ربع الساعة الأخير في أزمة «سدّ النهضة»

03-07-2020

ربع الساعة الأخير في أزمة «سدّ النهضة»

كأيّ أزمة وجودية، فإنّ تمدّدها في الزمن يستهلك الأعصاب العامة خشية أن تفلت تداعياتها عن أية سيطرة ممكنة. لأكثر من عشر سنوات، تمدّدت أزمة «سد النهضة» في مفاوضات تراوح مكانها، من دون تفاهمات جدية تؤسّس لاتفاق قانوني ملزم، عادل ومنصف، يوفر لأثيوبيا حقها في الكهرباء والتنمية ويضمن لدولتَي المصبّ مصر والسودان الحق في الحياة. كان ذلك مقصوداً ومنهجياً لاستهلاك الوقت، حتى يُستكمل بناء السد ويبدأ ملء خزانه ويصبح من حق أثيوبيا وحدها التحكم في مياه نهر النيل الأزرق، تقرّر الأنصبة والحصص، تمنح وتمنع، كما لو أنه أثيوبي وليس نهراً دولياً يخضع للقوانين الدولية. قرب خط النهاية، أعلنت أثيوبيا أنها سوف تبدأ بملء خزان السد، خلال تموز / يوليو الحالي، باتفاق أو بدون اتفاق مع دولتَي المصب.

فيما يخصّ مصر، تكتسب أزمة المياه أولويتها المطلقة من وجوديتها، فإذا ما تعرّضت لأضرار جسيمة لا يمكن استبعاد سيناريو واحد على حافة الحياة والموت. هكذا طرحت مصر قضيّتها على مجلس الأمن الدولي بأوضح العبارات والصياغات، كل حرف في موضعه، لا تهاون في حق ولا تورط في تهديد، غير أنّ الرسالة لم تخف على أحد. لأول مرة منذ عشر سنوات، تبدّت استراتيجية شبه متماسكة في إدارة الملف الحسّاس، تعرف أهدافها ووسائلها وتتحسّب لخطواتها ووقع كلماتها، فأيّ خطأ يكلّف البلد أمنه المائي ومستقبله ووجوده.

إعادة تعريف الأزمة، مدى عمقها وخطورتها، كأزمة وجودية يفضي تفاقمها إلى إخلال جسيم بالحق في الحياة وإخلال جسيم آخر بالسلم والأمن الدوليين، كان أهم أثر لما جرى في مجلس الأمن. كان ذلك «سابقة» في مثل هذا النوع من المنازعات، وفق تكييف قانوني متماسك ومنذر بالعواقب والتداعيات، لكنّه لم يكن موضع إجماع، فقد ساندته دول واعترضت عليه أخرى ومالت إلى الحياد كتلة ثالثة وازنة.

تستحقّ خريطة مجلس الأمن بتشابكات المصالح والاستراتيجيات، مراجعة متأنّية في حقيقة المواقف وأسبابها واحتمالات تعديلها، فالعودة إليه مرجّحة إذا ما فشلت المفاوضات المقترحة تحت العباءة الأفريقية في التوصل إلى اتفاق ملزم، يتضمّن آلية واضحة لفضّ المنازعات التي قد تحدث مستقبلاً. إلى أي حدّ تتباين مواقف الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن في ملف «سد النهضة»... وما الذي يجب فعله لتأكيد المواقف المؤيّدة وتعديل المواقف المضادّة؟ هذا سؤال أول في موازين القوى قرب خط النهاية.

إلى أي حدّ تُراوح المواقف الأفريقية في النظر إلى حرب المياه التي تكاد تشتعل؟ وما مدى الفرص المتاحة لتعديل المواقف بالنظر إلى عدالة المطلب المصري في طلب الحياة من دون إنكار حق التنمية على أثيوبيا؟ هذا سؤال ثانٍ في صلاتنا بالقارة وضرورات مراجعتها. ما حجم الاستثمارات العربية في أثيوبيا... وما حدود الضغط الذي يمكن أن تقدمه حتى يكون ممكناً التوصل إلى اتفاق ملزم وعادل؟ هذا سؤال ثالث جاء وقته على حد الحياة والموت.

في توقيت متزامن، طُرحت أزمتان على جدول الأعمال المصري، أولاهما ــــــ الأزمة الليبية المتفاقمة، وقد استولت بحكم صراعات المصالح والاستراتيجيات الدولية والإقليمية على قدر كبير من الاهتمام والمتابعة؛ وثانيتهما ــــــ أزمة «سد النهضة»، التي تكاد تؤذن بتفجرها، من دون أن تحظى بذات درجة الاهتمام من اللاعبين الإقليميين والدوليين. هكذا، تصدّرت الأزمة الليبية وشبه توارت أزمة «سد النهضة» على الخرائط الدولية. رغم ما تمثله الأزمة الليبية من مصادر خطر على الأمن القومي عند الحدود الغربية، فإنها لا تقارن بأزمة «سد النهضة»، حيث لا يمكن تدارك تداعياتها على الوجود نفسه. لم يكن مستغرباً أن تعترض أثيوبيا على إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي، ولا أن تشاركها الاعتراض نفسه الدول التي تناصرها. أسّست اعتراضها على أن المفاوضات بين الدول الثلاث قطعت شوطاً طويلاً، وأنّ القارة الأفريقية هي الفضاء المناسب للتوصل إلى حل. كانت تلك مناورة جديدة قرب خط النهاية، قبل إعلان البدء في ملء خزان السد، فلم تكن هناك توافقات حقيقية بشأن إلزامية ما جرى التوصل إليه فنياً، وكل شيء قابل للمراجعة، جولة تفاوض بعد أخرى.

لم يكن ذلك لغياب الإرادة السياسية، كما يقول عادة الخطاب الدبلوماسي المصري، بل كان تعبيراً عن هذه الإرادة حتى يمكن السيطرة على نهر النيل، أو الإمساك بـ«صنبور المياه» من عند المنبع ووضع مصر تحت الضغط والابتزاز بحسب الظروف المتغيّرة وإرادات المصالح المحرّضة. بتوصيف آخر للصراع على المياه، فهو حرب إرادات وشرعيات. فيما يتعلق بمصر فإنها مسألة وجود، كما هي مسألة شرعية حيث الحفاظ على مياه النيل المصدر الرئيسي للشرعية منذ الحضارة الفرعونية. وفي ما يخصّ أثيوبيا، فالتشدّد بالتفاوض مصدر شرعية في ظل أزمات داخلية سياسية متفاقمة بين أعراق متناحرة.

في صراع الإرادات والشرعيات، كان الدافع الرئيسي لأثيوبيا لفتح القناة الأفريقية، تجنّب تراكم الضغوط الدبلوماسية المصرية في ربع الساعة الأخير قبل البدء في ملء خزان السد. هكذا عُقدت قمة افتراضية شاركت فيها قيادات الدول الثلاث مع هيئة مكتب الاتحاد الأفريقي برئاسة جنوب أفريقيا، الأقرب إلى أثيوبيا، قبل اجتماع مجلس الأمن.بحسب إفادتَي مصر والسودان عن نتائج القمة الأفريقية المصغّرة، فقد جرى التوافق على استكمال التفاوض حتى يمكن توقيع اتفاق ملزم خلال أسبوعين، وأن تمتنع أثيوبيا عن ملء خزان السد لحين توقيع هذا الاتفاق. بحسب الإفادة الأثيوبية، فقد اقتصرت على الموعد المقرّر للانتهاء من المفاوضات، من دون إشارة إلى أي امتناع عن البدء في ملء الخزان. ربما يفسَّر ذلك بالأوضاع الداخلية الأثيوبية، وحجم التعبئة السياسية والإعلامية التي يصعب التراجع عنها من دون كلفة سياسية تدفعها الحكومة الحالية في الانتخابات المنتظرة. كما قد يُفسر بأنه إمعان في المناورة قرب خط النهاية لاستهلاك الوقت قبل وضع الأطراف الأخرى أمام الأمر الواقع.

أهمّ ما تملكه مصر من أوراق تفاوضية، هي مصر نفسها بموقعها الاستراتيجي ووزنها التاريخي في منطقتها. الصراع على المياه هو نوع من الصراع على مصر ومستقبلها ووجودها نفسه. هذه هي الحقيقة الرئيسية في كل ما يجري حولنا.

 


عبدالله السناوي 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...