مسيرة الآلام للشعب الليبي

24-05-2006

مسيرة الآلام للشعب الليبي

تظهر في بعض الصحف الأميركية إعلانات صغيرة تحت عنوان «وظائف في ليبيا»، ويبدو أن الإعلان الأميركي الأخير ببراءة ليبيا من كونها دولة «راعية للإرهاب»، والذي مرت عليه وسائل الإعلام العربية مروراً سريعاً في الأسبوع الماضي، هو نهاية جهود طويلة من الضغوط المتبادلة العلنية والسرية بين الولايات المتحدة وبين ليبيا، وأصبح متاحاً بعد قرار التبرئة العلني البحث عن قوة عمل أميركية للعمل في ليبيا! انه تغيّر جذري لا يستطيع المتابع أن يفهمه للوهلة الاولى.

يتساءل المراقبون باندهاش كيف تقوم الولايات المتحدة بكل مؤسساتها التي تراقب وتقوّم وتفحص المواقف الدولية، وفي الوقت الذي يعلو صوت خطابها عن الديموقراطية على صوت أي خطاب آخر، بإعلان صك البراءة للنظام الليبي، ولم تمض شهور على إعلانها هي اكتشاف مؤامرة ضد الملك عبدالله بن عبدالعزيز كانت ليبيا ضالعة فيها، هذا عدا تاريخ طويل من قائمة الاتهامات الصاخبة، من تفجير ملهى ليلي يرتاده الأميركيون في برلين عام 1986 إلى الاتهام المباشر بالضلوع في تفجير الطائرة الأميركية المنكوبة فوق قرية لوكربي الاسكتلندية عام 1988التي لقي فيها مائتان وأربعون أنساناً بريئاً معظمهم من الأميركان والأوربيين حتفهم المفاجئ.

فوق كل ذلك لم يجر، حتى اليوم، أي تحسن يذكر في الداخل الليبي من حقوق الإنسان إلى الحريات الشخصية، غير بعض الوعود الفضفاضة التي تصدر بين وقت وآخر بـ «الانفتاح» ومراعاة حقوق الإنسان الليبيّ! رغم اكتظاظ السجون الليبية بسجناء الرأي ووجود معارضين يتكاثرون في الخارج.

هل هناك شيء في الخفاء لا يلحظه احد هو الذي دفع الولايات المتحدة باتخاذ تلك الخطوة، ما هو هذا الشيء، هل له علاقة بموضوع اقتصادي نفطي غير واضح على السطح حتى الآن، كون ليبيا من منتجي النفط القريبين من أوروبا! أم هو دور شرق أوسطي سياسي مرغوب من الولايات المتحدة، قد تقوم به الأجهزة الليبية الخاصة أو العلنية في المستقبل القريب، أم هو استثمارات ضخمة في الداخل الليبي ترعاها شركات غربية نافذة! قد يكون كل ذلك وقد لا يكون، إلا أن خطوة سحب اسم ليبيا من دولة راعية للإرهاب طوال تلك السنوات الطويلة وبعد المسيرة المنهكة من دعم مالي للجناح المسلح للحزب الجمهوري في ايرلندا الشمالية إلى العبث ببعض العلاقات الإفريقية الدولية، إلى دولة صديقة يثير الشك ويدعو إلى الارتياب.

في مقالة قديمة نشرها سيف الإسلام القذافي في المجلة السياسية للشرق الأوسط الصادرة في الولايات المتحدة، ربيع غام 2003 أشار إلى موقف والده مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر ونصه قول الرئيس القذافي: «مهما كان الخلاف مع الولايات المتحدة الأميركية، فإن من الواجب الإنساني أن نظهر التعاطف مع الضحايا ونكون معهم في هذه الفاجعة المدمرة». كان هذا الاستشهاد للتدليل على موقف القائد من حادثة 11 سبتمبر الذي دلل به الابن على تفهم الوالد للفاجعة. ويذهب ذلك المقال الى القول أن ليبيا لم تكن في يوم من الأيام متعاطفة مع «المتشددين الإسلاميين» حتى الليبيين منهم المطاردون في الخارج.

الحرب الباردة الأميركية - الليبية استمرت ما يقارب ثلاثة عقود، وتراكمت الأحداث السلبية حولها إلى درجة انه يمكن رصد قائمة طويلة من القضايا السياسية والاقتصادية وحتى المناوشات العسكرية هنا وهناك في لعبة عض أصابع بغيضة. ولم تهدأ القضايا الكبرى المختلف عليها إلا بعدما دفعت ليبيا المبالغ الضخمة (2.7 بليون دولار) كتعويض عما ارتكبته في لوكربي، ومبلغ اقل من ذلك تعويضاً للفرنسيين أيضاً لإسقاط طائرتهم فوق صحراء النيجر في افريقيا.

المتابع للحدث في الصحافة الغربية يتبين له بوضوح أن السبب المعلن والمدافع عنه في تفسير العلاقة الحميمة الجديدة والود المتدفق، كما ترصده الصحافة الغربية، هو «تخلي ليبيا عن أسلحة الدمار الشامل» إلا أن هذا السبب غير مقنع تماماً، إذ أن ليبيا كما ظهر من كل المعلومات اللاحقة لم تكن قريبة من تصنيع يذكر لتلك الأسلحة، بل كانت في بداية البدايات وحتى تلك البدايات كانت معطلة. إلا أن هناك إضافة أخرى الى تلك وهي أن الإدارة الأميركية ترسل رسائل إلى عواصم أخرى شرقية تقول فيها تخلوا عن برامج الأسلحة ذات الدمار الشامل ونحن على استعداد للتعاون في صرف النظر عما يدور في داخل دولكم! مثل هذه الرسالة هي أسوأ ما يمكن إرساله إلى الشعوب حيث تسقط الولايات المتحدة حملتها شبه الدينية للدعوة إلى الدمقرطة وتحرير الشعوب كأساس لإزالة الاحتقان في جب عميق من الشك، ذلك الاحتقان الذي تسبب حتى الآن في كوارث أبرزها كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001.

رأي آخر يتوجه إلى المنحى الاقتصادي في تبرير الصفح الكامل عن أعمال النظام الليبي السابقة، وهو القول إن الإصلاحات الاقتصادية التي تدفع بها وبقوة القوى الغربية الآن، وتظهر ليبيا الرسمية قبولها، من فتح السوق الليبية إلى برامج الخصخصة، يذهب هذا الرأي الى القول بأن كل ذلك سيخلق طبقة رأسمالية تتوسع أو طبقة وسطى متحررة من ضغوط الدولة الليبية يمكن لها في وقت لاحق آن تلعب دورا ليبرالياً أو تحديثياً في المستقبل.

مثل هذا الرأي لا يوجد له دليل مادي على الأرض. فبرامج الخصخصة وفتح السوق المحلي تجري ببطء وتحت رقابة متشددة من المستفيدين الحاليين، كما أنها تواجه صعوبات كبيرة في التطبيق، على رغم كل الدراسات التي تقدمها المكاتب لاستشارية الأميركية للسلطات الليبية.

بقي بعد آخر، وهو أن ليبيا على مدار ثلاثة عقود ونيف من الزمن تعاملت مع كل «الشياطين» على امتداد العالم، فهي تعرف من خلال أجهزتها الكثير من المعلومات الخاصة بتلك المنظمات والقوى والفصائل المناوئة للمصالح الأميركية في المنطقة والتي تنشط لمكافحة النفوذ الأميركي، من هنا فإن لدى ليبيا «منجم» من المعلومات عن كل تلك الفصائل، وتستطيع الأجهزة المختصة الغربية والأميركية الاستفادة من تلك المعلومات وتوظيفها في حملة مطاردة الإرهاب.

التفسير الأكثر سذاجة يقدمه بعض المعلقين الأميركيين وهو أن قرار رفع اسم ليبيا من القوائم السوداء والرمادية يتيح لممثلي الولايات المتحدة في طرابلس مراقبة نشاط ليبيا من الداخل وتقديم النصائح الحاثة على الانفتاح، ودعم كامل لمواصلة مسعى ليبيا إلى الطلاق مع سياساتها السابقة وتبني سياسية جديدة مرجوة.

ربما تكون تلك التفسيرات هي مجموعة من الذرائع لتسويغ الخطوات الودية الأخيرة، أمام نظام تعرف الولايات المتحدة قبل غيرها انه نظام «دكتاتوري» حتى العظم، وان الخاسر الأكبر من جراء أعمال هذا النظام ليس المجتمع الدولي، أنما أيضاً الشرائح الأوسع من الشعب الليبي الذي حرم لفترة طويلة ليس من حقه الطبيعي في ثروته التي بددت على مغامرات عبثية، لكنه - وهذا الأكثر حسماً - حُرم من حريته التي هي الباب الأوسع للتطور لأي مجتمع على الأرض.

يترسخ الاعتقاد لدى كثيرين بأن الولايات المتحدة لا تبحث حقاً في حملتها الدولية عن اجتثاث جذور الإرهاب من منبتها، سواء كانت دولية أو محلية، وإطلاق القوى الحية للشعوب للمساهمة في الحضارة السائدة، بل جل همها هو تحقيق مصالح محدودة لا تخرج عن ضمان أمنها الاقتصادي والعسكري. وبهذه الرسالة تفقد تعاطف كثيرون، أكثر مما فقدت حتى الآن، وتُسقط في الوقت نفسه الحجج التي تقول بها في مناطق أخرى من العالم أبنها المدافعة عن الدمقرطة وحقوق الإنسان.

 

محمد الرميحي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...