باربارا كاسان: الفلاسفة يلمسون اللغة بقدر ما يلمسون الحقيقة

14-09-2020

باربارا كاسان: الفلاسفة يلمسون اللغة بقدر ما يلمسون الحقيقة

 

  حاورتها: فيكتوريا جيرين
ـ ترجمة: عبد الله الحيمر
هل هناك لغة عالمية للفلسفة؟ أم أن اللغة تخترع نظام المنطق الخاص بها؟ هل يقول العقل الفرنسي الشيء نفسه مثلما يقول العقل الألماني أو الإنكليزي؟ قطعًا لا، ترد باربارا كاسان. كل فيلسوف نتاج لغته وعنصر فاعل فيها، ومشارك في أحداثها بدوره. وهذا ما وصلت إليها الفيلسوفة الفرنسية في عملها الضخم الجماعي، قاموس العمل غير القابل للترجمة «المفردات الأوروبية لفلاسفة». في العمل الذي أشرفت عليه، مستخلصة تفرد كل لغة أوروبية في مفاهيمها الفلسفية. والتي اعتبرت هذه التفاصيل ثراء للفكر الأوروبي الفلسفي المعاصر.
■ هل هناك «لغة فلاسفة» مختلفة عن اللغة اليومية؟
□ من الصعب أن نتحدث عن لغة بالمعنى المفرد الذي استوعبه اليونانيون باللوغوس (كلمة يونانية) التي تعني الكلمة؛ العقل؛ اللغة اليونانية، أو ما يشير له مارتن هيدغر ضرورة الانتباه إلى ما تقوله اللغة، أن تكون على اتصال مع الوجود؛ هذا في حد ذاته جوهر كل شيء. وفي الواقع كل لغة هي رؤية للعالم. يستخدم الفيلسوف البروسي فيلهلم فون هومبولت، التعبير المجازي الجميل الذي يعبر عن مفهوم شبكة صيد الأسماك. فبحسب حجم شبكته، وطريقة إلقائها، والمكان الذي توضع فيه، يمكن أن تجلب أسماكا مختلفة جدًا.
■ ولكن ما علاقة ذلك بالفلسفة؟
□ تدعي الفلسفة دراسة الحقيقة، والوجود، لكنها تدرس العالم كما يقال، ولها تاريخ في هذا المجال، وهي مرتبطة باختراعات اللغة التي تستخدم لقول أشياء جديدة، التي تفلت من اللغة العادية،، أو تفاجئها أو تزعجها احيانا، قبل توسيعها. يعتقد هيغل أن «كل شخص يمكنه أن يتفلسف، ويقدر الفلسفة على الفور، لأنه يمتلك وحدة القياس الضرورية في منطقها الطبيعي»، كما يشير في مقدمة كتابه «فينمولوجيا الروح»، ولكن إذا أعطيت شخصًا جلدًا وأداة، فهو لا يعرف كيفية صنع حذاء، في حين «لديه فكرة عن قدمه كقياس للحذاء»!
■ متى كان هذا يتطلب جعل التأمل الفلسفي سهل المنال وواضحا؟
□ بالفلسفة نفسها! إن حب الحكمة ليس عقيدة باطنية، إنه في أغورا (كلمة يونانية تعني تجمعا تتخذ فيها القرارات، التي تدير شؤون المجتمع اليوناني القديم) وحواره مع الكل؛ هذا مع جعل سقراط في القرن الرابع قبل الميلاد، من إبداع أفكار قوية تجعلنا نفكر، مثل «إعرف نفسك- بنفسك».
■ كيف عمل المترجمون اللاتينيون حتى نتمكن من الوصول إلى الفلاسفة اليونانيين؟
□ الفلسفة، بما في ذلك داخل عالمنا الغربي الصغير، كانت تتم باللغات الأوروبية المتنوعة في القارة. إن النصوص الفلسفية تؤخذ في إطار الحركة العظيمة للترجمة الاستقصائية أو «نقل المعرفة». وفي الوقت نفسه، فإن هذا التحول هو «انتقال للسلطة»، والذي أشار إليه التغيير في لغة الثقافة المستعملة: اليونانية، والعربية واللاتينية، وعبر أوروبا اللاتينية، اللغات التي نتحدثها… كان على الفلاسفة اللاتينيين، اختراع كلمات لقول المصطلحات اليونانية، وترددوا في بعض الأحيان. فأصبحت مثلا كلمة اللوغوس، مع التداول الفلسفي في القارة الأوروبية المعاصرة تعني المنطق والخطاب.
■ هذا ما تقصدين بعبارة «غير قابل للترجمة»؟
□ في الواقع. أسمي «غير قابل للترجمة»، ليس ما لا نترجمه – دعنا نقول إنه يمكننا ترجمة كل شيء، بشكل أو بآخر بشكل جيد – ولكن على العكس من ذلك لا نتوقف عن الترجمة! عدم الترجمة هو أحد أعراض الاختلاف في اللغات. تمت إعادة ترجمة نصوص بارمينيدس أو أرسطو لقرون، ولكن النتيجة دائمًا ما تكون غير كاملة وغير مكتملة. المصطلحات متعددة اللغات أو المتجانسة، على وجه الخصوص، تجعلنا نتغلغل بشكل أعمق في كل لغة، بما ذلك لغتنا. ومن اللغة الإنكليزية أفهم أن كلمة «أن تحب» يمكن أن تعني الحب أو ما شابه، في حين أنها بالفرنسية تعني «أحب»بالفعل نفسه الذي يمكن أن يتحدث به عن الله، أو عن حبيبي أو عن كعكة الشوكولاتة.
■ هل المترجم فيلسوف أيضا؟
□ فعلا هو فيلسوف، ومؤلف، وشاعر. يجب أن يحاول أن يفهم المؤلف بشكل أفضل من فهمه لنفسه! من جهتي، ترجمت نصوصًا بالغة الصعوبة، قصيدة بارمينيدس، وهو نص يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، الذي يشير إليه هيدغر بوصفه «فجر الفلسفة». كنت أتمنى أن أتمكن من تجسيد كل تشعبات المعنى المتاحة لي وتسلسلها، لأنه عندما نعتمد ترجمة معينة للتسلسل معين، فإن احتمالات أخرى تكون مغلقة بعد ذلك. الترجمة مهارة مع الاختلافات، إنها تمرين سياسي في الأخير.
■ ماذا يعني ذلك؟
□ أليس قياس الاختلافات، والانتقال من لغة وثقافة إلى لغة أخرى، التعلم السياسي بامتياز؟ قال ألبرتو أيكو «لغة أوروبا هي الترجمة». والسؤال برمته هو ما إذا كانت هناك «لغة العقل» عالمية واحدة. وأنا شخصياً أعتقد أن العالم بأكمله هو الجميع دوماً، ولهذا السبب أقترح الانتقال على الفور إلى صيغة الجمع. وعلى أي حال، من الضروري تعقيد العالم، وهذا بالنسبة لي هو الطموح السياسي الوحيد الذي يحمله. ويصدق هذا على مدى تاريخ الفلسفة: في مواجهة اللوغوس اليوناني، لا يوجد أي شيء سوى «البرابرة»، الذين يصنعون «كلام بلا معنى»، كما يوحي اسمهم، وربما ليسوا رجالًا «مثلنا». دعونا نحذر من هذا الفصل بين اللوغوس/ والبربرية التي تستمر في الظهور بشكل أو بآخر. إن مسألة «عبقرية» اللغات – كما نرى مع هيدغر الذي كانت بالنسبة له اللغة اليونانية والألمانية لغتين متفوقتين ـ كانت منذ البداية مسألة سياسية، مع ضخامة مشكلة القومية المعقدة.
■ ما هي التعبيرات الفلسفية التي أدت ترجمتها إلى جدل كبير؟
□ لكل مؤلف كلماته الرئيسية الخاصة به، وهي ذات مغزى، لدرجة أنه سوف تكون مترجمة إلى حد غير صحيح دوما. على سبيل المثال، la virtù de Machiavel «فضيلة مكيافيلي»- التي يمكن أن تعني «شجاعة الفضيلة»، أو «فضيلة الثروة»، او «قرار الفضيلة» ـ وكلمة l’Aufhebung من هيغل، التي يمكن ترجمتها إلى «حذف»، و»تجاوز».
■ لقد ذكرت المترجم الشاعر، لكن هل الفلاسفة هم أيضا من يخلقون الحس الشعري نفسه؟
□ إنهم يلمسون اللغة بقدر ما يلمسون الحقيقة. اللغات هي طاقات أكثر من الأنظمة المجمدة مرة واحدة وإلى الأبد. في الفلسفة كما في الشعر، نحن نبتكر باستمرار طرقًا جديدة للتفكير، والفهم العالم والوجود، هذه العروض لا تقول فقط ما هي، بل تصنع ما يقولون.
***
ترجمة عن مجلة LE POINT الفرنسية.
باربارا كاسان
فيلسوفة فرنسية، مديرة أبحاث في المجلس الوطني للبحث العلمي. مؤلفة كتاب «في مديح الترجمة» .

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...