في زمن الوباء: الحماقة وظيفة وحيدة للفلسفة؟

04-04-2020

في زمن الوباء: الحماقة وظيفة وحيدة للفلسفة؟

شادي لويس: في حوارها مع موقع "دويتشي فيله"، تقول الفيلسوفة الألمانية، سفينيا فلسبولار، إن "الشلل الكامل الذي جلبه الكورونا يعطينا فرصة لنفكر". تستشهد بالرياضي والفليسوف الفرنسي، بليز باسكال: "معظم البؤس البشري ينبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس في غرفة لوحده هادئاً"، وبعدها تستشهد بهيدغر، ففي لحظة مثل تلك، حين يجلس المرء في حجرته "محاطاً بالموت"، يستطيع أن يكتشف طبيعته الحقيقية. من البداية، تعدّد فلسبولار امتيازاتها، وتصفها بالامتيازات بوضوح، فهي ليست مضطرة للعمل في سوبر ماركت أو في مستشفى مزدحم، كما إنها ليست عرضة للإصابة بالعدوى، كما تقول، فهي قد انسحبت إلى الريف حيث تعمل.

الحوار المصاغ بلغة صحافية مباشرة وسهلة، يشير لفرصة للتفكير "الوجودي"، مواجهة الفرد لنفسه ولحقيقة الفناء، لكن فلسبولار تشير ضمناً إلى نوع آخر من أنواع إعمال العقل، التفكير كتخصص، كوظيفة اجتماعية. تحيلنا إلى تقسيمة العمل في المجتمع، حيث تواجه الطواقم الطبية وعمال المتاجر، مخاطرة العدوى، فيما يتولى أساتذة الفلسفة، "محبي الحكمة"، وظيفتهم البديهية، التفكير، بشكل أكثر تجريداً، ومنهجية، وبتأنٍ، نيابة عن المجتمع. تأتي تلك المهمة التكنوقراطية بامتيازاتها الخاصة، وبمسؤولياتها أيضاً. فكما سارع المتخصصون في الحقل الإبداعي مثلاً إلى التراث الأدبي والفني، لتقديم مادة لجمهورهم صالحة لزمن الوباء، لفهمه أو لاستساغته أو حتى للاستمتاع رغم وطأته، فخبراء الفلسفة وجدوا أنفسهم في وضع مشابه، وإن كانوا ربما أكثر جهوزية.

فقرة عن تفشي الطاعون من كتاب ميشال فوكو "المراقبة والعقاب"، كانت الأكثر ترداداً واقتباساً، وبالأخص ذلك المشهد الذي يغلق فيه السكان الأبواب على أنفسهم، ويسلمون المفاتيح إلى مسؤولي الأحياء، المعينين من حكومة المدينة. المتخصصون في الفلسفة الأخلاقية كان لديهم الكثير ليقولوه عن الموازنة بين المصلحة العامة والحفاظ على الحياة الخاصة، وعن الأولويات، عن المدى الذي يمكن للمجتمع أن يذهب إليه لينقذ حياة واحدة. سارعت وسائل الإعلام الجماهيرية والدوريات الفلسفية لاستكتاب المتخصصين، وإجراء الحوارات مع الأسماء اللامعة بينهم.

لم يتوافر الكثير من الوقت للتأمل، لكن الفلسفة مجال للأحكام العامة. يكتب ديفيد هارفي، الاقتصادي والمنظر الاجتماعي الماركسي، مقالاً دقيقاً لتشريح الأزمة، أصولها ومآلاتها. بدا النص من الحصافة بشكل يدعو للقلق، كون أزمة الوباء تؤكد كل شيء قاله هارفي من قبل، وما نعرفه من مدرسته في التحليل. لم يكن هارفي وحده، ففي كل مقال مماثل أو حوار، كان يمكن حشر الحدث الطارئ للكورونا داخل إطار نظري جاهز ومعروف، وبلا مشقة كبيرة.

كالعادة، يدلي سلافوي جيجيك، بالعدد الأكبر من التصريحات، وتتوالى مقالاته عن الأمر. في حوار هاتفي، يعدد لنا الفيلسوف المعاصر الأكثر جماهيرية، "ما يحبه بخصوص الكورونا"، وفي مقال آخر يحدثنا عن "الحاجة للكارثة"، فبعد عامين من حضه للجميع على "شجاعة اليأس"، تبدو نبرته شديدة التفاؤل. فالوقت هو الأكثر مناسبة لتطبيق "الشيوعية"، ويعود ليفسر في مقال آخر، ما يعنيه، فهي ليست شيوعية الإتحاد السوفياتي بالطبع، لكنها نوع اشتراكي من التضامن في وجه الخطر الذي نواجهه. لكن سريعاً، يتضح أن ما يعنيه بـ"نحن" ليس البشرية، بل أوروبا تحديداً، ويدعوها جيجيك للتعامل مع الأمر بصفته "حرباً"، ويضيف إن "موجة ثانية من اللاجئين" بالتوازي مع الوباء هي كل ما ستحتاجه أوروبا. يتبنى جيجك، كعادته، الأفكار الأكثر إثارة للجدل، بلغة تقترب إلى الحماقة أكثر من أي شيء آخر، حماقة تضع الفيروسات في كفة مقابلة للاجئين، الإثنان كخطر وجودي على أوروبا، أحدهما عضوي والآخر ثقافي، وفي خضم الحرب الطارئة ضدهما، ومن وسط الكارثة، تبزع الشيوعية (بوصفها تضامناً أوروبياً حصرياً).

الزوبعة الأكبر يثيرها الفيلسوف الإيطالي، جورجيو أغامبين. في مقالة "حالة الاستثناء الناجمة عن حالة طوارئ غير مبررة"، يرفض كل إجراءات الحجر الصحي، في مواجهة كورونا، بوصفها "مسعورة، وغير عقلانية". ببساطة النزوع السلطوي لدى الحكومات، لجأ إلى "اختراع الوباء" بعدما أصبحت حجة الإرهاب غير كافية. في مقاله الثاني، "إيضاحات"، يتراجع أغامبين عن ادعائه الأحمق بأن كورونا هي مجرد إنفلونزا عادية، لكنه يستنكر أن نتنازل عن كل حقوقنا، وكل ما هو اجتماعي، لصالح إنقاذ "حياة مجردة"، أي مجرد بقائنا العضوي. تبدو مخاوف صاحب "حالة الاستثناء: الإنسان الحرام" مفهومة، ولا تخلو من المنطق، أن تكون حالة الاستثناء هي الوضع الطبيعي، هذا هو الخطر الأكبر. الذعر المحيط بالوباء واستغلاله لصالح السلطوية، تبدو تبعاته أكثر فداحة من انتشار الفيروس. ولا يمر الكثير من الوقت، حتى يمنح البرلمان المجري، رئيس الوزراء، سلطات مطلقة وطارئة، ومن دون سقف زمني. الاستثناء حقاً يضحى هو الطبيعي، والصحف الأوروبية تعلن الديموقراطية في المجر واحدة من ضحايا كورونا. لكن الخطر الذي يمثله الوباء أيضاً حقيقي وفادح، بالقدر نفسه. يرد الفيلسوف الإيطالي، سيرجي بينفنيتو، على أغامبين في مقال له بعنوان "مرحباً بالعزلة"، ويقول: "في بعض الأحيان، نشر الذعر أكثر حكمة من النظر للأمور فلسفياً".

ما يطرحه بينفنيتو هنا، ليس دحضاً لمنطق أغامبين، بقدر ما هو اعتراف بحدود التفلسف، دعوة لتنحية الفلسفة لصالح الحرص في مثل هذه الظروف، "فالمرء لا يمكن أن يكون حريصاً أكثر من اللازم" كما يقال بالإنكليزية. لكن أغامبين، وربما بشكل أكثر تشوهاً جيجك، يصران على ممارسة واحدة من وظائف الفلسفة في هذا اللحظة، وظيفة لا تتعلق بالحكمة في الحقيقة، بل بالحماقة، بالتفوه بأكثر الأشياء سخافة وتهوراً، وظيفة للفلسفة قديمة كسقراط، معارضة المتفق عليه، ومحاولة لفت الانتباه للثغرات والتناقضات الصغيرة والشوائب، والأخطار في أكثر الإجراءات أماناً، والفرص الممكنة في أكثر الأحداث مأساوية، بهدف استفزاز الجميع، بهدف التشكيك في ما هو بدهي، وبالأخص في أكثر الأمور بداهة.

من حسن الحظ أن أحداً لا يأتمن الفلاسفة على اتخاذ القرارات المصيرية، وأن عادة الحكم عليهم بالموت بتجرع السم توقفت منذ زمن.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...