رسائل فلوبير عن رحلته إلى مصر.. استهلاك الأحلام العادية

13-05-2006

رسائل فلوبير عن رحلته إلى مصر.. استهلاك الأحلام العادية


<خمس رسائل من مصر> هو عنوان الكتاب الذي أصدرته مؤخرا منشورات <ألف ليلة وليلة>. والرسائل هي للكاتب الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير الذي يروي فيها جزءاً من رحلته الشهيرة إلى أرض النيل. 

ربما بدأ الشاب غوستاف فلوبير يحلم بمصر حين تأمل بإعجاب، في شهر أيلول من عام ,1832 <الأُقصر> التي كانت راسية في مرفأ مدينة <روان>: كانت السفينة تحمل على متنها <المِسلة> التي وضعت فيما بعد، بباريس، في ساحة الكونكورد. في أي حال، كانت الشمس الحارقة والمنارات والمدائن تخضب، بشكل كبير، أولى كتابات فلوبير الشاب، وبخاصة حين كان لا يزال تلميذاً. على سبيل المثال، نجده يستدعي في نصه <مذكرات مجنون> (1)، <الشرق ورماله الساحقة، قصوره التي تحتشد بالجِمال ذات الأجراس المدويّة>. كذلك بدا مقتنعاً بأنه رأى <الأمواج الزرقاء، السماء الصافية (...) وبعض النساء ذوات البشرة السمراء والنظرات المضطرمة التي كانت تتكلم (ربما معه) لغة الحوريات>. في نص آخر له، بعنوان <تشرين الثاني> (2)، تخيّل غوستاف فلوبير نفسه مُخيماً في الصحراء، مشعلاً النيران كي يبعد عنه <بنات آوى>، ساقياً النوق في الواحات، أمام <الأفق المشتعل والممتد...>.
بالتأكيد لم يكن غوستاف فلوبير، الوحيد، الذي سحره سراب الشرق هذا. إذ منذ حملة بونابرت الشهيرة، أصبحت ضفاف النيل حاضرة بقوة في المتخيل الغربي، وكأنها صارت <الموضة> التي تُحتذى: بدأت تتجمع أولى سلاسل التحف القديمة في فرنسا وفي أوروبا، إذ خصّ لها شارل العاشر متحفاً بدءا من عام .1826 غداة ثورة ,1830 تضاعفت الكتابات حول الموضوع لتتطرق إلى جميع الأنواع الأدبية: كتب رحلات، دراسات تاريخية وأركيولوجية...الخ (3). حتى أننا نجد رسامين من مثل أنطوان غرو وبيير نارسيس غيران وبروسبيه ماريلا، الذين استوحوا من رسومات فيفان دونو، وقد ضاعفوا اللوحات ذات الموضوعات المصرية.
ومع ذلك كله، ينبغي الانتباه إلى أن غوستاف فلوبير لم يخطط لأن يقوم برحلته إلى بلاد النيل، بالدينامية عينها التي رحل بها إلى هناك، ذات يوم، صديقه ماكسيم دو كامب، على سبيل المثال. إذ أن هذا الأخير الذي كان عضواً في <الجمعية الشرقية> زار آسيا الصغرى وإيطاليا وشمال إفريقيا بين 1844 و1845 ليعود من هناك بكتاب تحت عنوان <ذكريات ومناظر من الشرق> (1848). من هنا حلم بأن يعود إلى هناك، برفقة صديقه، كي يزور مصر هذه، التي لم يكن يعرفها بعد. إذ سبق لهما أن سارا، على الأقدام، لشهور عدة، <عبر الحقول وعبر الترع>، وعلى شواطئ بروتاني والنورماندي عام .1847
<إن قمت يوماً بهذه الرحلة إلى الشرق، يا صديقي العزيز، فسأقوم بها معك>، هذا ما كتبه له دو كامب من القسطنطينية عام 1844 (4). في صيف ,1848 يستفيد دو كامب من عدم قدرته على التنقل، بسبب إصابته بجرح (5)، كي يستعد لرحلته الثانية. وبعد أن حدد بدقة المسار الذي يريد أن يتبعه، لدرجة أنه طبعه في دفتر، كما أخذ معه خارطة وضعها له أحد الجغرافيين. وما إن تعافى من جراحه، من أيلول إلى تشرين الثاني، حتى رحل إلى شمال إفريقيا. في العام التالي، حصل على منحة من أكاديمية <الآداب الجميلة>، كما على مساعدة من وزارة التعليم. فاشترى خيماً وحبالاً وأدوات طبية وأدوية وأسلحة ومعدات للتصوير، إذ وبسبب طموحه الذي كان يتخطى عصره في ذلك الزمن، أراد أن يعود بأدلة وبراهين عن رحلته. تم التحضير لكل شيء إذا. ومع ذلك، بقي فلوبير، وحتى اللحظة الأخيرة، متردداً في اللحاق بصديقه. من جهة كانت هناك فرصة رائعة للهرب من سأم الحياة البورجوازية، بأن <أنفض عن نفسي الضباب الشمالي> (6). ومن جهة أخرى كان مشغولاً بحالة والدته العقلية والروحية، إذ تأثرت جداً من فقدان زوجها وابنتها كارولين عام .1846 بدورها كانت والدته مشغولة بحالته الصحية الهشة، لتقف في البداية ضد كل مشروع سفر. لكن نصائح الطبيب كلوكيه (7) جعلتها توافق في النهاية. استطاع دو كامب أن يحصل لصديقه على <بعثة> من وزارة الزراعة والتجارة: كُلِّف فلوبير رسمياً بأن يقدم تقريراً حول نظام الجمارك والعملة المستعملة ووحدات القياس المستعملة كما حول الاستيراد والتصدير وكيفية طرق معيشة السكان. حتى شهر أيلول من عام ,1849 كان فلوبير مستغرقاً في كتابه <تجربة القديس أنطوان>، لذلك لم يهتم مطلقاً بالتحضير لسفره، حتى أنه لم يفرد وقتاً للاستعلام عن البلد الذي سيذهب إليه. ما إن أحس بفشل أولى أبحاثه الأدبية الجدية حتى قرر الرحيل من دون تفكير، ليذهب إلى مارسيليا مع دوكامب لكن بعد أن ودع والدته يوم 28 ولوي بوييه يوم .28
كانت المحطة المصرية، التي استمرت من تشرين الأول 1849 إلى تموز ,1850 هي إحدى أهم المحطات في رحلته بأسرها. سرعان ما نسي فلوبير المهمات الرسمية التي كلف بها: <هل تتخيلينني وأنا أستعلم في كل بلد عن المحاصيل والمنتوجات والاستهلاك المحلي؟ ما هي كمية الزيت المستهلكة وما هو محصول البطاطا؟ سحقاً!>، هذا ما كتبه في رسالة لصديقته لويز كوليه. كذلك تخلى أيضا عن كتابة يوميات رحلته مثلما كان قرر ذلك قبل انطلاقته: <بدأت في الأيام الأولى الكتابة قليلاً، لكن ولله الحمد، سرعان ما اكتشفت حماقة ذلك. الأجدر بنا أن نكون عينا ببساطة>.
وضمن ذلك كله لم ينسَ الأدب، إذ أخذ وقته في نقد المخطوط الذي كان قد أرسله له أحد أصدقائه، وهي عبارة عن حكاية رومانية. رسائله بحد ذاتها، وبخاصة تلك التي كتبها إلى بوييه، تظهر عملياً كتابياً حقيقياً أو إعادة كتابة. أما <دفاتر الطريق> فقد خدمته بكونها <دفعة> كتابية أولى. كانت الغاية منها أن تعيد تركيب، ولو من على مسافة، أحاديث الصداقة مع كراوسيه. إن فلوبير الذي أراد أن يقطع ذات يوم مع <روتين> خانق، يبدو وكأنه نادم على ذلك. لكن ما هو المقابل لذلك؟ حساب دقيق ومفصل لكل القصص التي جرت معه ومع دو كامب. من هنا لا يصدمنا وصفه بقسوته وإنما بالغضب الذي ينهكه أي يبدو وكأنه يخون نفسه حين يكتب. يبدو فلوبير وكأنه يبحث، وقبل أي شيء آخر، في ضفيرة كوتشوك هانم أو في الحمامات التركية عن <كآبات السفر التي هي ربما إحدى الأشياء الأكثر استحواذا في الرحلات>. أصابته كل الهيامات، كل أنواع الدوار بما فيها فيما لو تذكرنا كتاب بيير لوتي الذي أتى من بعده بخمسين سنة <الاندفاعات الفجائية>. لكنه كان مع ذلك واعياً لكل المخاطر التي تشكلها <تطرفات الانصهار والحلم>: <لقد أصبحت فارغاً جداً وعقيماً جداً. أشعر بذلك. يلتهمني ذلك مثل موجة متصاعدة>.
ما حمله فلوبير معه من تلك الرحلة لم يكن بالتأكيد ذلك الكيس الذي يحوي على تماسيح محنطة أو على آلات موسيقية شرقية أو ما شابه من أشياء يحملها السيّاح معهم، ولا أيضا تلك الأطر والديكورات التي أفادته فيما بعد في تركيب مناخات كتابيه <سالامبو> و<هيرودياس>. ربما حملت له رحلته إلى مصر، وبشكل خاص، <تعزيم> كل <فانتسمات> صباه الرومانسية، لصالح نظرة محددة وواقعية عن <الإنسانية>. إذ أيها أفضل وسيلة، للتخلص من الأحلام العادية، سوى أن يترك المرء نفسه داخل هذه الأحلام كي يستهلكها: <غداً سنقيم حفلة فوق المياه برفقة عدد من العاهرات اللواتي سيرقصن على إيقاع الطرابيش والأجراس والقطع النقدية الذهبية>.
لم تحمله بهاءات الطبيعة مثلما كان يعتقد، لذلك أحس <بدهشة المدن والبشر العظيمة>. <يعود ذلك، من دون شك، إلى ما لم أكن أحلم به>. من هنا وبعد عودته إلى كراوسيه، لم يحاول أن يكتب قصة سلطانة ما أو أميرة ما بل قصة فتاة ريفية تعيش بدورها في الأحلام (أقصد روايته <مدام بوفاري>). كذلك لم يجعل من بلاد النوبة الإطار الذي تدور فيه الأحداث بل جعلها في قرية نورماندية بعيدة جداً.
(1) أعتمد على النص الذي أصدرته منشورات <ألف ليلة وليلة> عام .1998
(2) صادر عن الدار عينها عام .2001
(3) من بين الأمثلة العديدة التي يمكن أن نذكرها هناك بالطبع كتاب <مسار من باريس إلى القدس> لشاتوبريان (1811)، لكن هناك أيضاً <رحلة في مصر الخفيضة والعالية> لفيفان دونو (1802)، <رسائل كتبت من مصر ومن النوبة> لشامبوليون (1833)، <مصر عام 1845> لفيكتور شولشير ونصوص جيرار دو نرفال التي صدرت عام 1846 والتي جمعت في كتاب بعنوان <رحلة إلى الشرق> عام .1851
(4) وفق ما أورده أنطوان يوسف نعمان في دراسته حول <رسائل من مصر> لغوستاف فلوبير (منشورات <نيزيه> 1965) وهي الدراسة التي أعتمد عليها هنا في المعلومات الواردة في هذه المقالة.
(5) في 24 أيار من عام ,1848 وخلال مشاركته في تظاهرة أمام المجلس الوطني، تعرض دو كامب لطلق ناري أصاب قصبة ساقه.
(6) من رسالة لفلوبير أرسلها إلى صديقته لويز كوليه مؤرخة يوم 25 حزيران .1853 ولحظة سفره إلى الشرق كان فلوبير قد قطع علاقته بلويز كوليه منذ عام، استمرت صداقتهما ما بين 1851.1854
(7) كان فلوبي قد جاب مع الطبيب كلوكيه عام 1840 جبال البيرينيه كما جزيرة كورسيكا.

 اسكندر   حبش
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...