تحولات الديمقراطية في المنطقة العربية

17-05-2006

تحولات الديمقراطية في المنطقة العربية

في معظم دول العالم، وعند احتدام السجال السياسي، يطالب أصحاب الرأي وممثلو الشعب بأقصى ما يمكن الإدلاء به والالتزام بتبعاته حين يدعون الى ضرورة التقيد بموقف مسؤول.

المسؤولية هنا تعني رفض الانجرار وراء الشعبوية والاعتراض السلبي، وتقديم بدائل ممكنة. فوظيفة السياسة إيجاد أفضل السبل لإدارة الشأن العام وتوفير عناصر تنفيذها الجامع بين الاستجابة لحاجة من دون ارتهان المستقبل أو تعريض المجتمع لاهتزازات وانعكاسات على المدى البعيد.

حيال كل قضية، سواء اجتماعية أم سياسية عالقة، وعند كل مفصل، يتمحور النقاش الديموقراطي على صيغة توازن بين المطلب والعلاج بحيث تأتي الخلاصة معبرة عن إرادة غالبية المجتمع في لحظة معيَّنة، وإلا عاقب الاحتكام الشعبي الطرف المغالي وأسقطه في الامتحان، أكان استحقاقاً دستورياً بموجب دورية الانتخابات، أو حسماً مباشراً يسرِّع الفصل بالأساس، وفق آليات كفلها الدستور، من عودة مبكرة إلى صناديق الاقتراع أو استفتاء ملزم. وفي حالات كالاتحاد الأوروبي، يفترض تجانس الحل المستخرج مع النصوص التي أقرتها المجموعة. كما أنَّ تعاهد الأطراف المتنازعة على التزام المواثيق الدولية لا يحتاج الى تأكيد أو إعلان، لأنَّ مبدأ استمرار المؤسسات دخل قاموس العلاقات الدولية، والتعاقد الدولي سقف لا مساس به أو إعادة نظر فيه، على رغم توالي السلطات وتبدُّلها، فهو يعلو القوانين الوضعية ويتقدَّم على كل ما عداه في الأعراف كافة.

تتحدد معايير السلوك السياسي وفق هذه الاعتبارات التي قد يتسبب عدم احترامها بخروج الطرف الناكل من المعادلة السياسية، وإدانة تفريطه بالمتعارف المتأصل في الحقل العام.

فحيث حسمت مسائل الهوية والدولة وتمَّ القطع مع الفكر الغيبي والأسطوري، استقرَّت بلدان على تنافس داخلي مضبوط في سياقه واحتدامه، وتخلَّت نهائياً عن لغة التخوين والانتماء في الوطنية، واقتصار الهاجس السيادي حصراً بتلاوين معيَّنة، واستطراداً الطعن اعتباطياً بمدى تمثيلية هذا الفريق أو ذاك إلاَّ بمقياس الإرادة الشعبية والانتخابات. فالتسليم بالآليات الدستورية، على مختلف المستويات المحلية والمناطقية والوطنية، والرضوخ لنتائجها اصبحا من المسلمات البديهية، وعنواناً للنضج الديموقراطي واعترافاً بتوزع القوى الشعبية على القوس التمثيلي لغاية تعديله عند أول استحقاق.

يعكس التقيد بهذه المفاهيم سيرورة تاريخية معقَّدة أفضت إلى تقليد راسخ، نتيجة تجارب حفلت بالصراعات الدموية حيناً، وانتقت من الأعراف أكثرها ملاءمة لمسار الحياة الديموقراطية وتجاوباً مع متطلبات التحديث والاستقرار. فقد راكمت النضالات المتتالية، على مدى قرون، مكتسبات مدنية واجتماعية متقدمة لم يألفها التاريخ سابقاً، ورفعت محتواها إلى مصاف المبادئ ذات السمة العامة جوهراً، تتكيف تبعاً للثقافات المحلية الخاصة بكل كيان. وتشكل القاعدة المشتركة لكل نهج يصبو إلى حمى الديموقراطية والتقدم الواعد ويتجانس مع حركية المجتمعات بأفق المزيد من الإنجازات.

يقف العالم العربي على عتبة هذه التحولات، متردداً في التزود بها، خائفاً من تداعياتها على شخصيته وكياناته. وإذ يقر بضرورة الأخذ بالإصلاحات، ينظر حائراً إلى سبل مداواة أزماته والاقتداء بنماذج قادمة من خارج فضائه، مشبعة بمضامين من غير موروثه القريب. فحين بدأت رحلة أوروبا المتاخمة نحو الحرية الفردية والحقوق العامة مع «الماغنا كارتا» في بريطانيا، شهدت الحضارة العربية أفولها، وأخذت الدول ترزح تباعاً تحت حكم الأجنبي ذي الطابع الاستبدادي، القائم على سطوة الجند، ركن السلطة ودرعها. فمن الإقطاعات السلطانية التي عصفت بدولة الخلافة بداية، وتنازعت على الملك بقوة العصبيات، آلت دفة الحكم إلى الأفواج المملوكية الطارئة، تتصدى للغزوات المغولية المتعاقبة في الشرق، إلى أن كسر العثمانيون شوكتها وحطَّموا كيانها، فبسطوا هيمنتهم على مشارق العرب ومغاربها.

وعندما خرجت أوروبا من غياهب القرون الوسطى، تألقت نهضتها بعاملي الإصلاح البروتستانتي ونظيره في الكثلكة المسمَّى الإصلاح المعاكس، فاتحة لعصر التنوير وما تبعه من ثورات مهَّدت للمشاركة الشعبية في صنع المصائر، هددت فتوحات بني عثمان الممالك الغربية إلى أن أذنت منازلة ليبانت البحرية ببدء انكفائها. ومنذ أواسط القرن السابع عشر، بان أن طاقة السلطنة على المواجهة آخذة في الضمور لتفاوت التقنيات وغلبة الأفكار المحافظة والأساليب التقليدية على صناعة قرارها وتحديث بناها وآلتها العسكرية.

غابت ممتلكات السلطنة العثمانية المترامية الأطراف عن الوثبة العلمية والصناعية، كما راوحت في أسر بنى اجتماعية جامدة، تتلقى الأوامر والفرمانات الهمايونية باعتبار سكانها رعايا مسلوبي الإرادة لا مواطنين. واستمرت أنماط محلية وأهلية تؤطِّر وتحكم العلاقات الاجتماعية استناداً إلى العادات القديمة، في بيئة اقتصادية فلاحية متواضعة ووسائل إنتاج بدائية إبان الثورة الصناعية الزاحفة غرباً.

يجد العديد من المفاهيم الرائجة عربياً أصوله في تلك الحقبة. فما زالت بصمات مخلفات الماضي تطبع قواعد السلوك السياسي من سحيق إرث المتعاقبين على الإمساك بالأمور العامة والتفرد بالأحكام. فعلى حطام الشورى والتسامح النسبي اللذين غلّفا الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة صعودها، زال آخر معاقلها الأندلسي بالتزامن مع بسط نفوذ السلاجقة وخصام إماراتهم إلى أن وسَّع كل من العثمانيين والصفويين رقعة ملكهم وربطوا نزاع خصامهم المديد على شعوب المنطقة. مذ ذاك ترسَّخ ما أنزله المماليك من استهتار بإرادة الشعوب وحكمها عنوة، واستكملت مماهاة الحراك السياسي والرأي الآخر بالخروج عن الطاعة وخيانة الدولة السنية، تماماً كما قذف البحث الفكري وحملة الحداثة والتجديد بالفتنة والعداء للأمة. وإلى يومنا، ومع اختلاف الزمان، وجدت المعايير المتقادمة طريقها بحلة مستحدثة تسبغ الوطنية وتنزعها استسابياً تبعاً لمآرب سلطوية، وتستحضر وحدة الأمة سيفاً مسلطاً على رقاب المخالفين في الرأي، لاعتناقهم رؤية سياسية راقية وتعددية مسلَّما بها جذرياً كإفراز طبيعي.

ألغت نظم الاستبداد جوهر المساءلة، ودمرت قابلية القياس وإمكانية الخيار في الحقل السياسي. ولقد استتبع محو مفهوم المسؤولية إسكان «المواطنين» في عهدة السلطويين ومنع الرقابة عنهم والدفع بتجاوز الخطوط وإفلات الخطاب من ضوابط الرزانة والعقلانية والواقعية. بذلك انتفت عملية تداول السلطة بصورة منتظمة على وجه الامتحان والمفاضلة بين الخيارات وتقديم أعمال الخارج من الحكم وبدائل الطامح إليه، واستُقدم التشكيك والتجريم وسائر أدوات البرهان اللفظي الكلامي بديلاً من التدقيق بالأفعال والتعديل على النتائج.

حرم الناس من الاعتناء بشؤون الأرض بموجب الوكالة الحصرية المنتزعة منهم، المحصنة بأجهزة القمع والسيطرة على وسائل الإعلام، حيثما استبشروا لوهلة بأنظمة تعيد الكرامة وترد على الهزيمة. وإذ خاب أملهم، وجدوا في مسلك قادتهم الجدد طبعة منقحة عمَّا عهده أجدادهم في زمن القهر، فاتجه فريق منهم ينشد الرجاء لدى من يعنى بالآخرة ويفسح المجال في الأرض.

لكن الطبع غلب التطبع، وأضاف إلى شبق السلطة الدنيوي الاستقواء بالتكفير والتحريم ومصادرة مفاتيح السماء. ولسوف يتبيَّن لمن راوده حلم العبور إلى دفء محاربة الفساد وتصويب المسار بالعودة إلى الأصول أنَّ للشعارات يوماً وللحقائق ألف يوم، طالما استوى النقد على هيولة الوعود، وأهمل مسألة الديموقراطية والحداثة وأغلق المجتمع أمام رياح التغيير.

نصاب المسؤولية شرطه التعددية المنفتحة والقبول بالآخر مساوياً متساوياً. أي أن الفرد لا تحجبه الجماعة ولا يحميه الولاء، وأن حريته الفعلية رهن بقدرته على الاختيار الدائم وإعادة النظر بانتمائه وقناعاته. وأياً يكن موقعه وكيفما انحاز في آرائه السياسية والاجتماعية، فلا داعي للخشية من تبدله، والاشتباه في «مشاريعه»، والنيل من حديثه ووطنيته، لأنها، في الديموقراطية، عماد المسلمات والمقدسات.


نسيم ضاهر

المصدر : الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...