لوز كوليت بهنا الحلو

27-05-2006

لوز كوليت بهنا الحلو

"الجسد هو البلاغة، وكل اللغات الأخرى هراء فضفاض": بحياكة دقيقة حول مقولة غادة السمان هذه، ستتكثف لغة كوليت بهنا في القصة الأولى من مجموعتها الثالثة، "لوز مر"، الصادرة أخيرا لدى "دار بيسان للنشر والتوزيع" في بيروت. وبتلك البلاغة، بلاغة الأنوثة، سيصير جسد نانا، الأنثى المطلقة، أجمل من كل تمثال قد يصنعه الرجل، رجلها، وسحرها المتضوّع يحيله (أي الرجل) مؤرخاً لتاريخ أنثاه، مؤرخاً لتاريخها بكليته، بصورة دالّة على عودة التاريخ إلى أساسه الأول: الأنثى.

وقت تسرد كوليت بهنا، تاريخ تشكّل الأنوثة، تتهادى مع مراحلها باتساق جميل، منذ الاكتشاف البدئي المحفوف بالخجل، وبالرغبة المسعورة في إخفاء حقيقة كانت مجهولة، حقيقة تكوّر الأنوثة، كرتين طريتين صغيرتين تسترخيان مثل عجين ناعس مخمّر. حيث تصير السوتيانة، عنوان الأنوثة، عاراً ما بعده عار. ثم المرحلة التالية وهي اليقين من وطئها، وطء الأنثى، تلك العتبة: عتبة كونها امرأة كاملة فخورة متباهية بكائنَيْ الأنوثة الصغيرين، اللذين لم يعودا صغيرين، واللذين يتقدمان جسدها، حرين منفصلين بكينونة خاصة. مرحلة اتخاذ العنوان. ثم، وفي مرحلة ثالثة، تندمج ككل أنثى في مجتمع يفرزها لمهمة وحيدة هي الأمومة. لكن كوليت بهنا تفاجئنا بالفقد، في نهاية سفر الأنثى هذا، الفقد الصادم: استئصال الأنوثة. كأن هذا الإستئصال شرط لازم ليستطيع الكائن، الذي فقد مظهر أنوثته - عنوانه، متابعة الحياة ليس إلا.

ينطفئ اللهب في قصة "قمران من لهب"، كنهاية تترك في الحلق طعم المرارة، لتنسحب هذه الطعمة القابضة والحارقة على صفحات المجموعة كلها وقصصها الإحدى عشرة. "أنا لا أحب فلسطين. أمقتها. أنا أنا أنـ. أكره. إني أهلوس الليلة. متعب غداً. عفواً فلسطين. أنا. أنا لا أحب فرع. فلسطين": بهذه القصة التي ليست قصيرة جداً، ستُدخل كوليت بهنا مزاجاً آخر منقطعاً عن مزاج الجسد السابق، تقارب فيه فكرة الطاغية.

وهي إذ تحاول أن تكامل الفكرة في قصص ثلاث، فإنها تعبث على وتر الراوي في الثلاثة. وبذلك تسترق النظر إلى الفكرة كمن يناظر تمثالاً مكتملاً من مختلف جهاته: الجهة الأولى بلغة الكاتب الذي يفجّر شبح الطاغية قلمَه (في قصة "لعنة الفراعنة")، والثانية بلغة الطاغية نفسه حيث يؤسس لشرعنة طغيانه (في قصة "الطاغية")، أما الجهة الثالثة فهي بلسان هامشي ابتسمت له الحياة في لحظة الموت لتتوافق لحظة منيته ولحظة منية الطاغية (في عاشر قصص المجموعة المعنونة: "للمرة الثانية").

في هذه القصص الثلاث، التي أصرت كوليت بهنا فيها على اقتناص السرد بلسان البطل، يراوح القص بين التأثير العميق حدّ ترك طعم المرارة إياه في الفم، حين تسرج خيل الكاتب الذي سكن فرعون حياته، وجعل قلمه ينضح ضد الطاغية، ووقت مات الطاغية، "مات محرض كراهيتي وقلمي"، مات الباعث الحقيقي، والوحيد هنا، للكتابة، وكأنهم عملوا على فرعنة فرعون كي يبقى نسغ الخلق ضده مشتعلاً! لكن السرد سيجنح نحو الانخفاض حين تتحدث الكاتبة عن الطاغية بلسانه. هنا تقع في بعض الهنات التي تتعلق بأعماق شخصية الديكتاتور. كأنها تنسى، أحياناً، أن الديكتاتور يبرر الخراب، دوماً، وينظّر للدمار الذي يؤججه. كل ديكتاتور طبعاً بتفرده الديكتاتوري الخاص. لكنها رغم ذلك استطاعت أن ترسم لوحة موحية تعجّ بألوان الهامش: الذل والخيبة والحياد. وبألوان المتن: السلطة والمطلق والطغيان. لوحة موحية تتمّمها في قصة رابعة، "يوم الأربعاء"، بالسيطرة الأمنية التي توظّف حتى العصافير لتكون على غرار المخبرين، مستخدمة مقدراتها "الزقزقية" الآسرة للإيقاع بالخارجين على القانون العرفي.

كتابة القصة القصيرة تشبه إطلاق السهم، لا يوجد في جعبة الكاتب سواه. وهنا، بحسب مقولة لطيفة لإيزابيل الليندي، لا بد من توافر غريزة رامي القوس الجيد، ودقته، والقوة اللازمة للإطلاق، والعين القادرة على قياس المسافة، والسرعة في الرمي، والحظ الطيب لإصابة الهدف. على هذا ستنجح كوليت بهنا في توليف هذه الشروط، في معظم قصصها، لكنها ستقع أيضاً، ربما بسبب الحظ غير الطيب أو عدم السرعة في الرمي، في فخ التنظير والمباشرة في قصص أخرى، ليس باللغة - الشكل التي تحاول أن تنأى بها عن ذلك، وإنما بالموضوع - المعنى الذي لا يكاد يأتي بجديد، وخصوصاً في قصتي "بالمجد والكرامة" و"وسخ". أما إصرارها على الإمساك بدفة القص على لسان الطفل، المرأة، الطاغية، العبد، وحتى السجين، فيجعلها، بداهة، تتنقل بين مستويات السرد من أداء عالٍ ينجح الى حدّ التماهي مع الراوي الأصل، إلى أداء منخفض نوعاً ما لا يشفع له جمال اللغة وانسيابها الرشيق.

القصة الوحيدة ربما، أو شبه الوحيدة، التي تتنازل فيها كوليت بهنا عن دفة القص، وهي الأخيرة في المجموعة، تترك فيها المرارة لحبة اللوز الهاوية من فوق الغصن. كأنها تحاول، بنقلها المحايد للحكاية، كراوٍ خارجي، الابتعاد عن مصير نُساق إليه كالمسرنمين، مصير لوزة تنزف سائل قلبها الذي تفوح منه رائحة غريبة، رائحة تجعلها تنكفئ على ذاتها وقت تدرك أنها صارت مرّة، بل مريرة أكثر من العلقم.

إلامَ كانت تريد كوليت بهنا أن تدّلنا؟ ربما إلى تلك الحافة التي يأتي عماء المرارة بعدها. حافة تتكسر عندها غواية الأنوثة وتتلاشى لتسود سطوة الطغيان وأشباح النفوس الصغيرة. ربما كانت تريد أن تقول قبل أن يصبح طعم المرارة هو الطعم الوحيد الذي تكتنفه أفواهنا.

 

روزا ياسين حسن

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...