حوار مع الروائي حليم بركات
يتميز الدكتور حليم بركات بأنه عالم اجتماع على مستوى جامعات العالم ودوائره العلمية المختصة بهذا المجال، إضافة إلى أنه روائي كتب ما يزيد على عشر روايات، استفاد فيها من معرفته الاجتماعية لإغناء الكتابة السردية التي يعدها شديدة الالتصاق بالمجتمع وتشكيل الوعي لديه..
وابتداءً من روايته الشهيرة «ستة أيام» الصادرة عام 1961التي استشرف فيها حرب عام 1967، ازداد الاهتمام النقدي بتجربته، إن كان على صعيد الكتابة الروائية أو الاجتماعية، فكتابه الشهير «المجتمع العربي المعاصر» يُدرس في معظم الجامعات العربية، كذلك فإن تجربته الروائية أضافت الكثير إلى الفن الأدبي وأسهمت في تطوره..
هنا حديث مطوّل حول علم الاجتماع، والكتابة الروائية:
ہ باعتبارك روائياً وعالم اجتماع، أيُّ المجالين ساعدك أكثر في فهم وشرح التجربة الإنسانية؟!
ہہ منذ البداية بدأت أعرف أنني أريد أن أكون روائياً، وسألت نفسي هل أدرس في الجامعة لأتخصص بالأدب، أم أتخصص في علم الاجتماع والنفس، فاخترت علم الاجتماع، وذلك ليقيني أنه سيفيدني في كتابة الرواية وذلك لأنه يكشف البنى الاجتماعية وتأثيرها في الأفراد، والعلاقة بين هذه البنى والمؤسسات مثل العائلة والدين والسياسة والطبقات الاجتماعية، وهي عناصر تدخل في بنية الرواية ليس فقط في وصف الشخصية بل في تجارب هذه الشخصية المتأثرة إلى حدّ بعيد بالطبقات الاجتماعية والأوضاع المختلفة لظروف العائلة والدين والسياسية.
إن معرفة بنية المجتمع وقضاياه وطبيعة المؤسسات الاجتماعية، أمور ضرورية لكتابة الرواية، ولكن بما أنني تخصصت بعلم الاجتماع وعلم النفس، أصبحت الكتابة في هذين المجالين ترافقني في التعليم الجامعي حيث درست علم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع الأدب والرواية.. فكتبت بالإنكليزية والعربية حول الواقع الاجتماعي العربي، وأصبحت أُعرف كخبير في المجتمع والثقافة العربية. ہ تقول في إحدى مقالاتك عن العائلة العربية بأنها هرمية على أساس الجنس والعمر.. ما سبب وجود هذه الهرمية، وهل هي خاصة بالمجتمعات العربية أم أنها مرحلة حتمية مرت بها جميع المجتمعات البشرية؟!
ہہ لا أعتبرها ملازمة لجميع التجارب البشرية، وإذا بدأت من نهاية السؤال أقول إن الهرمية في العائلة معروفة في مختلف المجتمعات والحضارات، ولكن هناك قلة من المجتمعات التي كانت السلطة فيها للمرأة أكثر من الرجل، ولكن لم يتم التدقيق في طبيعة سلطة المرأة وإضاءة جوانبها المختلفة بشكل كاف.
العائلة هرمية لأنها تميز على أساس الجنس من ناحية الذكور والإناث وعلى أساس العمر بين الصغار والكبار، السلطة هي للكبار وتحديداً للرجل..
بهذا المعنى بالنسبة لعلاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الكبار بالصغار اعتبرتها هرمية لأن العلاقات ليست أفقية متساوية بل هرمية تتضمن تفاوتاً كبيراً في السلطة، ولكن رغم ذلك تجد أن المرأة أحياناً، تملك سلطة أكثر مما نتصور، وهذه السلطة تأتي من طبيعة الوظائف التي تقوم بها أو من حيث إنها تشعر بمسؤوليتها عن العائلة أكثر من الرجل. الرجل حصر اهتمامه بجمع الرزق وتقديمه للعائلة، لكن المرأة هي التي تدير وتدبر مصالح العائلة وتحرص عليها.. فقوة المرأة هنا مستترة لا تقوم على القوة العضلية أو العنف إنما تعتمد العقل والليونة والمسايرة، ولذلك فإن المقولة الهرمية متشابكة وتحتاج للكثير من الدرس لإلقاء الضوء الكافي على مختلف القوى الظاهرة والمستترة في العائلة.
ہ إذا كانت المرأة العربية كائناً بغيره لا بذاته، أو عبد العبد كما يقولون.. كيف تتم عملية تحريرها؟ هل بتحرير العبد أولاً.. أم بتجزئة هذه القضية وعزلها عن قضايا التحرر السياسي مثلاً..؟!
ہہ أعتقد التحرير يبدأ بحصول تحول في المجتمع، فمثلاً نجد أن المجتمع قد تطور وأصبح يتطلب أن تشارك المرأة في الحياة العامة فتجاوز دورها نطاق العائلة انسجاماً مع هذا التطور الذي أصبح المجتمع بموجبه بحاجة لأن تلعب المرأة دورها وهو لم يفعل ذلك بسبب الضغط إنما بسبب الوظائف الجديدة التي توافرت.
من هذه الناحية، اكتسبت المرأة قوة معنوية، ولكن أيضاً بنشوء الوعي في الكتابات التحليلية ظهر أن المرأة تاريخياً في الثقافة العربية كانت معزولة ومضطهدة إلى حد بعيد، والقوانين القائمة إن كانت مستمدة من الحياة العائلية القبلية أم من الدين والمؤسسات الدينية، كانت تعطي للرجل هذه الأولوية والهالة وتحجب الاعتراف بها علناً...
إذاً، حدث تحوّل في البنى الاجتماعية أدى لأن تلعب المرأة دورها كما حدث وعي جديد ليس فقط بسبب التعامل مع الخارج بل بالتحول الذي بدأ يظهر في المجتمع. هناك تفسير اجتماعي وهناك تفسير نفسي سيكولوجي، في كل الأحوال. لقد نشأ وعي جديد لكنه جاء نتيجة لوجود تحولات اجتماعية على صعيد البنى الاجتماعية فأصبح للمرأة هذا الدور، وأعتقد أن هذا مستمر لذلك فإن الدعوة لمساواة المرأة هي دعوة مرافقة للتحولات الاجتماعية التي تحدث.
ہ كيف ترى مشروع النهضة العربية؟ هل تبدلت أولوياته وأساليبه من الثورة إلى الإصلاح؟ وهل يمكن أن تتغير القوى الحاملة لهذا المشروع بمؤسسات مدنية وأهلية مغايرة للقوى السياسية التقليدية؟!
ہہ الفكر العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ يثير أسئلة هامة تتعلق بهذه المسألة، ابتداءً من تعريف المجتمع وتعريف علاقة الإنسان بمحيطه، فأصبح من الضرورة تحديد الإصلاح الاجتماعي والنفسي والسياسي. الآن نجد الإنسان عضواً في مؤسسات عديدة ويعمل ضمنها إن كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وهو ما رسّخ الوعي بضرورة الإصلاح الذي يمكن أن يبدأ بشكل تدريجي وجزئي ثم يتحول إلى إصلاح شامل. التغيير لا يشمل سلوك الفرد فقط بل سلوك المؤسسات أيضاً، هذا التغيير في رأيي يجب أن يكون تجاوزياً للواقع المعيش، مما يقتضي تغيير المؤسسات التي نعمل من ضمنها، وهذا التغيير التجاوزي أصبح يحتم تغييراً في البنى الاجتماعية ابتداءً من العائلة والمؤسسات الأخرى السياسية والدينية وسواها.
لقد تحول التغيير من المطالبة بتغيير العقلية إلى تغيير البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأعتقد أنه لا بد من البدء بالبنى الاجتماعية لينعكس ذلك على صعيد الوعي، وألا تكون العملية مجرد إصلاح جزئي يطول جانباً معيناً دون غيره.
ہ يقول بعض الباحثين إن من أسباب كوارثنا الكبرى هو تأخر العرب عموماً في الإجابة على السؤال الكبير: من نحن؟! فما رأيك؟!
ہہ طرح الفكر العربي هذا السؤال منذ منتصف القرن، وركز على مفهوم الهوية؛ الأمر الذي أدى إلى وجود ثلاث إجابات أساسية أولها يقول نحن ما هو موجود في الواقع، أي عالم عربي مجزأ فهويتنا مستمدة من هذا الواقع، والبعض الآخر قال إن هويتنا أوسع من الكيان الصغير الذي نعيش فيه فركزوا على ما يمكن أن يسمى اقليمياً سورية الكبرى، أو مصر والسودان (وادي النيل) أو المغرب الكبير وهي مقولات طالبت بها بعض الحركات والأحزاب العربية، والجواب الأخير كان على مستوى أشمل وهو القول بالقومية العربية أي الهوية العربية، أو القول أيضاً بالهوية الإسلامية نسبة للعالم الإسلامي.
طبعاً هذه الأسئلة لا تزال قائمة حتى الوقت الحاضر لأننا فشلنا في التوصل إلى اجماع مقبول أو شامل، وإن كانت هناك كثرة تشدد على أننا عرب ولكن هناك كثرة أيضاً ما زالت تشدد على الكيانات القائمة حالياً، ومن هذه الظواهر أن البلدان العربية كثيراً ما تكون على خلاف مع بعضها، لأن هناك نزعة عند الكيانات التي خُلقت ونتجت ليس بإرادة عربية في معظم الأحيان بسبب التدخل العالمي في المجتمع العربي، وللأسف رغم كل الاهتمام بما هية الهوية إلا أن العرب رضوا بما صُنع لهم وقبلوا بهذا الواقع وأصبحوا يعملون من ضمنه ويحرصون عليه.
ہ تطالب بعض الجمعيات الأهلية والمدنية بتغيير قوانين الأحوال الشخصية خصوصاً المواد المجحفة بحق المرأة، وذلك مقدمة لتحريرها بعدما يئسوا من أفكار التحرر الشمولية التي فشلت في إحراز تقدم في هذا المجال.. فما رأيك؟!
ہہ مثلما أكدنا أن التغيير يقتضي حصول تحول في الوعي لأهمية الحرص على الحقوق الإنسانية، وحقوق الأفراد والجماعات، فلا بد من التركيز على أهمية الحقوق المدنية للأفراد كحق المرأة بالإرث مثلاً أو فيما يختص بعلاقتها بأولادها.. ومن هنا لا بد من طرح سؤال العلمنة، لتجاوز الهوة بين دور المؤسسة الدينية والعائلة وضرورة مشاركة الأفراد والجماعات في الحياة العامة.
ہ احتفل العرب في هذا العام بمرور ستة قرون على وفاة رائد علم الاجتماع ابن خلدون.. ويؤكد الباحثون أننا نمر الآن في عصر يشبه عصر ابن خلدون.. لماذا لم يستفد العرب من مقولات ابن خلدون وأفكاره، في حين أن الغرب بنى الكثير من تقدمه على تلك المقولات؟!
ہہ هذه فكرة هامة، فمن ناحية نحن نحرص على ابن خلدون ونقول أنه مؤسس علم الاجتماع، وهذا اعتراف الغرب أيضاً، لكننا لا نأخذ بمقولاته ولانستفيد منها.
لقد حلل ابن خلدون تحليلاً اجتماعياً وليس دينياً وقال بالعلاقة بين الحضر والبادية، القبيلة والمدنية. لقد ترك التحول في المجتمع يأخذ مجراه واستعمل مفاهيم ونظريات تحليلية.. وأعتقد أنه لا بد من العودة إلى ابن خلدون بعيداً عن التأطير من أجل الاستفادة منه في الإصلاح والتغيير ونشوء وعي جديد.
ہ ما هو السبب وراء سكوت المؤسسات الدينية على التفسيرات اليمينية المحافظة حتى ولو كانت خاطئة، وثورتها أو رفضها لأي محاولة تفسر الدين تفسيراً تحررياً حتى لو كان صائباً..؟!
ہہ أعتقد أن المؤسسات الدينية جزء من بقية المؤسسات الموجودة في المجتمع وفي كثير من الأحيان تتم السيطرة عليها من قبل مؤسسات أخرى كالمؤسسات السياسية مثلاً، وبالتالي فهي جزء من النظام السياسي والنظام العائلي وإذا ما حدث تناقض بين الدين والعائلة، العائلة هي التي تسود؛ أقصد بذلك أنه يمكن للقوانين الدينية والشريعة أن تعطي للمرأة بعض الحقوق التي تنكرها عليها المؤسسات الاجتماعية، والدين بما يماشي هذه المؤسسات مع أنه يتناقض معها، مثلاً استشارة المرأة في الزواج، نعرف أن العائلة هي التي تقرر هذا الأمر، وكثيراً ما يوافق رجال الدين مع العائلة، وإذا حدث تناقض بين الاثنين، نجد أن المؤسسات الدينية تجد نفسها مضطرة لأن تماشي العائلة، أعتقد أن المؤسسات الدينية مرتبطة بالمؤسسات التقليدية في المجتمع لذلك تجد نفسها إلى جانب اليمين مهددة من قبل اليسار، وهذا لا يعني أن اليسار يعطي دائماً تفسيرات صائبة، ولكن الفكر النقدي ليس مقبولاً من المؤسسات الدينية والاجتماعية والسياسية.
ہ إذا انتقلنا إلى فضاء الرواية فهل ترى أن انتشارها بشكل متعاظم يرتبط بأوضاع اجتماعية معينة عند العرب؟!
ہہ يقال إن نشوء الطبقة الوسطى أو البرجوازية هو سبب ظهور الرواية ولكن أعتقد أن البرجوازية لم تقتصر على الرواية، بل أحدثت تغيراً في الوعي، ولكن هناك عوامل خارجية أثرت في هذا الموضوع على اعتبار أن الرواية نجحت في العالم فأصبح هناك شعور بضرورة وجود رواية عربية شبيهة.
الرواية لا تتكلم عن المشاعر، بل عن الوعي وعن معرفة الواقع الاجتماعي، معرفة العائلة وكيف تؤثر بالأفراد وكذلك معرفة الطبقات الاجتماعية والمؤسسات الدينية. لا يستطيع العربي أن يكتب دون أن يتوسع أفقياً وعمودياً في فهم المجتمع، وأنا أعتقد أن الرواية تتبدل وتتغير، أحياناً تركز على الفرد وأحياناً على المجتمع؛ ولكن أصبح تعدد الشخصيات في الرواية مهم جداً ولا أظن أن الرواية تعاني أزمة بهذا المعنى، بل إنها مستمرة في الأدب العربي وقد فرضت نفسها ولعبت دورها في توسيع الأفق عند القارئ، بالنسبة لي عندما أريد أن أدرس العائلة أو الدين فإني أجدهما في الرواية، إذاً الرواية تستطيع أن تتناول المجتمع بشمولية بينما الفنون الأخرى ينقصها هذا النوع من الاهتمام.
أنا متفائل باستمرار تعميق التجربة الروائية العربية وتزايد الاهتمام بها وهي مسألة ترتبط أيضاً بجدية الروائي وإمكاناته الإبداعية.
زيد قطريب
المصدر : تشرين
إضافة تعليق جديد