في مديح الرقابة: عن فيلم سينما باراديسيو للمخرج جوزيبي تورناتوري

31-07-2019

في مديح الرقابة: عن فيلم سينما باراديسيو للمخرج جوزيبي تورناتوري

يعتبر سيغموند فرويد أنّ الأحلام وسيلة لتحقيق رغبات مكبوتة، وأنّ الإبداع بكافة أشكاله تصعيدًا وتحايلًا على مكبوتاتنا؛ أ سواء كانت جنسيّة أم معرفية. يراقب الأخ الأكبر كلّ شيء، كما ينوّه جورج أوريل في روايته "1984". هذا الأخ الأكبر، هو الأنا العليا، رأس مثلث الرغبة الذي نظّر له رينيه جيرار في كتابه " العنف المقدس" حيث يقوم هذا الأخ الأكبر بلعبة السلطة قائلًا: "اقتدِ بي – لا تقتدِ بي"، فعبر أمريه تنشأ الرغبة باستنساخ شخصية الأخ الأكبر من قبل المريد عبر الاقتداء أو مخالفة المريد رغبة الأخ الأكبر، ومن ثمّ كسرها باشتهاء ما لدى الأخ الأكبر.كتب دانيال ديفو روايته " روبنسون كروز" التي صوّر فيها حياة بحار نجا من الغرق، وعاش على جزيرة معزولة وحيدًا، وعلى الرغم من ذلك، ألزم كروز نفسه بعادات مجتمه الإنكليزي وكأنّ الرقابة المجتمعية مازالت موجودة! فما الذي كان يراه روبنسون كروز جماليًّا في الرقابة حتّى ألزم نفسه بها في جزيرته المعزولة؟ أليست تلك الرقابة من جعلت كروز يقاوم وحدته الحادّة وانعدام الأمل بالنجاة، فينتهي منتحرًا بسبب ذلك!هل الرقابة نوع من الفنّ؟:التصقت بالرقابة النعوت المذمومة، فهي تحجب الحرية الشخصية عن الإنسان وتمنعه من التعبير عن آرائه، وتزجّه في السجون عندما يخالفها، حتّى لو كانت أفكاره مجرّد ظنون أو أحلام يقظة! ظهر المذهب الرمزي في الآداب والفنون هربًا من سطوة الرقيب، فأبدع في إنتاج أعمال فنيّة وأدبية خالدة! ولو فكّرنا بالمسرح أبي الفنون جميعها، لوجدنا أنّ الكاثاريس أو مبدأ التطهير الذي تكلّم عنه أرسطو، ليس إلّا نوعًا من جماليات الرقابة، فالعقوبة التي تقع على مخالف الأقدار ورؤية المشاهد للذي حدث تدفعه للتأثر، أ سواء كان تأثره لومًا لنفسه أم مدحًا لها، فالمخطئ يراجع أعماله ويقدّم توبة نصوحة عبر التفاعل مع العقوبة المأساوية التي تقع بحقّ من كسر التابوهات، فيما الخاضع للتابوهات/ الرقابة يثني على نفسه، فيخرج من مشاهدة المسرحية راضي النفس. فهل بعد ما قُدم ستظل الرقابة مذمومة لا صفة جيدة فيها!؟سينما باراديسيو:ما أوردناه أعلاه، ليس إلّا توطئة لنقاش أحد أهم أفلام السينما الإيطالية والعالمية، الذي أخرجه جوزيبي تورناتوري ونال عنه جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي ولقد احتل المرتبة الــ 55 في تصيف موقع IMDB لأفضل 250 فيلمًاعالميًّا.يعدّ الفيلم مديحًا لا متناهيًّا لفنّ السينما أو ما يُسمى الفنّ السابع. لكن ماذا لو تمت مقارنته مع المسرح أبي الفنون جمعاء الذي يعتبر مكانًا لإعلاء جماليات الرقابة! لننظر إذن في مسرحيات سوفوكليس ويوربيدس وغيرهم، التي تدور جميعها عن النهايات المأساوية التي تفتك بمخالفي التقاليد والأعراف. يأتي الفنّ السابع على العكس من ذلك متماهيًّا مع رمزية اليوم السابع عندما استراح الخالق من أعماله في خلق الكون، فالأعمال بطبيعتها متقيّدة بالقوانين وإلّا ستعمّ الفوضى أمّا الراحة، فهي متفلّتة من القوانين، وعليه هل نستطيع أن نقول: إنّ السينما هي مسرح بلا تابوهات ورقابة!؟ ندخل السينما لنرى رغباتنا وشهواتنا وآمالنا وخيباتنا وتطرّفنا وجنوحنا وشذوذنا، ففيها ينجو القاتل والسارق من العقوبة، ومن خلالها نتفلّت من كلّ القوانين الطبيعية والمجتمعية، ولنا أن نطلق خيالاتنا وهواجسنا إلى أقصى حدٍّ، فعبرها تقاسمنا فعل الخلق مع الخالق، فإن كان له الكلمة الخالقة "كن"، فلنا الخيال نصنع به ما نريد من عوالم.يبدأ الفيلم عبر تذكّر سلفاتوري طفولته وشبابه في قريته في جزيرة صقلية، بعد أن تخبره صاحبته بأنّ أمّه قد اتصلت لتعلمه بموت صديقه الفريدو. غادر سلفاتوري مسقط رأسه بعد إلحاح من الفريدو الأعمى قائلًا له:" لاتغرق في الحنين إلى الماضي. اِنس كلّ شيء" ثلاثون عامًا مضت، منذ غادر سلفاتوري صقلية. لم يرجع إليها أبدًا، ضاربًا بعرض الحائط أجمل متعه ألا وهي مشاهدة الأفلام السينمائية كي لا يقضي طوال عمره مشغّلًا لآلة العرض في تلك الغرفة الصغيرة، التي تعلو قاعة السينما، حيث يتدفّق منها شعاع الضوء فيسقط على القماشة البيضاء صانعًا أجمل العوالم التي فتن بها سلفاتوري أو توتو كما كان يناديه الجميع. نشأت صداقة عميقة بين الطفل توتو ومشغل آلة عرض الأفلام الفريدو، فقد كان توتو يتسلّل إلى الغرفة الصغيرة، على الرغم من معارضة الفريدو لشغف الطفل مخبرًا إياه أن هذا الشغف حوّله إلى عبدٍ تمرّ الحياة خارج الشاشة من أمامه، ولا يقدر على عيشها، فيقضي أغلب أوقاته في تلك الغرفة الصغيرة ممارسًا الرقابة على الأفلام بعد أن يقتطع الصور التي تتضمّن القبل بناء على رنّة جرس صغير يحمله كاهن القرية صاحب الرقابة الأخلاقية على الأفلام. لم يستطع الفريدو أن يقاوم رغبة الطفل القوية حتّى أنّه خضع لها، لربما لأنّ الفريدو كان بلا أولاد وبالوقت نفسه كان توتو شبه يتيم بعد أن ذهب أبوه إلى الحرب العالمية الثانية ولأنّ الولد سرّ أبيه، عرف توتو كيف يعيد الشغف إلى حياة الفريدو. في إحدى أمسيات العرض السينمائي وبعدما أديرت بكرة الفيلم للمرة الثانية بناء على رغبة الجمهور المتعطِّش للراحة في اليوم السابع، خرجوا غاضبين من قاعة السينما معبرين عن رغبتهم الشديدة في المشاهدة للمرّة الثالثة، فما كان من الفريدو إلّا أن وجّه آلة العرض السينمائية من خلال نافذة الغرفة الصغيرة إلى أحد جدران البيوت في ساحة القرية، فبدأ العرض من جديد وانتشى المشاهدون من جديد. طلب الفريدو من توتو أن ينزل إلى الساحة لمشاركة المشاهدين الفرحة، واثناء ذلك شبّت النار في شريط الفيلم نتيجة للحرارة الكبيرة التي تعرّض لها بسبب عرضه ثلاث مرات متتالية. حاول الفريدو قطع الشريط الذي اندلعت فيه النار لكنّه فشل.احترقت السينما، وأنقذ توتو الفريدو، لكن بعد أن أصيب بالعمى نتيجة تعرضه لضوء آلة التشغيل السينمائية بشكل مباشر. كان توتو يحتفظ بقصاصات من الشريط السينمائي يلعب بها في بيته، يضعها في علبة دائرية الشكل مع صورة والده، وفي إحدى المرات تلعب اخته الصغيرة بها، مقلّدة إياه عبر تقريب الصورة من مصدر للضوء، مما أدّى إلى اندلاع النار، ولولا الحظّ الطيب لاحترق بيت توتو مع أمه واخته، ففي ذلك الزمن كانت الأشرطة السينمائية سريعة الاشتعال.يقدم جوزيبي تورناتوري في ثيمات الحريق فلسفة جميلة للرقابة ينقذها من غوغائيتها الملتصقة بها وكأنّه يقول: ليكن اليوم السابع، يوم السينما، وبقية أيام الأسبوع للعمل، إضافة لذلك على الرقابة أن تجيد التمييز بين الأماكن، فقاعة العرض السينمائية هي مكان صالح دومًا للعرض السينمائي، في حين أنّ البيت أو جدران الساحات العامة غير مناسبة لها. هذا النوع من الرقابة هو تصوّر الفريدو عن الرقابة، والتي تخالف منهج الطفل توتو، الذي يحتجّ على قطع صور القبل من الأفلام ويطالب الفريدو أن يحتفظ بها. وعندما كسر الفريدو قواعده الرقابية خسر بصره؛ هكذا لعب الفريدو مع توتو لعبة الرقابة والتفلّت منها، وفق مبدأ: " اقتدِ بي – لا تقتدِ بي" وعندما شذّ الفريدو؛ كانت العقوبة. زمن الطفل توتو:تعود قاعة السينما بعد تجهيزها للعمل، ولأنّ توتو هو الوحيد الذي تعلّم تشغيل آلة العرض السينمائية يصبح هو المشغِّل، لكن بالتحايل على رقابة قانون العمل الذي يمنع عمالة الأطفال. يتواطأ الجميع على خداع قانون العمل، فكلهم يريدون أن يشاهدوا الأفلام وضمنًا الفريدو الذي يرى بعيني توتو، وهكذا بعد عشرين عامًا من افتتاح السينما في تلك القرية الصغيرة يسمح بعرض القُبل، وتسحب السلطة الرقابية من يد الكاهن، وفي أول عرض، وأول قبلة، ينسحب الكاهن محتجاً على لا أخلاقية القبلة على الرغم من أنّه كان سابقًا يشاهد القبل متسلحًا بسلطة الرقابة كي لا يقع بالإغواء، وعندما سحبت السلطة منه خاف على نفسه معلّلًا ذلك بلا أخلاقية القبل بالمطلق، وهنا لو نظرنا جيدًا لرأينا أن امتناع الكاهن لا يتعّدى خوفه من الوقوع في الغواية مفضلًا البقاء تحت سلطة الرقابة الأخلاقية المنتهية الصلاحية وخسارة تمتعه بالفيلم كاملًا، كما كان سابقًا. لقد منعه خوفه من الاستمتاع بالفن السينمائي، كما منع شغف الفريدو بالسينما الاستمتاع بالحياة بعيدًا عن شاشتها.ضحك توتو على المشاهدين عندما احتجوا على اقتطاع قبلة في زمن الرقابة السابقة، فقد كان مع الفريدو يقتطعا معًا اللقطات وفقًا لرنّة جرس الكاهن، وهنا لنا أن نخمّن أنّ لا رقابة مع الطفل توتو إلّا أنه خيّب أملنا عندما قصّ صورة أبيه من شريط اخباري يعرض الجنود الذين ماتوا في الحرب، لقد أراد بفعله هذا أن يخفي موت أبيه عن أمه كي يظلّ أملها بعودته متقدًا. لقد تعلّم توتو فنّ الرقابة، فهل أجادها أم أصبح مثل الكاهن!؟انغمس توتو أكثر في عمله، ومضى الزمن، وأصبح شابًا، ووقع في الغرام، وفي إحدى أمسيات الصيف حيث كان العرض يتم خارجًا مقدمًا فيلم عوليس الذي عاقبته الآلهة بالتيه بعد الانتصار في طروادة عبر خديعة الحصان ونتيجة لغروره لم يقدّم الأضاحي لإله البحر كي يشكره على الانتصار، فعاقبه بأن جعله يتوه عن بلد إيثاكا.في تلك الأمسية الصيفية تمنّى توتو أن تهطل الأمطار كي يتوقّف العرض فيذهب للقاء حبيبته وهذه هي المرّة الأولى الذي يقسم شغفه الكبير في السينما مع شيء آخر. تهطل الأمطار وينتهي العرض ويساق إلى الخدمة العسكرية، ويفقد التواصل مع حبيبته، وعندما يعود إلى القرية يصرّ الفريدو على مغادرته القرية وعدم العودة نهائيًّا لأنّ الحياة في مكان آخر! ينجح توتو في روما ويصبح رجلًا مشهورًا، وفي الأمسية التي أخبرته بها صاحبته أنّ الفريدو قد مات يستذكر طفولته وشبابه، وينفتح على رغباته المكبوتة بالعودة إلى القرية، ولأنّ العزاء كالأحلام حجّة كافية كي يعود ويصل ما قطعه ويرفع عنه رقابة البُعد.يترك العجوز الفريدو لسلفاتوري أمانة، هي عبارة عن فيلم وعندما يعود إلى روما يشاهده. لم يكن الفيلم إلّا العديد من مشاهد القُبل التي تم اقتطاعها من الأفلام بأمر الرقابة وكأنّه يخبره لا تكن كالكاهن الذي انسحب من قاعة السينما عندما سُحبت منه سلطة الرقابة. اعدْ صلتك بقريتك وأمك وأختك، وابحثْ عن حبيبتك التي فقدتها منذ زمن نتيجة رقابة أبيها وابتعاد الأمكنة. ارجعْ إلى الحياة ولا تبدّل غرفة آلة التشغيل السينمائية/ الحياة بغرفة أكبر لكنّها أكثر ضيقًا ألا وهي الهروب إلى الجانب السيئ في الرقابة. في مديح الرقابة:في الأصل كان عنوان الفيلم: " Nuovo Cinema Paradiso/سينما الجنة الجديدة" إلّا أنّه سوّق بالعنوان التالي: "Cinema Paradiso/ سينما الجنة". فهل كان الأمر مجرّد حنكة تجارية أم إنّ الأمر أكثر من ذلك؟ لنستقصي الأمر، فالعنوان الأصلي يشي بجنّة جديدة لا رقابة فيها، وليس من حاجة للغفران، وهنا تكمن وصية الفريدو لتوتو!وفي النهاية كعادة الأفلام السينمائية لا بدّ من القول: إنّ جوهر الفيلم يقوم على الدعوة إلى رقابة جوهرها الغفران والحبّ؛ هكذا نستطيع أن نفهم صراخ الكاهن لأنّه تأخّر على وداع توتو، الذي ركب القطار المغادر إلى روما صارخًا: "أيّ عار ارتكبته" فذلك لأنّه تأخر على وداع توتو! وعلينا أن نستوعب جملة أمّه عندما قالت: "إنّها لم تشعر بصوت الحبّ في النساء اللواتي كنّ يجبنها عندما تتصل به في روما". مازال قلب سلفاتوري معلّقًا بتلك الفتاة التي أحبّها في شبابه إلّا أنّه مازال يقيم حاجز الرقابة؛ رقابة غضبه لأنّها فارقته، ورقابة الزمان الذي فرّقهما، ورقابة تباعد أمكنتهما؛ لذلك يا سلفاتوري اكسرْ حاجز الرقابة كما يكسر الموشور الضوء، واعدْ تشغيل آلة العرض السينمائية/ الحياة.

 

باسم سليمان : عن مجلة تراث الإماراتية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...