أشهد أنني أبصرتها بالعين!

25-05-2006

أشهد أنني أبصرتها بالعين!

المسافة التي تفصل بين قريتي المتربعة على إحدى الهضاب الجنوبية المطلّة على بحر صور وبين الحدود الشمالية لفلسطين لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، ومع ذلك فقد كنت أشعر منذ الطفولة بأنها المسافة نفسها التي تفصلني عن نهاية الأرض. ذلك أن الأفق الذي كان يحدد لي نهاية الرؤية وتخوم الأبصار هو الذي كان يرسم الحدود المفضية الى العدو الغامض الذي لم تتيسر لي رؤيته بالعين المجردة إلا بعد ذلك بعشرين عاماً، حين احتلاله لبيروت. كان العدو يومها رمزا لكل ما كنت أخاف منه، بدءاً من الذئاب والضباع التي كان عواؤها المريب يشق ظلمة الطفولة وانتهاء بالظلام نفسه الذي تناسلت من أحشائه كائنات الخوف وأشباح العتمة وهلوساتها المرعبة.
كانت الحدود أفقاً أخيراً لا أفق بعده. ولم تكن ترتسم فوق خطها البعيد سوى شجرات الكينا الثلاث التي ظلت تنتصب بقاماتها المتخاصرة قبالة عيني المحملقتين، حيث الأودية السحيقة والجبال المكسوة بالبطم والسنديان والينابيع التي تهدر في الأعماق. وفوق تلك المنحدرات التي تفصلني عن فلسطين كنت أسلم ساقيّ للريح وأعقد أحلافاً ثابتة مع الأساطير وقصص الحب التي كانت تندلع من سهرات الشتاء وحكايات جدتي المترعة بالتخيلات والمفتوحة على ماض لا قرار له. وفوق تلك المنحدرات ذاتها استطاع <خالد السكران> مع ثلة من الطفار الهاربين من وجه العدالة أن يشن حربا لا هوادة فيها على رجال الدرك وأن يفتتح باكرا سمفونية الرصاص والرعب التي أصابت القرى الجنوبية الهادئة بالهلع على مدى سنوات عدة. كان ذلك الطافر العنيد في أواخر الخمسينيات هو الذي دشن برصاصاته الغامضة احتفالية الموت والأسئلة وأول من أطاح بهناءة العالم القديم الذي تحول بعد ذلك الى جوقة من الأسى المتواصل.
أخلد خالد السكران الى الصمت لكن الرصاص لم ينته بانتهائه ولم تكد تمر سنوات أخرى حتى تحولت مساحة الصبا الأول الى غابة من القذائف والنيران. ظلت الشجرات الثلاث واقفة بثبات على مرمى البصر لكنها لم تعد الخط الفاصل بين المرئي واللامرئي، أو بين فردوس الطفولة وجحيم العذابات. فمع قيام الشريط الحدودي خرج العدو من مرابضه ليجتاح كل تلك الأماكن التي تحصنت فوقها ملاعب الصبا وحكايا الجدة وأساطير العشاق. ورغم أن القرية ظلت بمنأى عن الاحتلال إلا أنها تحولت الى خط تماس يومي مع الألم وساحة دائمة للعراك بين الأحلام والكوابيس. لأكثر من عشرين عاما خلت وأنا أقطع المسافة المفضية الى لقاء الأهل على ضوء النيران وفي عهدة الطائرات المغيرة. وباستفحال القصف والكمائن والغارات كان الناس يتناقصون والموت يتزايد باطراد، وكان الشعر على هشاشته يحاول جاهداً أن يحقق التوازن وأن يحمل الى القصيدة ما تيسر له من روائح الأمكنة ونداءات التراب وقصاصات الفضاء المتواري. غير أن أناسا آخرين كانوا يعلمون بما لديهم من صلابة العقيدة ورجاحة الفكرة أن الشعر وحده لا يكفي وأن فصاحة اللغة لا يمكنها وحدها أن تدفع الاحتلال الى الخلف إذا لم تكن مقرونة بفصاحة الدم وبلاغة الاستشهاد.
أول ما خطر لي بعد التحرير واندحار الاحتلال هو الذهاب لرؤية الشجرات الثلاث الواقفة منذ أكثر من نصف قرن على ضفاف بركة ريشة. لعلي كنت أريد من خلال ذلك معاينة التخوم الأخيرة لمسرح طفولتي الناقص. ولأن أبويّ لا يزالان لحسن الحظ على قيد الحياة فقد أردت لهما، مع الأشقاء والشقيقات، أن يكونا هناك لكي نتشارك جميعا في احتفالية الحلم المستعاد. السيارتان اللتان أقلتانا الى هناك بدتا للحظة وكأنهما تسيران في الزمان لا في المكان وتمخران بهدوء عباب تلك السنوات الكثيفة التي تحولت الى غابة من الترجيعات. فجأة انشقت الطفولة عن سرابها القديم ووجدتني ألامس بعينين جاحظتين الجذوع العظيمة الهائلة لشجر التنهدات الأم. راح جسدي يصغر شيئا فشيئا ليعود الى حجمه الأول في حين راحت الشجرات ترتفع الى الأعلى وتنشب جذوعها الصلبة في خلاء الحرية العاري. تذكرت ساعتئذ ما عناه محمود درويش في قصيدته المغناة: <كنا صغيرين والأشجار عالية/ وكنت أجمل من أمي ومن بلدي>. وفي حين كان الشطر الأول من البيت مؤاتيا تماما لتلك اللحظات رحت أنظر بدهشة بالغة الى قامة أمي التي تحولت ساعتئذ الى شجرة رابعة. شجرة تشبه الأرض وتتحد بها في ذروة التبادل بين الطبيعة والكائنات. شجرة الأسلاف الذين استطاعوا عبر الحنين والشجن والتشبث بالمعنى أن يوقفوا الخرافة على قدميها ويحولوها الى حقيقة قائمة من لحم ودم.
<ضيعانك يا فلسطين>. تلك كانت العبارة الأولى التي أطلقتها أمي بعفوية حارقة ونحن نتقدم بعد ذلك الى موقع <اللبونة> المحرر على الهضاب الجنوبية لبلدة الناقورة. ففي نقطة من نقاط الحدود انبجست على امتداد النظر سهول فلسطين المتصلة بالبحر من طرفها الغربي وببساط الخضرة المترامي الذي يتمرغ من جهة الجنوب عند قدمي الكرمل. الشجرات الواقفة على يسار المشهد لم تعد نهاية المطاف ولم تعد أفقاً أخيراً لعيني الطفولة الغاربة منذ أربعة عقود. فقد باتت البصّة ونهاريا وترشيحا وعكا على مرمى النظر تماما. في مستطاع الطفل هذه المرة أن يحلم بأفق آخر ولو كان محفوفا بالعثرات وصيحات الحرب. وبركة <ريشة> التي استلزم الوقوف بإزائها بركة موازية من الدموع والدم ليست سوى الأولى من البرك والبحيرات المسيجة بالأسلاك والأشلاء. إنه حلم حالم، على الأرجح. ولكن، أليست الأحلام هي ضفاف اليقظة وبداية الوقوف على خطها الأزرق!

 

شوقي بزيع

 المصدر: السفير

 

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...