النظرية النقدية الجدلية: جذورها التاريخية وأهم ممثِّليها

25-05-2020

النظرية النقدية الجدلية: جذورها التاريخية وأهم ممثِّليها

عبد الغفار مكاوي:ترتبط النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أوثق ارتباط ﺑ «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي»، الذي أسَّسته في سنة ١٩٢٣م نخبةٌ من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والنفس والنقد الأدبي والجمالي المُنحدِرين من أصول يهودية، وقد حدَّدوا وضعه وهدفه منذ البداية، بحيث يكون معهدًا حرًّا غير مقيَّد بالنُّظم الجامعية والأكاديمية، يتفرغ لبحث مشكلات الاشتراكية والماركسية والعنصرية وحركة العمال، مع الاعتماد بصورة عامة على المنهج الماركسي في التحليل النقدي الاجتماعي. وقد كان مِن بين أعضائه في العشرينيات والثلاثينيات عددٌ من الأعلام الذين ذاعت شهرتهم بعد ذلك في الحياة الفكرية والأدبية، مثل عالم النفس الاجتماعي والكاتب الفيلسوف «إريك فروم» (١٩٠٠–١٩٨٠م)، والناقد الأدبي الماركسي فالتر بنيامين (١٨٩٢–١٩٤٠م)، وعالم الاجتماع الأدبي ليو لوفنتال، وبوجهٍ أخص الفيلسوفان: تيودور فيزنجروند أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م) وهربرت ماركوز (١٨٩٨–١٩٧٩م)، وفيلسوف الاجتماع ماكس هوركهيمر (١٨٩٥–١٩٧٣م)، الذي تولَّى إدارة المعهد من سنة ١٩٣٠م إلى سنة ١٩٣٤م عندما أغلقته السلطات النازية، فاستمر في الإشراف عليه بعد ضمه إلى جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية (من ١٩٣٤–١٩٥٠م)، بجانب إشرافه على إصدار «مجلة البحث الاجتماعي»، ورئاسة تحريرها من سنة ١٩٣٢م إلى سنة ١٩٤١م. وتُجمِع الآراء اليوم على أن أصحاب الأسماء الثلاثة الأخيرة هم مؤسِّسو «النظرية النقدية الجدلية» وأهم ممثِّليها من الجيل الأول، بالإضافة إلى أهم ممثِّليها من الجيل الثاني وأشهرهم، وهو المفكِّر والفيلسوف الاجتماعي يورجين هابرماس (وُلد سنة ١٩٢٩م).

بلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية، وعلى تفكير الرأي العام المثقَّف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات، عندما تبنَّت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية، وأدمجتها في «أيديولوجيتها» اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السُّلطة والتسلط. وقد تأثَّر رُواد هذه الحركة الثورية بأفكار «ماركوز» على وجه الخصوص، كما راجت آراؤه النقدية للمجتمع الرأسمالي الصناعي، في أعقاب مظاهرات الاحتجاج على التمييز العنصري، واضطهاد الأقليات، وحرب فيتنام التي هزَّت الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما ساعد على انتشار «النظرية النقدية» على الأقل في أوساط المثقَّفين والطلاب المتمرِّدين.

ومِن أهم الجذور التاريخية والعقلية التي تغذَّت عليها النظرية النقدية، ونمَت في تربتها:

(١) تراث الفلسفة المثالية الألمانية، وفي مقدمته تراث جورج فيلهيلم فريد ريش هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م).

(٢) كتابات الشباب المبكِّر لكارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م)، وبخاصة المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لعام ١٨٤٤م، التي تحتلُّ فيها فكرة اغتراب الإنسان في ظل مجتمع علاقات الإنتاج الرأسمالي مكانة كبيرة.

(٣) الفلسفات الاجتماعية الألمانية، وبخاصة عند ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠م)؛ مما أثَّر على بحوثهم في علم اجتماع المعرفة والأدب والفن.

(٤) فلسفة التحليل النفسي وفلسفة الحضارة عند سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩م) (خصوصًا بعد تطويرها بمنظور اجتماعي عند فيلهيلم ريش وإريك فروم وماركوز).

(٥) الأفكار والتصورات الماركسية والهيجلية الجديدة، التي عبَّر عنها في العشرينيات من هذا القرن كلٌّ من كارل كورش (١٨٨٦–١٩٦١م)، وجورج لوكانش (١٨٨٥–١٩٧١م)، لا سيَّما في كتابه التاريخ والوعي الطبقي (١٩٢٣م)، الذي عرض فيه لفكرة «تشيُّؤ» الإنسان واغترابه، التي كان لها تأثير قوي على رُواد النظرية النقدية، بجانب التأثر بصورة غير مباشرة بفلسفة الأمل عند أكبر فيلسوف «يوتوبي» في العصر الحاضر، وهو إرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م)، الذي جعل من مبدأ الأمل مقولةً أنطولوجية أساسية نظر من خلالها نظرة موسوعية إلى تطور المادة، وإلى كل إبداعات العقل الأوروبي والتراث الحضاري البشري، ورصد حركته نحو «يوتوبيا» إنسانية لم تتحقق بعدُ ولن تتحقق إلا في ظل المجتمع الشيوعي الذي سيكون — في تقديره — «وطن» الإنسانية والحرية والعدل والإخاء.

(٦) التأثر ببعض أفكار فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الحياة وفلسفة الوجود، التي انطلق منها بعض أعلام مدرسة فرانكفورت؛ مما جعل فلسفتهم تُتَّهم في كثير من الأحيان — كما سبق القول — بأنها ماركسية وجودية. ونخصُّ منهم بالذِّكر هربرت ماركوز، الذي درس في شبابه على يدَي هسرل مؤسِّس الظاهرات (١٨٥٩–١٩٣٨م)، ثم هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) الذي أعدَّ رسالته في الدكتوراه تحت إشرافه، وكذلك هوركهيمر وأدورنو اللذَين لا يخفى تأثير فلسفة شوبنهور (١٧٨٨–١٨٦٠م) ونيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) وفيلسوف الحياة والتاريخ والحضارة وعالم الاجتماع جورج زيميل (١٨٥٨–١٩١٨م) على تفكيرهما الجادِّ، وحسهما المأسوي، وتصورهما المُتشائم لتاريخ العقل البشري بوصفه تاريخ عذاب الإنسان وتعذيبه من قِبل قوًى فظة غاشمة وشبه مجهولة، بحيث بلغ ذروة سلبيته وتجرده من أقنعته الحضارية وتصدعه واغترابه في ظل المجتمعات الصناعية «المتقدمة»، ومع تصاعد الإرهاب النازي ثم الرأسمالي والشيوعي.

***
المصدر:
عبد الغفار مكاوي
كتاب: تجارب فلسفية
فصل: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...