كيف أصبح القرآن مصحفًا؟

12-01-2019

كيف أصبح القرآن مصحفًا؟

تبعًا للتقليد الإسلامي يمكن تقسيم تاريخ المصحف؛ أي تاريخ العمل على النص القرآني بالتدوين والجمع والنسخ، إلى أربع مراحل رئيسية: مرحلة تدوين الوحي، ثم مرحلتي الجمع والإقرار في عهد أبي بكر وعثمان، ثم مرحلة العمل على تطوير خط كتابة المصاحف حيث تم تشكيل النص القرآني وإعجامه. ويمكن أن نضيف إلى هذه المراحل مرحلة خامسة تتصل بطباعة المصحف شرقًا وغربًا حتى إنجاز طبعة القاهرة سنة 1924 والتي أصبحت بمثابة المصحف الإمام الجديد في العصر الحديث.


وهنا سأحاول في هذه المقالة الأولى تقديم صورة شاملة للعمل في المرحلتين الأولى والثانية، وذلك تبعًا للمصادر الإسلامية، ولن أتطرق إلا لمامًا للدراسات الغربية حول هذا الموضوع، لأنني سأخصص لها – إن شاء الله – دراسة أو دراسات مستقلة.


تدوين الوحيكان الوحي المحمدي شفويًا، ربما لأمية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا وغيره اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتّابًا للوحي بلغ عددهم 46 كاتبًا. «وكان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب يكتبان الوحي، فإذا غابا كتب أبي بن كعب وزيد بن ثابت. فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة كتب من حضر».


وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه من ألزم كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ومقدمًا عليهم، وكان جارًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما نزل الوحي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن ثابت ليكتبه، وكما في «صحيح البخاري» كان يقول لأحد الحاضرين: «ادعُ لي زيدًا، وليجئ باللوح والدواة والكتف».


مراجعة النبي وتدقيقهوكان عمل كُتاب الوحي يخضع لمراجعة النبي وتدقيقه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًا بتحسين خط كتابة الوحي، وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن ثابت: «إذا كتبت «بسم الله الرحمن الرحيم» فبيّن السين فيه». ومما روي عن زيد بن ثابت أيضًا أنه قال: «كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكتب وهو يملي عليّ، فإذا فرغت قال: «اقرأه»، فأقرؤه، فإن كان فيه سَقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس».


وهنا كما ترى توجد ثلاث مراحل لعمل كتاب الوحي؛ وهي: الإملاء، فالمراجعة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تعليم الناس. وحول تلك المراحل الثلاث لآلية كتابة الوحي وترتيبه تدور معظم النقول التي أعرفها عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهي نقول يمكن أن تبني منها نظرية حول كتابة الوحي الإلهي بلغة البشر.

 وكانت المراجعة على النبي صلى الله عليه وسلم تشمل أيضًا ترتيب الآيات داخل السور القرآنية. وفي سنن أبي داود رواية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما نزل عليه الوحي يدعو بعض من كان يكتب له، ويقول له: «ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» ويذكر اسم السورة والمكان فيها. وبهذا الترتيب الجديد تكون الصلاة ويكون التعليم.


وبالطبع كانت تعاد كتابة رقع القرآن مرة أخرى كلما نزلت آيات جديدة. وفي سنن الترمذي نص لزيد بن ثابت يقول فيه: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرّقاع».


والتأليف هنا يعني الجمع والترتيب. وفي القرآن «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ. لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ» «الأنفال: 63». فألف هنا تعني جمعها على المراد لها. وفي «لسان العرب»: «ألّفت الشيء تأليفًا، إذا وصلت بعضه ببعض، وجمعت بعضه إلى بعض». وفي «دلائل النبوة» للبيهقي أن القصود بحديث زيد هنا ترتيب الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم.

فالتأليف هنا يعني ترتيب الآيات داخل السورة الواحدة وهو كما ترى يتم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الترتيب توقيفي موحى به، وهذا إجماع لا نزاع فيه بين علماء المسلمين وتوجد نصوص لا حصر لها تؤيده بعكس ترتيب السور داخل المصحف فليس بموضع إجماع.


ولأن القرآن كان ينزل منجمًا؛ أي مفرقًا، فقد ظلت عملية ترتيب النصوص القرآنية وإعادة كتابتها مستمرة حتى نهاية الوحي ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا السبب تحديدًا لم يُجمع القرآن في مصحف واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فكانت الآيات تكتب مفردة على الرقاع وتراجع على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعاد ترتيبها في سورها بتوجيه منه صلى الله عليه وسلم وتراجع عليه أيضًا، وهذا كما سبق ما كان يتعلمه الصحابة ويتعبدون به جهرًا وسرًا.


أي أن حركة نزول الوحي والترتيب والكتابة والتعليم والصلاة ظلت حركة دائبة حتى وفاة النبي في 12 ربيع الأول سنة 11هـ واكتمال النص القرآني. ومعنى ذلك أن القرآن المحفوظ شفاهة قد تمت كتابته أيضًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه كان مفرقًا بين صحابته وغير مجموع بين دفتين، وهذا ما قام به الصحابة من بعده كما سنرى فيما يلي.


أبو بكر وجمع القرآن بين دفتينهنا قد يظن البعض أنه مر وقت طويل حتى جمعت رقاع القرآن بين دفتين. وهذا وهم بالطبع، لأن الصديق رضي الله عنه بويع بالخلافة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن بعد! وكما نعرف أن العرب ارتدت بعد انتشار خبر الوفاة، ولم يبق على الإسلام إلا المدينة ومكة والطائف.


وكرد فعل حاسم أعلن أبو بكر الصديق الحرب على المرتدين ومانعي الزكاة بعد أن سوى بينهما ومن ثم كانت حروب الردة، وكان أشدها ضراوة معركة اليمامة مع مسيلمة الكذاب وقومه، وكانت بعد أقل من ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فالوفاة كانت في يونيو 632م وكانت معركة اليمامة في ديسمبر 632م.

 وفي هذا السياق يأتي النص الشهير من «صحيح البخاري» عن زيد بن ثابت إذ قال:

«أرسل إليّ أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: «إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خيرٌ. فلم يزل عمر يُراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجلٌ شابّ عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه»، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. لم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن، أجمعهُ من [الرقاع] والعُسبِ واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها [مكتوبة] مع أحد غيره: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها».

والعسب جمع عسيب وهي الأطراف العريضة من جريد النخل. واللخاف جمع لخفة وهي الحجارة الرقيقة التي يمكن أن يكتب عليها. والمقصود بفعل شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يجمع القرآن بين دفتين ليصير مصحفًا، وقد مر سبب ذلك.وكما سبق لم يكن اختيار زيد بن ثابت عبثًا؛ فقد كان ألزم كتاب الوحي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان ما زال شابًا جلدًا، وكان بعض حفاظ الصحابة وكتبة الوحي مثل عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب وأبي موسى الأشعاري رضي الله عنه موزعين في الأمصار الجديدة. ومن أهم الأسباب في التقليد الإسلامي أيضًا أن زيد بن ثابت كان – على الأرجح – ممن حضر العرضة الأخيرة للقرآن. وفي «صحيح البخاري» روى مسروق عن عائشة رضي الله عنه عن فاطمة عليها السلام أنها قالت: »أسَرّ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يُعارضُني بالقرآن كلَّ سنة، وإنَّه عارضني العام مرتين، ولا أُراهُ إلا حضر أجلي».


جمع مؤسسي

وهنا لابد وأن ننتبه للطبيعة المؤسسية للأمر بجمع القرآن، فهذا واضح لدى الشخصيات الثلاثة في نص البخاري؛ فلو كان الأمر فرديًا لقام به عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون أن يسأل الخليفة، ولو كان طلب الجمع طلبًا شخصيًا للخليفة لاكتفى زيد بنسخ مصحفه الخاص ووضع النسخة بين دفتين، كما فعل بعض الصحابة بما كان لديهم من القرآن بشكل فردي، ولكن زيدًا كان يفهم أن العمل الذي كُلف به لجمع القرآن بين دفتين عملاً رسميًا باسم الخلافة ولذا قال «كلفوني».
ولأن الجمع عمل رسمي فلابد وأن يحظى بتوافق المسلمين وإجماعهم، لذا التزم زيد بالخطة التي وضعها له أبو بكر الصديق. وكما في «كتاب المصاحف» للسجستاني


فزيد بداية لم يكن بمفرده، نعم هو كاتب الوحي الرئيس، ولكن كان معه عمر بن الخطاب بتكليف من الخليفة، وممثل له، ويمكن أن نذكر هنا أيضًا الشهود الذين يستشهد بهم على كل آية قبل كتابتها.

ولم يكن زيد يسأل عامة الصحابة عما يحفظونه فقط وإنما أيضًا عما لديهم من كتابات قرآنية، وكان بعضهم كما يمكن أن نتصور فقيرًا لا يتيسر له شراء القراطيس والرقاع المعدة للكتابة، وإنما يكتب على ما يتيسر له مما يجده في البيئة من حوله من خامات كالأحجار المفلطحة والجريد وعظام الحيوانات مما يمكن الكتابة عليه مثل الكتف.


وقد ذكر زيد في حديثه هذه الأشياء لصدقه، ولإظهار عظم الأمر وثقله، وأن كل هؤلاء لا يمكن أن يجتمعوا على خطأ أو تحريف. وبسبب هذه الدقة يعد هذا المصحف المؤسسي أدق وأشمل من كل المصاحف الفردية التي كانت عند بعض الصحابة كعبد الله بن مسعود وأُبي ابن كعب وأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، حيث لم يكن يوجد فيها إلا ما يحفظه أصحابها، بل كانوا يكتبون فيها تفسيراتهم وبعض أدعية النبي صلى الله عليه وسلم ولذا لم يعتمد عليها وقت الجمع أو النسخ.


ونفهم من مجمل أدبيات التقليد الإسلامي حول «جمع القرآن» أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يجمع الكتابات ويستشهد بحفظ الصحابة وحفظه ثم يعيد كتابة النص بترتيب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في رقاع متساوية ليسهل ربطها وشدها بين لوحين.


وينقل السيوطي في «الإتقان» قول الحارث المحاسبي: «كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقًا في الرقاع، والأكتاف، والعسب، وإنما أمر أبو بكر بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزله أوراق وجدت في بيت رسول الله فيها ‏القرآن منتشر فجمعها جامع وربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء».
وفي «كتاب المصاحف» للسجستاني: نص للإمام علي يقول فيه: «رحم الله أبا بكر، كان أول من جمعه – القرآن – بين اللوحين». وهذا هو أدق توصيف لما فعله زيد بن ثابت بتكليف من أبي بكر رضي الله عنه.
وقد بقي هذا «المصحف الأول» عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي لم يأمر بتعميمه، وكان يحفظه كوثيقة من وثائق الخلافة، ولذا انتقل منه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس إلى ورثته. وعندما مات عمر كان المصحف عند ابنته أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنه فلربما كانت الأمينة على تلك النسخة.

 وخلاصة ما سبق أن عملية نزول الوحي وكتابته وترتيبه ومراجعته على جبريل وتعليمه والصلاة به جهرًا وسرًا كانت حركة دائبة اكتملت بوضع كل ذلك بين دفتين بعد أقل من ستة أشهر فقط من ختام الوحي واكتمال الدين، وأن هذا كله تم بصرامة علمية منقطعة النظير.
مثل هذه الصرامة العلمية هي التي حملت مستشرقًا كبيرًا مثل المستشرق الألماني رودي بارت ليقول في مقدمة ترجمته الألمانية لمعاني القرآن: «رغم أنه توجد مئات من الآيات التي رويت لها قراءات عدة إلا أن نص القرآن موثوق به بالكلية، وأن قراءته رويت بالضبط كما سمعها معاصرو النبي من فمه. ومن ثم فليس لدينا أي سبب البتة حتى لمجرد الظن أن آية ما في القرآن كله يمكن أن تنسب لغير النبي محمد».

وقد قال هذا رغم أن التراث النقدي الغربي حول القرآن مليء بالظنون غير العلمية التي ترجع لأسباب عديدة منها الرعونة والتسرع، وعدم إتقان اللغة العربية، ولسيطرة المخيلة المسيحية اليهودية على عقولهم.

 



إضاءات- د. عبد السلام حيدر
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...