هل الدين علم؟

29-04-2019

هل الدين علم؟

يقول قائل: الدين ليس علمًا، وإنما هو تجربة شخصية تخص كل إنسان على حدة، أو هو تصديق بأمور غيبية لم يقم عليها الدليل. وتحويل الدين إلى علم يزري بالعلم وبالدين، وهذه المحاولة لتعقيد الدين وتقعيده إنما هي محاولة من رجال الدين لخلق شفرة سرية معقدة (Secret body of knowledge) تجعل الناس في احتياج إليهم للتعامل مع النصوص، وتبعا لذلك تكسبهم قدرًا من التسلط على الناس.

نقول: لو قلت لك: «أسامة إنسان» فمعنى هذا الكلام أن أسامة هذا مندرج تحت أمر ما (وهو الإنسان في هذه الجملة)، وبذلك يصح أن نخبر عن أسامة فنقول: «إنسان»، ولهذا يسمى ركن الجملة خبرًا في اللغة العربية لأنه يُـخبَر به. وكذلك لو أخبرت عن التفاح بأنه فاكهة، أو عن الجو بأنه حارٌّ، أو عن الفيزياء بأنها علم، أو عن الشجاعة بأنها صفة كريمة. فلو نظرنا إلى السؤال الذي هو موضوع المقال، فإننا نسأل أنفسنا: هل يصح وصف «الدين» بأنه «علم»؟

 وللإجابة عن هذا السؤال نقول: لا بد أن نعرّف معاني هذين اللفظين، فنعرف: ما المقصود بالدين؟ وما المقصود بالعلم؟ قبل أن ننظر في مدى انطباق كل منهما على الآخر.

العلم: ما هو؟

أتذكر وقت تقديمي للدراسة الجامعية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة أننا أخذنا ورقة فيها التخصصات التي تقدمها الجامعة، وكانت الورقة مقسومة لقسمين: علمي Science، وغير علمي (Non-science). وكان القسم العلمي يضم تخصصات كالفيزياء والكيمياء والأحياء والهندسة، والقسم غير العلمي يضم تخصصات كإدارة الأعمال، والاقتصاد، والتاريخ، والفنون.

فالعلم في هذا الإطلاق الذي تضمه هذه الورقة، والذي يسمّى science قد أطلق على العلوم الطبيعية التي مبناها على التجربة (Empiricism) وعلى تطبيقاتها كالهندسة. وهناك من يطلق العلم على مطلق الإدراك، وهناك من يطلق العلم على الإدراك القطعي الجازم، وهناك من يدركه على الإدراك القطعي الجازم المبني على دليل صحيح، وهناك من يعرفه بأنه الإدراك الجازم المبني على التجربة، إلى غير ذلك من الإطلاقات. فنحن هنا إنما نهتم بالمعاني أكثر من اهتمامنا بالألفاظ.
 يقول كَتَبَة «موسوعة ستانفورد للفلسفة – Stanford Encyclopaedia of Philosophy»  وهي أحد أكبر الموسوعات في الفلسفة وفلسفة العلوم: «إن لفظ (العلم – Science) باستخدامه الحالي أصبح شائعًا فقط في القرن التاسع عشر. قبل ذلك الحين، كان ما نسميه اليوم بالعلم science يسمى بالفلسفة الطبيعية [أو بالطبيعيات] Natural philosophy أو الفلسفة التجريبية [أو المجرّبات] Experimental Philosophy».

ثم ذكرت المقالة تعريفات كثيرة منها تعريفًا لويليام ويويل يعود إلى كون العلم خاصًا بالكون الطبيعي المشاهد مقتصرًا في تفسيراته على التفسيرات الطبيعية (وهو ما يسمى بالـMethodological Naturalism والتي لا تقرر شيئًا بخلاف الأمور المشاهدة، ولكنها تقتصر في تفسير الكون المشاهد على الأسباب المشاهدة). وذكرت كذلك تفرقة لكارل بوبر بين العلم والدين بأن الفرضية العلمية –بخلاف الدينية- يجب أن تكون قابلة للنقد (Falsifiable).

ولو قصرنا مفهوم «العلم» على الموضوع الذي هو البحث في الأمور الكونية من جهة ما بينها من ارتباطات سببية تؤدي إلى ترتبات معينة في الكون –كما تدرسه علوم الفيزياء والكيمياء- فإننا نعتقد أن الدين لا يندرج تحت مفهوم العلم بهذا التعريف.
 لكننا مع ذلك نقول: أن الأليق بلفظ العلم أن نطلقه على تعريف آخر، وهو:

إدراك معارف يجمعها موضوع معين، بحيث يكون الإدراك مطابقًا لما هي عليه في الواقع بحيث تكون هذه المعرفة قابلة للإثبات بإقامة أدلة عليها وقابلة للنقض بإبطال هذه الأدلة.

ونحن نقول: إن كل إدراك إنساني، ينتظمه موضوع جامع، متأسس على فرضيات قابلة في نفسها للإبطال والنقض، ولكن دل دليل جازم على ثبوتها؛ فإن هذا الإدراك يسمى علمًا، وإن القادر على معرفة هذه الإدراكات، وإقامة الأدلة عليها، ومناقشة المخالفين له ونقض حججهم، يسمى «عالمًا».

وهذا التعريف يشمل ما كان موضوعه الموجودات المادية كعلم الطب الذي موضوعه هو جسم الإنسان، ويشمل ما كان موضوعه حال الجماعة اللغوية المعينة كعلم النحو الذي يدرس قواعد تركيب الجمل في الكلام العربي، ويشمل كذلك الحقائق غير المادية، وكنا ذكرنا من قبل قدرة العقل على الاستقلال بإدراك معارف وحقائق زائدة على المحسوس[1]، وتُبحث هذه في مباحث الميتافيزيقا في الفلسفة.

وكل معرفة هذا حالها- أي أنها مبنية على أدلة قابلة للمناقشة والنقض- هي معرفة شريفة كاشفة عن الواقع جديرة بالاتباع والنشر. وإنما تنقسم العلوم أقسامًا بعد ذلك بحسب موضوعاتها وغاياتها.

الدين: ما هو؟

لابد أن نفرق في هذا المقام بين: الدين، والتديّن.

فإذا نظرنا إلى معنى الدين، ونظرنا إلى دين كدين الإسلام مثلًا، وجدناه يرجع إلى ما جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم) مخبرًا عن الإله الخالق سبحانه وتعالى. وأن هذا الذي جاء به النبي إما أخبار (كإخباره عن وجود حياة أخرى وحساب بعد الموت)، وإما أحكام (كترتيبه الثواب الأخروي على فعل إنساني كالصلاة والصوم وكفالة الأيتام ومساعدة الفقراء، أو العقاب الأخروي على أمور كالكفر والسرقة والزنا وشرب الخمر).

هذا هو الدين من حيث هو؛ أي أنه مفهوم الدين في حد ذاته. أما ممارسة إنسان ما للدين، بمعرفته لما أخبر عنه النبي من أمور غيبية، وعمق تصديقه لهذه الأخبار، وامتثاله للأحكام الدينية من فرض وسنة ومكروه وحرام ومباح، هذه الممارسة بطبيعتها تتصف بأمرين:

 أولًا: أنها شخصية تمامًا. فهي شخصية من حيث الممارسة (فالإيمان والعمل الصالح إنما يقومان بكل إنسان على حدة)، وهي شخصية من حيث النتيجة والجزاء (وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا).

ثانيًا: أنها في جوهرها أمر بين الإنسان وبين ربه، إذ لا سبيل لإنسان آخر بالاطلاع عليها كاملة. فإنك لو رأيت إنسانًا يصلي مثلًا، فإنك وإن كنت مطلعًا على أفعال الصلاة، فإنك غير مطّلع على النية التي هي ركن أساسي تبطل الصلاة بدونه، والنية محلها القلب لا يطلع عليها إلا الله.

فلا شك أن التدين: هو فعلا تجربة شخصية روحية، وعلاقة بين العبد وربه.

ولكن إن عدنا إلى نفس الرسالة التي جاء بها النبي، والتي عرفناها بأنها دين، وعلمنا أنها جاءت بأخبار معينة، وبأحكام معينة. فإننا نسأل أنفسنا عن التعامل مع هذه الرسالة ودراستها، هل تصح أن تسمى علمًا؟ قد قلنا أن الدين نفسه وقيامه بالإنسان المتدين ليس علمًا، لكن هل نسمي دراسة الدين علمًا؟

نعم، لو قصرنا العلم على البحث في الطبيعيات عن طريق التجربة فلا شك أن الدين خارج عن العلم بهذا المفهوم. أما إذا كان لفظ العلم محمولًا على المعنى الذي قدمناه، من إدراكات بشرية ينتظمها موضوع واحد، له أدلة تؤدي إلى إثبات مسائله، وتقبل النقض والرد في نفسها لولا هذه الأدلة، فإن ذلك يسمى علمًا. وهو منطبق على المعارف الدينية.

ولنبدأ الآن ببيان كيف ينتظم كل علم من العلوم الدينية في موضوع، وكيف تتصف مسائله بالقابلية للنقض، وما هي أنواع الأدلة التي تثبت تلك المسائل. ثم نثنّي بعد ذلك بحكاية تطور هذه المعارف على مر الليالي والأيام.
العلوم الدينية

من العلوم الدينية «علم العقائد»، وله موضوع محدد وهو الإله، والنبي، وإثبات رسالته. فيبحث في المعلوم والموجود من حيث إنه يتعلق به إثبات مبدأ للكون، وفيه نظرات مرتبطة بالطبيعة، وكذلك من حيث كونها موجودة فالنظر فيها أنطولوجيًّا، كمباحث الوجود والعدم، والماهيات، والعلية، ونظرات في نظرية المعرفة (الإبستمولوجي)، كمباحث النظر، وإفادته للعلم، ومراتب العلوم قطعًا وظنًا، وغيرها.

فالكون موجود، يمكن عقلًا أن يكون قائمًا بنفسه، ويمكن أن يكون مستندًا إلى خالقٍ خلقه.


وعلم العقائد يبحث في هذه الذات الإلهية: هل هي موجودة؟ وما دليل وجودها؟ وهل هي واحدة أم متعددة، متصفة بالصفات كالعلم والقدرة والإرادة، أم هي قوة عمياء من قوى الكون؟ ويشترك هذا العلم مع غيره من العلوم التي تبحث عن الموجودات من حيث هي موجودة، كما هو الحال في الميتافيزيقا في الدراسات الفلسفية.

وأدلة هذه المباحث مركبة من الاستدلال العقلي والمشاهدة الحسية، ليحصل بها إثبات وجود الله، وأدلة مركبة من العقل والمشاهدة والخبر التاريخي القطعي، لإثبات نبوة النبي وكون القرآن من كلام الإله، لا من كلام النبي.

ثم بعد إثبات وجود الإله وصدق دعوى النبوة، فإننا نستدل بالخبر الإلهي عن الغيبيات التي لا تقع تحت دائرة المشاهدة كالآخرة والحساب والجنة والنار. ولا شك أن كل مسألة من مسائله قابلة للنقد بإبطال الأدلة التي يتأسس عليها أو مقابلتها بأدلة أخرى. فقولنا: «الإله موجود قضية قابلة للإثبات والنقض في ذاتها، ومن أدلة ذلك كدليل يسمى في علم العقائد (دليل الحدوث) وكـ(دليل الإمكان)»، هي أدلة عقلية منطقية تنطلق من وجود الكون ليثبت به عقلًا افتقاره إلى خالق، وغير ذلك من الأدلة.

ومن العلوم الدينية «علم أصول الفقه». وهو يبحث، بعد إثبات وجود الإله وصدق النبي في علم العقائد، في الأدلة الإجمالية للأحكام الدينية. فيبحث في ما يصح أن يكون حجة في الدين وطريقًا لمعرفة حكم الله تعالى في المسألة، كالقرآن والسنة والإجماع والقياس، وأدلة ذلك، وهل هناك أدلة شرعية مختلفة أم لا؟


وكذلك يناقش قضايا عن أصل التشريع ومصادره، فيناقش مثلًا الأعراف المختلفة على مدار الزمان والمكان، وعلاقتها بالأحكام الشرعية. ويُناقش قضايا مثل التكليف والأهلية وعوارض الأهلية، وغير ذلك من المباحث التي تُبحث في كليات الحقوق عامة، وفي تخصص فلسفة التشريع (philosophy of jurisprudence) خاصة. ويبحث أيضًا عن أفعال النبي وما يتوجب في الدين اتباعه وما هو فعل خاص بالنبي يحرم اتباعه فيه، وبين ما هو فعل بشري لا يجب اتباعه ولا مخالفته.

وبعد أن يثبت هذين المصدرين إجمالًا، يتوجه للبحث عما ينسب إليهما تفصيلًا، فإن كنا أثبتنا أن هناك قرآنًا أوحاه الله إلى نبيه (صلى الله عليه وسلم)، فما الذي ينسب إليه وما لا ينسب؟

وللإجابة عن هذا السؤال نشأ علم «القراءات»، لتوثيق نسبة كل كلمة بل كل حرف وكل شكلة إلى القرآن. فموضوع علم القراءات هو: الكلمات القرآنية.

وإن كنا أثبتنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بيّن الشرع بقوله وفعله وتقريره، فما الذي ينسب إلى هذا البيان المسمى بالسنة وما لا ينسب؟

وللإجابة عن هذا السؤال نشأ علم «مصطلح الحديث» (الذي يبحث في طرق توثيق الأخبار) وعلم أخبار الرجال والجرح والتعديل (الذي يبحث في تاريخ رُواة الخبر ومصادر الرواية)،لبيان ما يعلم صدقه وما يظن وما يعلم كذبه وما يظن مما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

 فموضوع علم الحديث: هو ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلُقية أو خَلْقية. فالحديث هو علم توثيق ورواية، كذلك علم القراءات القرآنية.

فجزء الرواية لا شك أنه نوع علم، وجزء التوثيق علم كذلك، وجزء المصادر وأنواعها هو علم كذلك تدرس مباحثه في الغرب في علم الــ«Historiography» فهو لا يختلف كثيرًا عن التوثيق في أي علم رواية، فليس له تميز في نفسه من حيث كونه شرعيًا.

نعم للمسلمين فيه مباحث متقدمة حسنة جدًا وسبقوا غيرهم بكثير، لكن هذا في أغلبه لم يأخذوه من نفس الشرع.

فإذا ثبتت صحة هذه النصوص المنقولة إلينا: إما على السبيل القطع، وإما على سبيل الظن الغالب؛ يبدأ الباحث في بحث منهج تفسير هذه النصوص وكيفية استفادة الأحكام منها، فيبحث في لغة هذه النصوص مفرداتها وتراكيبها، فنشأ علم «متن اللغة» (البحث في معاني الألفاظ) و«علم الصرف» (البحث في بنية الألفاظ ودلائل هذه البنية) و«علم النحو» (البحث في تركيب الـجُمَل) و«علوم البلاغة» (وهي تبحث في دلالة النصوص وكيف تطابق مقتضى الحال)، ويبحث في المنطوق والمفهوم، واللفظ العام الدلالة واللفظ الخاص الدلالة، واللفظ المطلق واللفظ المقيد، وغيرها من مباحث اللغوية المتعلقة بدلالات الألفاظ، التي تدرس بتعمق أكثر في علم «أصول الفقه».

وكذلك يُبحث عن دلالات الألفاظ والجمل على المعاني، من حيث المفردات والتراكيب المستعملة، وأثر السياقات والقرائن في الكشف عن المعاني، وما في ذلك من مذاهب لغوية شتى.

فعلوم اللغة مثلًا – وإن كانت ليست شرعية بالاصطلاح – هي علوم لغة مثل غيرها من علوم اللغة، فلا ينبغي النزاع في علميتها، ولا نزاع في كون الرجوع إلى تفسير الكثير من قضايا الدين إلى قضايا لغوية، حتى قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي:

إنا لو فرضنا مبتدئًا في فهم اللغة العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطًا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة[2]. فإذا ثبتت المصادر ووضح منهج تفسيرها واستفادة الأحكام منها استنبطت الأحكام ودونت. فدونوا علوم العقائد والفقه وتزكية النفس أو التصوف. والأول يبحث في الأحكام الدينية المعرفية، والثاني يبحث في الأحكام الدينية العمليّة، والثالث يبحث في الأحكام الدينية الخلقية.

فعلم الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العلمية المستنبطة من الأدلة التفصيلية، فمن ثم فهو مبني على كثير من العلوم، منها: الحديث والقراءات، ومنها الأصول، لمعرفة (ما الأدلة، وتوثيق النصوص المُستدل بها) ومنها اللغة، لفهم الخطاب.

غير ما فيه هو نفسه من قواعد وضوابط، فمن يريد أن يفهم الفقه دون هذه العلوم – يعني يستخرج الأحكام دون توثيق النص أو دون فهم لغته –فهو أحمق ومبتدع ابتداعًا شديدًا.

والفقه نفسه علم قريب من علم القانون، فيُبحث فيه مثلًا عن نظرية الملكية، وأسبابها وخصائصها، وعن نظرية العقود، وقوام العقود، وشرائط انعقادها، والعيوب في المعقود عليه، والعيوب المؤثرة في الرضا، وآثار ذلك، ويبحث عن سلطان الإرادة العقدية، ونظريتي البطلان والفساد، ونظرية الأهلية والولاية والنيابة، ونظرية العرف، وغير ذلك من النظريات المختلفة[3]، والظن بأن القانون لا يحتاج لدراسة هو حمق وجهل.

والفقه موضوعه أفعال المكلفين، ومباحثه تتكلم على معاني وصور، معاني طُلب شرعًا إقامتها، وصور لتلك المعاني، المعاني قائمة متحققة فيها قائمة بها، ومن ثم كان الفقه متداخلًا مشتبكًا مع الواقع، وكان دور الفقيه هو معرفة المعاني دون الجمود على الصور فتفوته المعاني، وذلك لا يكون إلا بالتبحر والتعمق في فهم المسائل، والنظر في الاستدلالات التي قدمها الفقهاء، وتتبع الفروع المنبثقة عن ذلك، وما في ذلك من جهات نظر مختلفة، واعتبارات ودقائق، وبذلك تُفهم مآخذ الأحكام، ونستطيع أن نشتبك مع كل عصر محافظين على المعاني الأصلية التي جاء الشرع بطلبها، مقيمين لها؛ أي بخلاف من يجمد على عبارات العلماء السابقين، دون أن يفهم حقيقتها، فينسب إلى الدين أمورًا، وهي عند التحقيق ليست منه، فيفتن الناس في دينهم ويصدهم عن سبيل الله.

وبخلاف من يقفز مستقلًا بالفهم متجاهلًا كل ما قُدم من بحوث ودراسات من قبل العلماء الكبار، فهو كمن لم يدرس شيئًا في القانون، ولا طالع نظرياته وتطبيقاتها، ولا تمرّس في صياغات المحامين للقعود الدقيقة، ولا حضر جلسات مناقشته في البرلمانات أو المنازعات وقضايا حول متعلقاته في المحاكم ولا فهم لوازمه وتبعاته، ثم تجده – لأنه يستشكل بعض الأمور فيه – يريد مثلًا طرح قانون تنظيم تملك العمران، أو قانون العمل كله، ويحسب أن ما يجيء به من بنات أفكاره بادي الرأي فيه صلاح الدنيا والآخرة!

فعلوم الدين لها أصول (وهي إثبات وجود الإله وصحة دين الإسلام)، ولها فروع (وهي الأحكام والتكليفات التي جاء بها الدين). وهذه الأحكام لها مصادر بعضها متفق عليها وبعضها مختلف فيها (كالقرآن والسنة والإجماع والقياس ، وكسد الذرائع، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا)، ولها وسائل (وهي المنطق واللغة)، ولها نتائج (وهي الأحكام الاعتقادية والعملية والخلقية).

الحكاية.. أو كيف نشأت هذه العلوم؟ وما بواعثها؟

كان العرب أمة أميّة في غالبها، لا يكتبون ولا يقرأون، وامتازوا ببلاغة الكلام وجودة الحفظ وأخلاق كريمة كالنجدة والشجاعة، ولكن قد ضرب بينهم داء الفرقة ودامت بينهم الحروب الكثيرة. ولم يكونوا مهتمين بالعلوم كأمم أخرى كالفرس والإغريق وقدماء المصريين.


فبعث الله فيهم نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) فحثّهم على العلوم وحفّزهم عليها، سواء في علوم الدنيا أو علوم الدين. فمن المشهور المعروف أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتدي الأسير بتعليمه عشرة من المسلمين للقراءة والكتابة، وكان يأمر الصحابة بتعلم اللغات كما أمر الصحابي العبقري زيد بن ثابت أن يتعلم العبرية فتعلمها في 17 يومًا، وكان يثني ثناء مطلقًا على العلم والتعلم، ويثني ثناء خاصًا على تعلم علوم الدين والتفقه فيها.

فكان يقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين». وقال صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء»، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء». وقال صلى الله عليه وسلم في تفضيل العلم على العبادة: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي»، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما عبد الله تعالى بشيء أفضل من فقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه».


والذي يعنينا من هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم جعل الفقه في الدين أمرًا زائدًا عن مجرد التدين، وقد أثنى على بعض أصحابه فقال: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل»، وأنكر إنكارًا شديدًا على بعض الصحابة حينما أمروا رجلًا مصابًا في رأسه بالغسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده».

وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن كل فعل بشري فلله تعالى فيه حكم «الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم»، فلما كانت النصوص محدودة، والأفعال البشرية غير محدودة؛ كان لابد من الاجتهاد. وقد بين النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك لما أرسل سيدنا معاذ بن جبل إلى أهل اليمن ليعلمهم فقال: «كيف تقضي فيهم؟ فقال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم».


وقد كان العرب قومًا فصحاء بلغاء، وقد نزل القرآن بلغتهم، فلم يكونوا بحاجة إلى تعلم اللغة لأنها لغتهم التي بها يتكلمون. نحن نتعلم في النحو العربي مثلًا أن الأسماء الخمسة (أبو وأخو وحمو وفو وذو) ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء، وقد حكى أحد علماء اللغة الأقدمين أنه نزل بادية العرب فوجد طفلة صغيرة تحمل قربة ماءٍ وكان فم القربة يقطر ماءً عليها، فصرخت بأبيها: «يا أبتِ.. أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها». فانظر كيف كانت هذه اللغة وقواعدها سليقة حتى عند أطفالهم. فلما نزل القرآن بلسان عربي مبين؛ فهموه ولم يحتاجوا فيه إلى ترجمان.


وقد حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) في حياته على جمع القرآن وكتابته، وصرف كل جهده في البداية إلى حفظ هذا الكتاب الذي أصبح روح هذه الأمة الوليدة ومصدر إلهامها وتهذيبها بالأخلاق والدين والقانون. وكان بعض الصحابة، منهم زيد بن ثابت، ذلك الفتى العبقري الذي أتقن اللغات وتعلم العلم في سن الشباب، ملتزمين بكتابة القرآن في الرقاع المتوفرة للكتابة في زمانهم، وكانوا يتركون نسخة من كتابتهم في بيت النبي (صلى الله عليه وسلم). ولم يكن النبي قد جمع القرآن في مصحف واحد لأن الآيات كانت تنزل، وقد نزلت آخر آية قبل وفاة النبي بتسع ليال.


فما مات النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا وقد حفظ القرآن جمع كبير جدًا من الصحابة، حفظوه نصًّا من غير كتابة، بل بالتلقي والحفظ الذي امتازوا به. وانتشر القرآن وعلّموه أبناءهم وتواتر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بالحفظ والرواية. ولا شك أن اتفاقهم على نقل نفس الكتاب، رغم أنهم كانوا يحفظونه حفظًا، ورغم ما حصل بينهم من فتن وحروب، يدل دلالة قاطعة على صدق نقلهم للقرآن عن النبي (صلى الله عليه وسلم).


ثم إنهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) عهدوا في عهد أبي بكر الصديق إلى زيد بن ثابت بمهمة نسخ نسخة جامعة من القرآن، فيها تجميع ما كان قد كُتب في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، الموافق لما هو منقول تواترًا، فهذا عمله لتوثيق الكتابة، والقرآن ثابت قبل هذا بتواتر الجمع الكبير من الرُواة على نقله، واتفاقهم على النقل كلمة كلمة وحرفًا حرفًا. وما روي عن بعضهم من طول بعض السور وقصرها فإنما هو هو لعدم فصلهم بين سور كالأنفال والتوبة مثلًا، فكانوا يعدونها سورة واحدة.


كما أن كل عملية علمية تبدأ بجمع المادة ثم العمل على تحليلها ودراستها، فكذلك بدأت الأجيال الأولى لعلماء الإسلام بالتصدي بمهمة الجمع، فبعد أن كتبوا القرآن وحفظوه وعلموه أولادهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جمعوه بين دفتين في عهد أبي بكر، ثم وحدوا طريقة الكتابة وكتبوا المصاحف الأمهات لينقل الناس عنها في عهد عثمان، وكذلك انصرف الصحابة إلى رواية السنة النبوية، وكتابتها في كتب وصحائف كثيرة.


وكان الصحابة يهتمون بالنقل حتى يستقر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، ولأنهم كانوا أهل علم باللغة، وكانوا يعيشون في نفس سياق الآيات فيكتفون لفهمها بمجرد سماعها.

وبدأ التطور العلمي على حسب ما يجِدُّ من إشكالات علمية، ويبني اللاحق على جهد السابق كما في أي منظومة علمية. فعلوم اللغة لم تكن هناك حاجة إليها في ذلك العصر؛ فالصحابة هم العرب الأقحاح، وإنما عنّت الحاجة إليها لما فُتحت بلاد غير العرب ودخل بعضهم في الإسلام وبدأ لسان العرب يفسد. وكذلك علوم النقل: علم القراءات وعلم الحديث؛ لأنهم كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم مشافهةً، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي؛ احتاج المسلمون للتوثق من النقل، فنشأ علم الرواية.

ومن القصص الجميلة التي تحكى في بيان كيف كانت العلوم بنت الحاجة التي دعت إليها، أن الإسلام لما انتشر بين غير العرب وتأثر اللسان العربي بمخالطة غير العرب فحصل بينهم الخطأ في اللغة، فكان أبو الأسود الدؤلي –أحد العلماء الكبار- يمشي مع ابنته في الصحراء مساء، فنظرت إلى السماء وقالت: «ما أجملُ السماء»، فقال أبو الأسود – وقد ظن أنها تسأل-: «نجومُها»، فقالت: «إنما أتعجّب»، فقال: «إذن قولي: ما أجملَ السماء»، ثم ذهب إلى سيدنا علي بن أبي طالب وحكى له كيف وصل الخطأ في اللغة إلى بيته، فأشار عليه سيدنا علي أن يكتب، فقال: «اكتب لهم أن الكلمة اسم وفعل وحرف وانحُ هذا النحو» أي: سر في هذه الطريقة. ومن هنا بدأ التأليف في علم النحو وسمي بهذا الاسم.

كذلك كان الصحابة غير منشغلين بالمناقشات الفلسفية والمحاورات المنطقية لرسوخ إيمانهم بمخالطتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم للمعجزات، فلما ظهرت الفرق، وقالوا بمقولات جديدة في أمور دينية ناظرهم الصحابة. وننقل هنا محاورة بين الصحابي الجليل عبد الله بن عباس وبين الخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي:


قلت: أخبروني ماذا نقمتم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟


قالوا: ثلاثًا!


قلت: ما هن؟


قالوا : أما إحداهن فإنه حكم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى: «إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ» (الأنعام آية:57)، وما للرجال وما للحكم.
فقلت: هذه واحدة


قالوا: وأما الأخرى فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فلئن كان الذي قاتل كفارًا لقد حل سبيهم وغنيمتهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم


قلت : هذه اثنتان فما الثالثة؟
قال: إنه محا نفسه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: أعندكم سوى هذا؟
قالوا: حسبنا هذا.

فقلت لهم: أرأيتم أن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد به قولكم أترضون؟ قالوا: نعم

فقلت: أما قولكم حكَّم الرجال في أمر الله، فأنا عليكم ما قد رد حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم في أرنب ونحوها من الصيد فقال : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» (المائدة آية: 95)، إِلَى قَوْلِهِ: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ» (المائدة آية 95)، فنشدتكم الله أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟ وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال. وفي المرأة وزوجها قال الله عز وجل: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا» (النساء آية 35)، فجعل الله حكم الرجال سنة مأمونة، أخرجت عن هذه؟

قالوا: نعم

قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة ثم يستحلون منها ما يستحل من غيرها، فلئن فعلتم لقد كفرتم وهي أمكم، ولئن قلتم ليست أمنا لقد كفرتم، فإن الله يقول: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» (الأحزاب آية 6) فأنتم تدورون بين ضلالتين أيهما صرتم إليها صرتم إلى ضلالة.

فنظر بعضهم إلى بعض قلت: أخرجت من هذه؟

قالوا: نعم

وأما قولكم: محا اسمه من أمير المؤمنين فأنا أتيكم بمن ترضون ورأيكم، قد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين: «اكتب يا علي هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله. فقال المشركون: لا و الله ما نعلم أنك رسول الله لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنك تعلم أني رسول الله اكتب يا علي هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله»، فو الله لرسول الله خير من علي وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه[5].

وكذلك نشأت المحاورات العقائدية في مجلس الحسن البصري من التابعين، واستمرت مع تطور الفكر الكلامي الإسلامي عبر العصور.

وهنا يسأل سائل: ألم يكن للدولة تدخل في هذه المراحل مطلقًا؟

والجواب: لا شك أنها كانت تفعل. فإن صاحب الدولة والسلطة يسعى لتثبيت أركان دولته بشتى الطرق، ومنها نصرة مذهب على مذهب ورأي على رأي بما يفيد مصلحته الحالية. ولكن هذا لا يؤثر مطلقًا في كون هذا الرأي الذي تتبناه الدولة حقًا في ذاته أو باطلًا. وإنما يعرف ذلك بالبحث العلمي. فقد تجد الدولة أن مصلحتها الحالية الآنية في نصرة مذهب حق، فتنصره، ولكن هذا المذهب لم يستمد كونه حقًا من هذه النصرة، وإنما استمدها من الدلائل استند إليها. نعم، قد ينتشر مذهب ما بسبب قبضة الدولة وسلطتها، ولكن هذا –أيضًا- لا يدل على أنه حق، كما لا يدل على أنه باطل، كل ما يدل عليه أنه تقاطع مع مصلحة آنية للسلطة لسبب أو لآخر.

فلا ينبغي للعاقل أن يحكم على حقية الشيء أو بطلانه بنصرة هذا وعداء ذاك، وإنما ينبغي أن يكون حكمه مبنيًّا على أسس وقواعد ودلائل.

فالدولة العباسية مثلًا في عهد المأمون تبنت مذهب المعتزلة، وامتحنت العلماء في ما يعرف بفتنة خلق القرآن. والدولة الأيوبية مثلًا تبنت المذهب الأشعري وحاربت مذهب الشيعة في مصر بعد سقوط الخلافة الفاطمية. فهل الحق هو الذي أيدته الدولة، أم هو الذي عادته

نقول: الحق هو الذي يوصل إليه الفكر السليم، بقطع النظر عن تبني السلطة أو معاداتها.

تطوّر العلم من الرواية إلى التقعيد، وكان تطوره بحسب احتياجات البشر ودخول الناس في الدين. ونشأت المذاهب الفقهية مثلًا نتيجة اختيارات منهجية اختارها كل إمام من الأئمة. وانتشر تأليف الكتب، وذاعت معاهد العلم، وامتلأت المساجد بالمناظرات في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة، واكتملت الشخصية العلمية للعلوم الإسلامية مع استقرار الدولة وانتشارها وقوتها. ثم حدث أمر مهم جدًا وله أثر كبير في المسيرة العلمية للعلوم الإسلامية. إن ذلك الأمر هو: حركة الترجمة للعلوم اليونانية وغيرها.

كان من آثار الحضارة وانتشار المسلمين في أوساط أقوام وثقافات ومناطق شاسعة، أن بدأت حركة الترجمة للعلوم والمعارف الإغريقية والهندية والصينية، فنقلت كتب أرسطو وأفلاطون وبطليموس ونقلت علوم الهنود وغيرهم من الأقوام. وكشأن أي جماعة بشرية، انقسم المتدينون وعلماء الدين إلى فرق: فمنهم المحافظون الذين رفضوا هذه الترجمات لما اشتملت عليه من عقائد وثنية، ومنهم المتسرعون الذين تبنوا هذه العلوم الوافدة من غير نقد، ومنهم النقاد الأفذاذ الذين شمروا ساعد الجد، ونظروا نظرًا نقديًّا في هذه العلوم واستفادوا منها وأضافوا عليها لتكمل مسيرة العلم. ولأن تلك المعارف ترجمت في عصر كانت الشخصية العلمية للعلوم الإسلامية قد اكتملت، فقد استطاعت أن تصمد أمام هذه العلوم وتستفيد منها، وتنقد ما يعارض الدين منها.

قال الإمام فخر الدين محـمد بن عمر الرازي رحمه الله: «روي أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يومًا: ما الذي تقرؤونه، فقال: أفسر آية من القرآن، وهي قوله تعالى: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها [ق: 6] فأنا أفسر كيفية بنيانها. ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلًا في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علمًا بجلال الله تعالى وعظمته».

وبهذا الفهم ازدهرت الحضارة، وتطور العلم، والفن، والجمال.

وظل اللاحق يبني على علم السابق، وينقده ويضيف عليه. فهذا الغزالي يكتب كتابه: «تهافت الفلاسفة»، فيرد عليه ابن رشد بكتابه «تهافت التهافت»، ويقوم بمحامكات بينهما خواجه زاده في «تهافت الفلاسفة». وهذا النووي والرافعي عَلمي المذهب الشافعي يؤلفان الكتب فيأتي العلامة الإسنوي يكتب كتابًا بعنوان: «المهمات»، أسماه «بالتناقض الكبير» يرد فيه على النووي والرافعي، ثم جاء تلميذ الإسنوي ابن العماد الأقفهسي فرد على شيخه في كتاب «التعقبات على المهمات»، وهذا الرازي يرد على ابن سينا، والطوسي يرد على الرازي والتفتازاني يرد على الطوسي. وتنشأ مدرسة نحوية في البصرة وأخرى في الكوفة، فيأتي العلامة اللغوي ابن الأنباري فيكتب: «الإنصاف في مسائل الخلاف».

ويُملي الحافظ ابن الصلاح مقدمته في أصول الحديث لما فيها من شتات العلم، فيقول عنها الحافظ ابن حجر العسقلاني: «فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر»[6].

وهكذا يستمر العلم وينمو.

ومن قرأ في كتب العلماء القدماء وجدها مشحونة بأخلاق العلم وبأنماطه الاستدلالية. فهذه القاعدة العلمية التي شحنوا بها كتبهم تقول: «إن كنت ناقلًا فالصحة، أو مُدّعيًا فالدليل»، وهذه القاعدة الأخرى تقول: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والإمام الشافعي يقول: «ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، فإنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتًا فيما اعتقده من الصواب، ويبلغ في ذلك غاية جهده وينصف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك، ولا يكون بما قال أعنَى منه بما خالفه حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك»[7].


وهذا الغزالي يقول عن طالب الحق:

إن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه. ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا. ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له[8].. وينكر على المتعصبين حيث يقول: إن التعصّب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار[9].. ويقول في ضرورة التعمق في العلم لإمكان الحكم عليه وتخطئته: لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم[10].وهذا الفخر الرازي يبين أن منهجه التحقيق والتدقيق واتباع الحجج والأدلة، لا مجرد موافقة المشهور وما عليه الجمهور، فيقول:

ويكون الترتيب على أن نفصِل المطالب بعضها عن البعض، ثم نردفها إما بالأحكام وإما بالنقض، ثم نذيّلها بالشكوك المشكلة والاعتراضات المعضلة، ثم نتبعها إن قدرنا بالحل الشافي والجواب الوافي، وربما وقع في أثناء ذلك ما يخالف المشهور وينقض كلام الجمهور … فقد صارت طريقتنا في التعمق في المضائق والخوض في لجج بحار الدقائق التي ربما تأدت مصادمات شعبها ونهاياتها واصطكاكات أواخرها وغاياتها إلى ترك بعض المقبولات والإعراض عن بعض المشهورات[11].وهذا سلطان العلماء العز بن عبد السلام يحفز العقول حتى تدقق فتفهم المسائل على حقائقها:
والموفّق من رأى المشكل مشكلًا، والواضح واضحًا. ومن تكلّف خلاف ذلك لم يخل من جهل أو كذب[12].

وها هو ينكر على من يتعصب لرأيه ولا يتبع الأدلة:
وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر لسان الخصم وقد نقل عن الشافعى رحمه اللّه أنه قال ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللّهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معى اتبعني وإن كان الحق معه ابتعته[13].

فلو لم يكن مثل هذا هو كلام أهل العلم، فليس في الدنيا علم.
ثم حصلت أسباب سياسية واقتصادية وتاريخية كثيرة أدت إلى انطفاء شعلة الحضارة، فأدى ذلك لانتشار الجهل والتخلف، وشيوع التقليد وعدم الإبداع والتجديد، في وقت حصلت فيه تغيرات كبرى مع بزوغ شمس النهضة الأوروبية والحداثة، ولم يستطع المسلمون إلى الآن استيعاب ما تطور من العلوم، وجنحوا للجمود والتقليد واستهلاك العلوم دون إنتاجها، ولم يكونوا إلى الآن كأجدادهم حينما جاءتهم علوم اليونان فاستفادوا منها وبنوا عليها، فحصل ما نراه من جهل من المتدينين والتنويريين، وصار الناس إلى صراعات وصرخات كصرخات السوقة والدهماء، في نقاش أبعد ما يكون عن روح المنهج العلمي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.


فهذه حكاية العلوم الدينية، ونشأتها، حاولنا إجمالها للقارئ الكريم.


خلاصة ما أردنا قوله في هذا المقال

إن لفظ العلم يطلق على معان مختلفة، منها أن العلم هو إدراكات يجمعها موضوع وتثبتها أدلة قابلة للنقض. وأن الدين بمعنى معرفة أحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه المتعلقة بالاعتقاد أو العمل علمٌ، له أسس وقواعد وموضوع ومسائل وأدلة يبتنى عليها، وإن هذا العلم ليس حكرًا على طائفة معينة، ولكن شأنه كشأن أي علمٍ، من أراد دراسته وفق قواعده المعهودة فسيصير عالما به. أما التدين بمعنى علاقة العبد بربه وامتثاله لأوامره واجتنابه لنواهيه فهذا أمر شخصي بين العبد وربه. وسبل الوصول إلى الله بعدد أنفاس البشر، لكل إنسان طريقه إلى الله.

 

 

إضاءات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...