يشير إلى أن شيئاً ما قد تغيّر داخل إسرائيل, لأن الوضع أثناء حكم نتنياهو كان, بحسب تعبير الأسد, " أمل لا يرجى منه ".

بعد المقابلة مع صحيفة االحياة, منح الرئيس الأسد كلينتون ثقته من جديد, و مرة تاسعة منذ عام 1993. و في الحادي والعشرين من كانون الأول 1999, أُعلِن أن بلدة شبردستاون في ولاية غرب فرجينيا ستستضيف الجولة القادمة من المحادثات السورية الإسرائيلية, التي سيحضرها وزير الخارجية فاروق الشرع و رئيس الوزراء إسرائيل الجديد. و كنتُ جزءاً من الوفد بصفتي مستشارة لوزراة الخارجية. و ربما يجدر بي أن أذكر هنا كنتُ في ذلك الحين قد لازمت الرئيس الأسد نحو عقد من الزمن, و مع ذلك كنتُ لا أزالُ رسمياً مستشارة في وزراة الخارجية و أستاذة في جامعة دمشق, إذ احتفظت بساعاتي التدريسية لأنني أحبّ مهنة التعليم.(1)


 دبلوماسية الصحف  (2)


و لقد حيّر اختيار شبردستاون الكثيرين, إذ كانت بلدة ريفية صغيرة محاذية للطريق 81 العابر للولايات المتحدة على مسافة لا تتجاوز خمسة و سبعين ميلاً من واشنطن العاصمة. و كانت النشاطات الوحيدة التي شهدتها البلدة مقتصرة على المعارض السنوية في الصيف, و كان هذا باالطبع شيئاً لا يذكر بالمقارنة بالاهتمام الذي كان ستحظي به من وسائل الإعلام العالمية حين ستستضيف الوفدين السوري و الإسرائيلي. و قد وصفها دنيس روس بأنها قديمة و هادئة. و طلب الإسرائيليون أن تحجب المحادثات حجباً تاماً عن وسائل الإعلام: لا وفود صحفية, و لا هواتف محمولة. و أضاف روس أن باراك أراد أن تمكث الوفود السورية و الإسرائيلية و الأمريكية في " شرنقة افتراضية ". و لم تكن هذه المسائل تشغل بال الوفد السوري. فليست لدينا أسرار, و ليس لدينا ما نخفيه.


و قدم إلى شبردستاون ثلاثة صحفيين سوريين, لكنهم لم يكونوا جزءاً من الوفد السوري الرسمي. و قد حاولت الولايات المتحدة أن تقنعنا بعقد المحادثات إما في واي ريفر أو كامب ديفيد, لكننا رفضنا كلا المكانين لأنهما مرتبطان دائماً بياسر عرفات, الذي حضر إلى واي, و أنور السادات, الذي صاغ معاهدته المشؤومة للسلام في كامب ديفيد في عام 1978.

كان في شبردستاون فندق كبير لننزل فيه, يقع خارج البلدة, و منتجع جميل تملكه الهيئة الأمريكية للأسماك و الأحياء البرية, التي استضافت اجتماعاتنا. إضافة إلى ذلك, كان المكان قريباً من البيت الأبيض, و بإمكان الرئيس كلينتون أن يأتي بطائرة مروحية خلال عشرين إلى خمس و عشرين دقيقة لمتابعة سير المفاوضات.


حين وصلنا إلى غرب فرجينيا في كانون الثاني 2000. قيل لنا إن الأمريكيين يعدّون مسودَّة اتفاقية تعترف بوديعة رابين وتبني عليها. كما قيل لنا إن مستشار الأمن القومي ساندي برغر أطلع وفد السلام الأمريكي على موقف الرئيس كلينتون قبل وديعة الجيب**, و " بعد وديعة الجيب ". و أخبر كلينتون أعضاء الوفد أنه " لا شيء كان ممكناً قبل وديعة الجيب ", لكنه اختراقاً حقيقياً ممكن " بعد وديعة الجيب ". و ذكر روس في مذكّراته أن موقف الولايات المتحدة " هو أن حدود الرابع من حزيران 1967 يجب أن تكون أسس المفاوضات حول الحدود ". و هذا ما اعتقدناه حين حطّت بنا الطائرة في الولايات المتحدة في كانون الثاني من ذلك العام. لكن سرعان ما اكتشفنا أن الواقع مختلف.


كان الاجتماع الأول بين الشرع و باراك في البيت الأبيض في 15 كانون الأول 1999. و قد رافَقنا وزير الخارجية إلى ذلك الاجتماع, و هناك أدلى كلاهما ببيان موجز للصحافة في حديقة الورود قبل التوجه إلى مباحثات في مضافة كلينتون, أي بلير هاوس, مهدت الطريق إلى محادثات شبردستاون. كان بلير هاوس - الذي يقع مقابل شارع بنسلفانيا, و يقابل البيت الأبيض ( هو المكان الذي أقام فيه الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن أثناء تجديد البيت الأبيض في القرن التاسع عشر).
إنّ أكثر ما أتذكّره عن ذلك اليوم هو الطقس البارد الجليدي و الطين في حديقة الورود. و قبل ظهور الشرع علناً مع باراك و كلينتون, أخبر أولبرايت أنه لن يصافح الإسرائيليين, و أنه سيقف إلى جانب إيهود باراك إن استدعت الضرورة القصوى ذلك, لكنه لن يقبل بالمصافحة, و طبعاً كان هذا تلبية لتوجيهات الرئيس الأسد.


كان الاتفاق على ألاّ يتكلم سوى الرئيس كلينتون في تلك المناسبة, لكن ذلك تغيّر بسرعة, و أعطي كل من الشرع و باراك بضع دقائق ليقول شيئاً. و غضب الوفد الأمريكي لأن الشرع تحدث عشر دقائق, في حين قصر باراك كلامه على بضع دقائق, ملتزماً بطلب الرئيس كلينتون. أتذكر أن الوزير الشرع استغل الفرصة ليشدّد على موقف سورية أمام وسائل الإعلام العالمية المتجمّعة في حديقة البيت الأبيض ذلك الصباح. لم يترك هذا انطباعاً جيداً لدى الأمريكيين. لكنني أعتقد أن خطاب الشرع كان في محله, لأن فرص السوريين إلى التحدث إلى وسائل الإعلام العالمية كانت قليلة جداً بسبب الحرب الدائمة التي تشنّها تلك المحطات علينا, في الوقت الذي كان فيه الطريق إلى شبكات التلفزيون و الصحف مفتوحاً أربعاً و عشرين ساعة في اليوم على مدار العام أمام الإسرائيليين.


و لكن سرعان ما غطى على غضب كلينتون من الخطاب السوري الطويل نسبياً الوعكة الصحية التي ألمّت باللواء يوسف شكور, الخبير العسكري في وفدنا, و ربما كان لك نتيجة الإرهاق الي عاناع أثناء المؤتمر الصحفي. تولى اللواء شكور رئاسة أركان الجيش السوري خلال حرب تشرين الأول 1973, و كان رجلاً قوياً صلباً, لكنه في ذلك الحين كان قد تجاوز السبعين من العمر. كان يقف بجانبي حين بداً يميل يمنة و يسرة. في البداية ظننتُ أن ذلك يعود إلى الأرض الطينية تحت أقدامنا, لذلك استدرت لأساعده على الوقوف على نحو صحيح, لكنني لاحظت سريعاً أنه بدأ يفقد الوعي. نُقِل شكور على الفور إلى الغرفة الطبية في البيت الأبيض, و تولى أطباء الرئيس كلينتون العناية به.

و في 3 كانون الثاني من عام 2000, و قبل أن تبدأ المحادثات, التي صادف وقوعها في شهر رمضان المبارك, تلقى وزير خارجيتنا دعوة للسير على جسر شبردستاون فوق نهر بوتوماك مع الرئيس كلينتون و باراك. صافح كلينتون أعضاء الوفد السوري, و سار أمامنا مع ضيفيه, في حين سار روس و إنديك و أولبرايت و أنا وراءهم على مسافة تبعدنا عنهم. كانت مادلين أولبرايت تسير إلى جانبي, و قد زيّنت ملابسها بدبوس على شكل أسد, و هو نفسه الذي كانت تضعه عند زيارتها الأولى دمشق في أيلول 1998. كانت تسعى إلى لفت الأنظار إليه, كما فعلت من قبل, بسبب شكله الذي يطابق اسم الرئيس السوري.

و قالت و هي تشير إلى اجتماعين سابقين بالرئيس الأسد: " لقد توافقنا تماماً. أعتقد أننا جميعاً نعمل من أجل قضية نبيلة. و آمل أن ننجح, يا بثينة ". في تلك الأثناء كان جيش من المصورين منهمكاً بالتقاط صور للاجتماع التاريخي بين السوريين و الإسرائيليين في غرب فرجينيا.

وديعة الجيب** : لقد تمّت الإشارة إلى وديعة رابين أنها في الجيب و لن تظهر إلى العلن إلا في حال الموافقة النهائية على اتفاقية سلام بين سورية و إسرائيل .


1- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 242


2- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 245

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...