ثورة ملوّنة في هونغ كونغ

06-08-2019

ثورة ملوّنة في هونغ كونغ

لم يمنع تعليق مشروع قانون تسليم المطلوبين للصين عودة الاحتجاجات إلى هونغ كونغ. وسائل الدعاية والترويج الغربية، أو الأجهزة الأيديولوجية للنخب المسيطرة في الغرب، احتفت على غرار صحيفة «لوموند» بالإضراب الذي شلّ المدينة يوم أمس. اليومية المولعة بالثورات «الديمقراطية»، التي تندلع في البلدان الخارجة عن نفوذ أسيادها، نسبت لإدموند شينغ، الأستاذ في الجامعة المعمدانية في هونغ كونغ، قوله إن «الإضراب في هونغ كونغ، مدينة الأعمال، أمر شديد الرمزية ويسبب للحكومة الإرباك. هو يُظهر أن الحركة الاحتجاجية ما زالت تحتفظ بقوتها الدافعة». السردية الأحادية تحرص على تقديم هذه الاحتجاجات على أنها هبّة شعبية اتخذت من معارضة قانون تسليم المطلوبين ذريعة للتصدي لعملية قضم تدريجية للاستقلال الذاتي العتيد لهذه «المنطقة الإدارية الخاصة» من قِبَل الصين.

«الميناء العطر»، وهو المعنى الحرفي لاسم المدينة باللغة الصينية، كان مستعمرة بريطانية لمدة 155 عاماً، من 1842 إلى 1997، تاريخ عودتها إلى الصين، على قاعدة إعلان صيني ــــ بريطاني مشترك، وافقت بموجبه الصين على استقلال هونغ كونغ الذاتي النسبي حتى سنة 2047. ولا شك في أنّ صعود الصين على المستوى الدولي، وهو أحد أبرز معالم التحولات الكبرى في موازين القوى على نطاق الكوكب، والتراجع المستمر للهيمنة الغربية، يمكّنها من الشروع تدريجاً في «إزالة آثار الحقبة الاستعمارية» وما ترتب عليها من تنازلات سياسية و/ أو ترابية تتعارض مع سيادة دول الجنوب، والصين إحداها، ووحدتها الترابية. هناك دون شك أسباب داخلية للاحتجاجات في هونغ كونغ، مرتبطة برغبة قسم من سكانها في الحفاظ على الامتيازات التي حظيت بها المنطقة، لكن استمراريتها واتساعها، وطبيعة القوى المحركة لها، ودعمها سياسياً وإعلامياً من الغرب، في سياق ارتفاع حدة المواجهة الصينية ــــ الأميركية، يضعها موضوعياً في مصافّ الثورات الملونة التي استغلّتها القوى الغربية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين لإنفاذ أجنداتها الاستراتيجية.

ليس صدفة أن يكون أول الاحتجاجات الواسعة النطاق التي شهدتها هونغ كونغ هو ما أُطلقت عليه تسمية «ثورة المظلات»، وهي سلسلة احتجاجات وتظاهرات ضد مشروع يسمح لبكين بتحديد هوية المرشحين لانتخابات رئاسة السلطة التنفيذية في المقاطعة على أساس «وطنيتهم»، وقد تزامنت مع بدء وضع استراتيجية الاستدارة نحو آسيا من قِبَل إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، موضع التنفيذ. ما كانت القوى السياسية والدينية، والكتل الاجتماعية، التي شاركت فيها بكثافة ملحوظة، لتفعل ذلك لولا قناعتها بأنها ستجد دعماً وغطاءً أميركياً وغربياً، وأن ما سيترتب عن استراتيجية الاستدارة من ضغوط هائلة على الصين سيمكّنها من تحقيق أهدافها.

فهذه الاستراتيجية، وهي في الواقع استراتيجية احتواء وتطويق للصين، وزعزعة لاستقرارها، لا تعتمد على بناء تحالفات وشراكات مع دول جوارها فقط، بل هي تسعى أيضاً إلى إيجاد حلفاء وشركاء، حتى ظرفيين، داخل هذه الدولة ــــ القارة. نزول سكان في أغنى مدينة في الصين وثالث مركز مالي عالمي إلى الشوارع للاحتجاج والتمرد على ما يرونه إفراغاً لقانونهم الأساسي من «مضمونه الديمقراطي» من قِبَل بكين، واجتياحاً متزايداً لمنطقتهم من قِبَل قادمين من داخل البلاد، لا يتم دون تقدير للموقف ولموازين القوى السياسية وتشاور وتنسيق مع «الأصدقاء القدامى والجدد» البريطانيين والأميركيين.
الأغنياء عامة لا يثورون، ولا يُقدِمون على مغامرات غير محسوبة الأكلاف والنتائج. هم يفعلون إذا اعتقدوا أن المظلّة السياسية للغرب، الذي ما انفكوا يؤمنون بتفوقه وقدرته الكلية، تحميهم. هذه القناعة هي التي تفسر انبعاث الحركة الاحتجاجية مجدداً في هونغ كونغ، وتلازمها مع تصاعد الصراع الصيني ــــ الأميركي. ففي الوقت الذي تُصنَّف فيه الصين علناً، إلى جانب روسيا، من قِبَل إدارة الرئيس دونالد ترامب على أنها التهديد الأبرز للولايات المتحدة، وتطلق هذه الإدارة سباقاً للتسلح معها، ويجول وزير خارجيتها على مسؤولي دول جوارها لحملهم على المشاركة في تطويقها، ونشر صواريخه على أراضيهم، تندلع الاحتجاجات المذكورة، التي ذهب بعض المشاركين فيها إلى رمي العلم الصيني في البحر والمطالبة بالانفصال والصدام المباشر مع قوات الشرطة.

وما يزيد الريبة حول خلفيات هذه الأحداث، الهجوم الغامض الذي أقدمت عليه عصابات المافيا المحلية على المتظاهرين في محطة «يوين لونغ» لقطار الأنفاق يوم 21 تموز/ يوليو الماضي، والاتهامات التي تلته لشرطة هونغ كونغ بالتواطؤ مع المهاجمين، ما أدى إلى تأجيج الحركة الاحتجاجية. يذكّر هذا الحادث بأحداث شبيهة وقعت خلال الثورات الملونة في أوكرانيا وجورجيا، وأدّت دوراً مهماً في تجذير قطاعات وازنة من المحتجين، ودفعهم إلى الانجرار خلف قادة هذه «الثورات» الذين ثبت ارتباطهم المباشر فيما بعد بالاستخبارات الأميركية، واندراجهم ضمن مخططات احتواء روسيا بقيادة واشنطن.

سيفضي احتدام المواجهة الصينية ــــ الأميركية إلى تشدد أكبر من قِبَل بكين حيال أي طرف يهدد وحدة البلاد الترابية وتماسكها الداخلي، بل قد تكون هذه المواجهة، وما سبقها من تغيرات في موازين القوى لمصلحة الصين، فرصة لإغلاق بعض «الملفات» الموروثة من المرحلة الاستعمارية، عندما كانت بريطانيا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.

 


الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...