تشومسكي : تحليل آليات الهيمنة الأمريكية

15-05-2006

تشومسكي : تحليل آليات الهيمنة الأمريكية

اثارت زيارة المفكر الاميركي المعروف نعوم تشومسكي لبيروت أخيراً، نقاشاً عربياً عن أفكاره المعروفة بشدة معارضتها لتحوّل الولايات المتحدة الى نظام امبراطوري للهيمنة الشاملة، بدعم من تكنولوجيا فائقة التطور. ويرى تشومسكي في العولمة الراهنة شيئاً شديد الشبه بتلك الهيمنة، التي يخشى من أثارها على أميركا نفسها، كما على دول العالم. ولذا، يدأب على تحليل آليات الهيمنة الأميركية عالمياً، بما في ذلك الدور الذي تلعبه التكنولوجيا الرقمية وإعلامها. ويشبه ذلك ما يفعله المرشح الرئاسي السابق (من اصول لبنانية) رالف نادر، الناشط في مجال حقوق الإنسان في أميركا، الذي يُعطي حيزاً كبيراً من نشاطه لمسألة الحريات الإلكترونية للمواطنين. والمعلوم ان نادر انتقد هيمنة الشركات العملاقة على عالم المعلوماتية في بيان شهير حمل عنوان «أوقفوا مايكروسوفت».

وفي ما يأتي، استعادة مُكثفة لمقابلة سابقة لتشومسكي، نالت شهرة واسعة، انتقد فيها المُفكر الاميركي بقوة هيمنة شركة «مايكروسوفت»، عملاق نُظم تشغيل الكومبيوتر وبرمجياته، على العالم الرقمي، كما تُعبّر عنه السيطرة شبه المُطلقة لنظام التشغيل «ويندوز» على كومبيوترات العالم وشبكاته الالكترونية. وأحياناً، يُشار الى المقابلة، التي أجرتها مجلة «كورب ووتش» الاميركية، باسم «نظام تشغيل واحد، عالم واحد»One World,One System، في تلخيص كثيف للفكرة الرئيسية التي عرضها تشومسكي ودافع عنها.

«(يبدو أن) الشركات الطفيلية، مثل «مايكروسوفت»، تقتات على النظام العام، فإلى أي مدى ينبغي لنا منحها امتيازات وحقوقاً تسيطر بها على ما هو أساساً ملكية عامة، كالإنترنت والاتصالات...؟ هنا تكمن المشكلة.

وفي عودة إلى تطوّر حال المؤسسات في الولايات المتحدة، وُجِدَت الشركات الكبرى منذ القرن الثامن عشر، وما قبل. وكانت هيئات عامة، متضامنة. وعلى سبيل المثال، كان في استطاعة مجموعة أشخاص أن تقرر بناء جسر فوق نهر معيّن. فتحصل من «بلدية» تلك المنطقة أو من الولاية على الامتياز. وبذلك، لم يكن للمؤسسات الحقوق التي يمتاز بها الأفراد.

لكن الحال بدأت تتغيّر منذ القرن التاسع عشر، علماً أن النظام الدستوري تأسس على مبدأ أن يحصل الأفراد من أصحاب الملكيات على امتيازات خاصة دون سواهم، (ذلك ان) غاية الحكومة، حينها، تمثّلت في حماية الأقلية الميسورة من الغالبية العامة.

وفي الولايات المتحدة، غيّرت المحاكم مبدأ إنشاء المؤسسات الكبرى، لمنح الامتيازات ليس فقط لأصحاب الملكيات فحسب، بل أيضاً لما يسمّى «الكيانات القانونية الجماعية». وبعبارة أخرى، مُنحت المؤسسات، في مطلع القرن العشرين، الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها الأفراد. فأصبحت، تالياً، بمثابة أشخاص «غير فانين» أو «أصحاب نفوذ هائل». ثم حرّرت من الالتزام بقوانين الولاية.

ومهّد هذا التحوّل لنشوء أنظمة طاغية خاصة وخطيرة، لا تخضع للمحاسبة، تحميها الحقوق الواردة في التعديل الأول للدستور، ومعفاة من التفتيش والقبض... فتسير أعمالهم في ما يشبه الخفاء.

بعد الحرب العالمية الثانية، وجب على قطاع الأعمال أن ينسّق مع الحكومة، وان يُنشئ شركات تابعة لها، وأن يصرّح عن التكاليف والمخاطر. ووفّر «نظام البنتاغون» آلية تطبيق تلك الاجراءات. ومذذاك، صارت تلك الشركات العامة التابعة تشكل قلب القطاعات الحيوية في الاقتصاد الأميركي، كشركات التكنولوجيا البيولوجية والعقاقير وغيرها مما يعوّل على مصادر عامة مختلفة... وهذا ما يقود مباشرة إلى «مايكروسوفت».

من أين تأتي الأرباح الضخمة؟

كيف تستطيع «مايكروسوفت» تحقيق أرباحها الضخمة؟ كان بيل غيتس صريحاً في هذا الشأن، إذ قال إنه يجنيها باحتضان أفكار الآخرين ونشرها. ومصدر الأرباح تجارة الكومبيوتر... والكومبيوترات صنعت بمبادرة القطاع العام وعلى نفقته. وفي الخمسينات عندما كانت الكومبيوترات في مرحلة التطوير، كانت هذه الصناعة كلها على نفقة القطاع العام.

والمنطق نفسه ينطبق على الإنترنت. الأفكار والمبادرات والبرامج والأجهزة... ظلت كلها، طوال 30 عاماً، على نفقة القطاع العام وبمبادرة منه. وتوّاً، بدأ تسليمها إلى أشخاص مثل غيتس.

أما التأثيرات الاجتماعية والثقافية التي تنشأ من ترك بضع شركات تسيطر على شيء أساسي، فتظهر في نشوء شكل من أشكال الطغيان. والطغيان هو هدف تحويل السلطة من أيدي الجمهور إلى المؤسسات (التجارية)... ومحاولة إبعاد القطاع العام من تقرير مصيره، والسيطرة على الرأي العام... بهدف التحكّم في العالم، بما في ذلك الإنتاج والتجارة والتوزيع والفكر والسياسة الاجتماعية والسياسة الخارجية... فتخرج القرارات الأساسية من يد القطاع العام لتقع في يد نفوذ خاص مركّز. وفي الواقع، الطغيان لا يخضع لمحاسبة القطاع العام. وهناك أنماط كثيرة لإنجاز ذلك.

يتمثّل أحدها في وضع نظام الاتصالات أو المعلومات، تحت سيطرة مجموعة متشابكة من الشركات الخاصة. وعلى سبيل المثال، وسائل الإعلام في الولايات المتحدة هي وسائل مملوكة بغالبيتها لشركات. وحتى هذه الوسائل الإعلامية العامة لا تختلف عن الشركات الأخرى. فهي مؤسسات ضخمة تبيع جمهوراً (من المستخدمين) للمعلنين في شركات أخرى. وهؤلاء معاً يشكّلون نظام الاتصالات.

(...) وهذه النقلة من العام إلى الخاص أثّرت أيضاً في الإنترنت. فعندما كانت شبكة الإنترنت تحت سيطرة «البنتاغون»، كان استخدامها مجانياً. واستعملها كثير من الناس، من دون مقابل، للمشاركة في المعلومات. وبقيت الحال على تلك الصورة، حتى بعد انتقال الشبكة الإلكترونية إلى كنف «المؤسسة الوطنية لتقدم العلوم» الأميركية.

وفي البداية لم تكن الشركات مهتمة بالإنترنت لأن لا أرباح فيه. والآن، سلّمت إلى مؤسسات خاصة، فراحت، منذ البداية، تحدد ما الذي تريد ان تجنيه من تلك الشبكة الهائلة. وراهناً، تريد تلك الشركات تقسيم الإنترنت إلى قطاعات ضمن شبكات خاصة، تحميها «جدران النار» (تعبير يُطلق على التقنيات التي تحمي موقعاً أو ملفاً او منطقة داخل الانترنت)، وتوضع تحت تصرّف الشركات وحدها.

والحال ان تلك الشركات، وعلى رأسها «مايكروسوفت» تريد السيطرة على وسائل النفاذ إلى المعلومات. إذ توجه جمهور الانترنت إلى الأمور التي «يريدها»، مثل خدمات التسويق أو الترفيه... وتسعى أيضاً الى جعل البحث عن المعلومات في أصعب شكل ممكن.

 

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...