خارج السلطة: تحول موقع الماركسية الثقافي

13-05-2006

خارج السلطة: تحول موقع الماركسية الثقافي

نقضى زمن كانت فيه كلمتا ماركسية وثقافة تشيران إلى المدلول نفسه تقريبا لدى أوساط واسعة ومهيمنة في بلدان المشرق العربي، وبالخصوص سوريا والعراق والشتات الفلسطيني. في البلدين البعثيين بالذات، كانت الماركسية مهيمنة وطليعية حتى أواخر السبعينيات رغم نظام الحزب الواحد (كان هذا، وهو مشروع سلطة محض، قد كشف عن عقم فكري ثقافي مطلق، دفعه، في أيام غسقه، إلى استنفار الإسلام). أما في لبنان «الليبرالي» فقد كانت هناك لا ماركسية وازنة على الدوام، الفضل فيها لطبقة وسطى لم تتعرض للتدمير، ولمؤسسات جامعية مستقلة. مع ذلك سجلت الماركسية حضورا قويا في الثقافة والفن في لبنان. وكان لها دور مهيمن أيضا في تكوين المثقفين الفلسطينيين في مواطن شتاتهم وفي الأرض المحتلة.
إنه زمن ما بعد هزيمة حزيران. وقد انتهى بعد عقد واحد في غمار الحرب اللبنانية، وفي اندلاع السلطة حربا أهلية بديلة في كل من سوريا والعراق. قبل ذلك كانت الطبقة الوسطى قد تعرضت للتدمير في البلدين، وامحت في الوقت نفسه كل هوامش الاستقلال الاجتماعي، السياسية والثقافية. وقد نرى اليوم، بمنظور راجع، أن الركود السوفياتي، وقد بدأ في مطلع السبعينيات، كان عاملا إضافيا في تقصير أمد المطابقة بين الماركسية والثقافة في المشرق.
احتضرت الثقافة والماركسية معاً، وإن ليس للأسباب نفسها. ذوت الثقافة لأن المجتمعات المدنية في البلدان الثلاثة كانت تدمر، والطغيان أو الموت يبسط ظله الثقيل على اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين. والماركسية التي كانت ثقافة، رغم ما فيها من عناصر مضادة للثقافة، قضت مع دمار الثقافة.
عرف جيل مشرقي واحد على الأقل الحداثة عبر الماركسية الملتزمة، أعني الماركسية الشيوعية. أن تكون ماركسيا كان يعني أن تتعرف إلى مفكرين وأدباء وفنانين ومناضلين من جهات العالم الأربع، أن تشترك مع كثيرين في رموز موحدة ولغة تخاطب ونمط حياة وأذواق فنية وصيغ سلوكية وانتماء و.. تعصب معين؛ أيضا أن تحوز وعيا كونيا، وإن كان يشكو من تمركز سوفياتي، وأن تملك أدوات تحليل موضوعي، وإن كنت مملوكا لها بسبب فرط تمذهب ماركسية ذلك الوقت. وهو شيء لا يتغير إن قلنا إن هناك ماركسية مستقلة عن السوفيات، بل نقدية حيالهم. فرغم أن الماركسية غير السوفياتية عاشت ضد شقيقتها، الماركسية السوفياتية، فقد ماتت معها. لقد كان ازدهارها مشروطا بأزمة الماركسية السوفياتية، لكن ليس بموتها.
بالمجمل، كانت الماركسية ثقافة عليا ورابطة سياسية وحياة يومية في الوقت ذاته. غير أن وظيفتها التعبوية كانت أقوى من وظيفتيها البرنامجية والنظرية. لذلك أهم المنظرين الماركسيين كانوا منشقين، والأحزاب أو المنظمات التي اكتشفت السياسة اكتشفتها ضد الماركسية المهيمنة تلك وليس عبرها.
كذلك كانت الحداثة الماركسية متهافتة لأنها أحلت الاعتقاد بدل الاجتهاد، واليقين بدل التساؤل، والإيمان بدل النقد، والمذهب بدل العقل.
تغير موقع الماركسية في النقاش السياسي والفكري العربي خلال العقد ونصف العقد من السنوات المنقضية على انتهاء الحرب الباردة. أول مظاهر تغير الموقع هو تراجع استخدام أدوات التحليل الماركسية (أنماط الإنتاج، الطبقات، الرأسمالية، الامبريالية، إلخ)، وتدني الإحالات إلى ماركس وغيره من أعلام الماركسية ورموزها في الصحف والمجلات والكتب، وصولا إلى ما يقارب خروج كلمة الماركسية ذاتها من التداول. نرصد كذلك انزواء المقاربة الماركسية الصافية في «مطبوعات طائفية»، أعني منشورات التنظيمات الشيوعية المتشددة الباقية على قيد الحياة.
وقد يكون أقوى مؤشر على تغير موقع الماركسية في خريطة الفكر والسياسة في الغرب هو توقف سلسلة الإعلانات عن موت ماركس التي غطت عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات في الثقافة الغربية، الثقافة التي تشغل موقعا عالميا مرجعيا، يتيح لها احتكار إصدار شهادات وفاة وإعلانات بالنهاية. فهل يكون التوقف عن نعي ماركس دليلا أكيدا على أنه مات؟
لا نميل إلى طرح الأمر بهذه الصورة. فعبارة «موت ماركس» كانت تشف على الدوام عن رغبة في القتل مع التبرؤ في الوقت ذاته من دم القتيل؛ وهذه الرغبة المزدوجة مميزة للمثقفين حيال خصومهم الفكريين. ثم إن إعلان موت مؤلف «الرأسمال» اندرج على الدوام ضمن منطق الحرب الباردة وعملياتها الدعاوية، وقلما برئ من أغراض عقيدية أو كان خالصا لوجه العلم.
المسألة في نظرنا مسألة تغير موقع لا مسألة موت. فتاريخ الفكر والثقافة هو تاريخ تحولات من موقع لآخر وانتقالات من مجال لآخر، وعمليات استيعاب ودمج (كما تفعل الشركات المتعددة الجنسيات) وإعادة هيكلة وترتيب.
كانت الماركسية تبدو ذات العالم أو وعيه الذاتي، النظرية القادرة على تقديم الصورة الحقيقية للعالم والتاريخ والإنسان، وربما للطبيعة والكون أيضا. كانت تستوعب العالم. اليوم هي مستوعبة فيه، موضوع بين موضوعات أخرى. بكلمة واحدة الماركسية اليوم تراث، والتراث هو الفكر الذي انزاح عن موقع المعاصرة وخسر امتياز ريادتها، أعني الحق الخاص في أن يدرس نفسه بنفسه. التراث هو ما نحتاج إلى شيء آخر لدراسته. وهو أيضا الفكر الذي لا يستطيع وحده تقديم صورة واقعية للعالم. بعبارة أخرى، التراث هو الفكر الذي انزاح عن موقع المبادرة النظرية (التعبير لبرهان غليون) ولم يعد قادرا على تزويدنا بالأدوات المعرفية الملائمة لفهم العالم والتوجه فيه. وفي الثقافة العربية لم تعد الماركسية هي عربة الدرجة الأولى للتعرف على الحداثة الفكرية والفنية العالمية، بل إن الاكتفاء بها يبدو طريقا مضمونا للخروج من الحداثة.
هذا واقع لا جدال فيه، ليس المسؤول عنه جحود بعض الماركسيين، ولا يرتفع بثبات الماركسيين الآخرين على ولائهم للمعتقدية الماركسية. ولا يمس صوابه أن شيئا لم يشغل المقعد الماركسي في قيادة عربة الحداثة الثقافية لدينا.
لم تكن الماركسية مجرد تيار فكري، أو شيئا من ملكوت المعرفة والعلم. لقد كانت طوال أكثر من قرن قوة سياسية أوروبية، ثم عالمية من الدرجة الأولى. كانت كذلك معسكرا دوليا، شكل قطبا عالميا طوال أربعة عقود، وتطلعت طوال سبعة عقود إلى الاستيلاء على السلطة العالمية أو التأثير عليها بقوة. كانت أيضا نظاما اجتماعيا مختلفا عن النظام الرأسمالي المهيمن قبل وبعد الفاصل الشيوعي، وكذلك دولا متفاوتة التطور في بقاع مختلفة من الأرض، وأحزابا متفاوتة القوة في معظم دول العالم.
لا يمكن أن نصرف النظر عن حقيقة أن أطراف الحركة الشيوعية العالمية المشار إليهم، القطب والدول والأحزاب، لم يكونوا غير ديموقراطيين فحسب، بل إنهم وضعوا النظام الاجتماعي والإيديولوجي الذي بنوه في تعارض مباشر مع النظام الديموقراطي بصيغتيه الأساسيتين، الليبرالية والاشتراكية. طوال عقود، لم يكن في وسع المرء أن يكون ماركسيا ملتزما، وديموقراطيا في الوقت نفسه. كانت الشرعية الشيوعية تدفع المرء، فردا أو حزبا، بعيدا عن الديموقراطية أو ضدها، وكان الاقتراب من الديموقراطية يمر بصورة محتومة عبر الابتعاد عن الشرعية الشيوعية وعبر اتخاذ موقف تحريفي إلى هذه الدرجة أو تلك من الفكر الماركسي ذاته.
لكن الماركسية اليوم خارج السلطة في معظم الحالات، وفي حالات غير قليلة صارت في المجتمع المدني. واللافت ان الماركسية التي انخرطت في المجتمع المدني بصعوبة أقل من غيرها هي الماركسية التحريفية، أعني الماركسية التي اعترضت على السلطة الشيوعية استنادا إلى القيم الإنسانية العامة (المساواة، الحرية، التسامح، حقوق الإنسان..)، وليس إلى تنويعة مختلفة عن تلك السلطة (تروتسكية، ماوية..).
اليوم، وبعد أن انزاحت الماركسية عن السلطة السياسية، فإن المرء لا يستطيع أن يكون ديموقراطيا ومعاديا للماركسية السياسية في الوقت ذاته. فالماركسية تحولت إلى حزب، مهمش في الغالب، بين أحزاب أخرى، ولم تعد «الحزب» أو «حزبنا»؛ والديموقراطي، واليساري بخاصة، هو الذي ينحاز إلى جانب المهمشين المبعدين عن السلطة.
يمكن تلخيص التغير الأساسي في موقع الماركسية بأنه تغير في الموقع من السلطة، فكرية وسياسية ورمزية. اليوم، وكما لم تعد الماركسية هي الممثل الشرعي والوحيد للمطلب العلمي، فإنها لم تعد الممثل الشرعي والوحيد لفكرة الثورة أو التغيير. ليست الحزب الثوري الوحيد ولا هي النظرية العلمية الوحيدة. ليست أيضا الحزب القائد للدولة والمجتمع، ولا الفكرة القائدة لوعينا المحتكرة للسيادة فيه.
لم تنل تحولات موقع الماركسية هذه اهتماما ذا قيمة في أوساطنا الثقافية العربية، رغم أن سيرة حياة الماركسية تشكل موقعا ممتازا للنظر في أحوال الثقافة والسياسة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. هذا يعود على الأرجح إلى هشاشة وضع المثقف العربي وافتقاره إلى الحماية المؤسسية والقيمية، وضعفه أمام السلطات السياسية والدينية والاجتماعية، وكذلك إلى الموقف الانفعالي والمتراجع للثقافة العربية ذاتها. فكأنما من تواتر الصدمات السياسية والنفسية والفكرية، ثقافتنا اليوم ذاهلة عن نفسها، متوترة في علاقتها مع غيرها، مرتبكة في تفاعلها مع الواقع. ولعل في هذا ما يفسر أننا لم نشهد، طوال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أي عمل فكري تركيبي مرموق، ولو من وزن ما شهدنا خلال عقد الثمانينيات.
الموقف الانفعالي يفسر ميل كثيرين بيننا إلى طيّ صفحة الماركسية أو مسحها من وعيهم. هذا موقف عدمي نجد نظائر له في الموقف من العروبة السياسية اليوم. وهو ايضا طباق وقرين الموقف التقديسي الذي لم يكن يرى العالم إلا بعين الماركسية أو العروبة. هذه خسارة وهدر وتبذير من ناحية، ومصدر هشاشة فكرية وعجز مستمر عن التركيب من ناحية أخرى. اعتناقنا للماركسية كمقدس يدل على أننا فارغون، لكن تخلينا عنها كضلالة يسهم في بقائنا فارغين.
يلزم أن نفكر في علاقتنا بنظم الفكر التي نعتنق، وأن نعمل على تحويلها إلى علاقة دستورية مقيدة، علاقة اندراج وتحول مواقع بدلا من سيادة حصرية أو اندثار بلا أثر. الماركسية، مثل العروبة، يمكن أن تكون طبقة من طبقات وعينا، تخضع لفعل التاريخ، وتخرج من موقع القيادة، لكنها لا تزول كأن لم تكن.
لا يكفي وعي هذا الاحتمال حتى يتحقق. وعدم تحققه ليس مسألة عدم وعي به. إنه بالأحرى مسألة سياسية واجتماعية وثقافية ونفسية. والأرجح أن العلاقة الاعتقادية مع الماركسية وغيرها تتناسب مع ضعف الحصانة السياسية والأخلاقية لمجتمعاتنا المنفصلة عن بناها الموروثة، والعاجزة حتى اليوم عن تمثل الحداثة والمشاركة في إنتاج نظمها القيمية والفكرية؛ تتناسب كذلك مع الهشاشة النفسية لثقافتنا المعاصرة، وافتقارها إلى توازنات بناءة بين المطالب الاعتقادية وضرورة والإبداع، بين الحاجة إلى أساطير جذابة وضرورة الانفتاح الفكري والنفسي، بين وظيفة الهوية وحيوية التغيير.
ثمة أفق فكري وسياسي نحتاج إلى تطوير أدوات مفهومية وعملية لاستكشافه: أفق ديموقراطية قاعدية، لا تتخلى عن الديموقراطية السياسية لكنها لا تقف عندها. إنها جهد لمنح الحريات السياسية مضمونا حيا، يستعيد مقصد السوفييتات الروسية وتجارب التسيير الذاتي الأوروبية، ويمنع الديموقراطية من التعفن، لكن دون حزب معصوم ودون عقيدة خلاصية ودون سلطة شمولية. هدف الجهد هذا ليس الاستيلاء على السلطة بل بالأحرى حيازة المقاومة. لدى الماركسية ما تقوله في هذا الشأن.

  ياسين  الحاج صالح
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...