يا حضرات المبدعين : الدين أيضاً لاتجوز الوصاية عليه

12-03-2006

يا حضرات المبدعين : الدين أيضاً لاتجوز الوصاية عليه

جمال البنا

ثارت مرة أخري قضية حرية الفكر والكتابة والإبداع لمناسبة ما قيل من أن ناشراً قرر نشر رواية "أولاد حارتنا" وأن الأستاذ الكبير نجيب محفوظ اشترط أن يصرح الأزهر بهذا النشر. وأن يكتب مقدمتها أحد العلماء لقد انتقد بعض الكتاب هذا القرار، وفاتهم ... أن الاستاذ نجيب محفوظ قد وضع الأزهر في مأزق كان في غني عنه .. فإذا رفض الأزهر فسمعني هذا أنه يؤيد عدم النشر وإذا قبل فمعني هذا إنه يمنحها بركته ويعطيها مشروعيته وهذا هو التكييف الدقيق لهذا الموقف من المفكر الكبير أو ليس أي تكيف آخر.
إن الذي أثارني أن كل الكتاب الذين عرضوا لهذه القضية أكدوا رفضهم لأن يكون للأزهر وصاية علي الأعمال الفنية والروايات المسرحية الخ ... وما يسمونه الابداع ولهم الحق في هذا .. ولكن الذي ليس لهم الحق فيه هو أن يعطوا الأزهر وصاية علي الكتابات الدينية وكأنهم اشتروا حريتهم بتقييد حرية الآخرين وارادوا مصانعة الأزهر بعد أن حرموه حق مراجعة اعمالهم. ودللوا بذلك أنهم لا يؤمنون بحرية الفكر التي لا تتجزأ، وأنهم إنما يدافعون عن أنفسهم، أو عن مصالحهم، ولو كان لديهم إيمان بحرية الفكر لما تطوعوا بإعطاء الأزهر حق الرقابة علي الكتابات الدينية.
هل لم يعرف هؤلاء السادة أن حرية الفكر إنما بدأت بالثورة علي احتكار الكنيسة للفكر الديني، وأنه من هذا المجال - مجال الدين - انطلقت صيحة الحرية، وأنه من هذا المجال بدأ انبعاث العقل والضمير .. وما عسي أن تكون الكتابات "الإبداعية" كما يقولون - إذا قيست بقضية الفكر العظمي وهي الدين التي هي في صميم ضمير كل واحد..
ألا تعلمون أن الوصاية علي الفكر الإسلامي إنما تعني استمرار طوفان الخرافات الشائعة، والأحاديث الموضوعة، والآراء الشاذة والخطاب الدين السقيم الممجوج ومقاومة كل تجديد، وما يعنيه هذا كله من إبقاء الجماهير في ظلمات الجهالة والخرافة وتعطيل ملكات الفكر، فهل يرضيكم أن ترتعوا في حرية لرفض الرسم والشعر و "الإبداع" وإيمان عامة الشعب حبيس في الطرق المسدودة والمستنقعات الراكدة وتهال عليه الغشاوات ويحال بينه وبين الاجتهاد والتفكير والإبداع.
في يوم ما قلنا ان الحرية "يتيمة" في مصر، وأنه لا أحد يؤمن فعلاً وحقاً حرية الفكر كاملة غير منقوصة، فالذين يدعون "الإبداع" يدافعون عن إبداعهم المزعوم حتي لو كان "خربشة" وتهاويم أو كان صورة تفهم بالمقلوب وكلاما لا هو شعر ولا هو نثر. والذين يطالبون بالحرية السياسية هم أبناء قتلة الحرية من ماركسيين ولينينيين وقوميين وناصريين، فهؤلاء جميعا لا يؤمنون إلا بديكتاتوريتهم. وكان من السهل علي الدولة أن تحتويهم بوضعهم في مناصب الإعلام الكبري ليسبحوا بحمد دولة الفساد والديكتاتورية لأنهم لم يخسروا وبالطبع لا يمكن ان ننتظر الحرية من المؤسسة الدينية.
يجب أن يفهم كل من يعمل في مجال الفكر سواء كان فكراً دينياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، أو أمنيا، ان الحرية أمر مقدس لهم جميعاً، وأن يؤمنوا بها، لأن البديل عنها هو - بالنسبة لهم - الموت. ومن هنا نفهم الصيحة التي رفعها أحد أبطال معركة الاستقلال الأمريكي "أعطني الحرية .. أو الموت"..
وإذا كان هناك حق للأزهر فإنه يجب ألا يزيد عن مراجعة طبعات المصحف حتي يتأكد عن عدم وقوع أخطاء أو تحريف فيه. أما ما عدا هذا، فإنه يكون خروجاً صريحاً علي الفرض الذي قام من أجله، وافتيات لا شك فيه علي حرية الفكر فالأزهر جامعة تعلم وتشيع العلم والمعرفة وليست بوليسا يطارد المفكرين ويصادر بحكم الضبطية القضائية الكتب المغضوب عليها.
إن القرآن الكريم لم يعط الرسول من سلطة علي الناس إلا سلطة التبليغ، فهو ليس حفيظاً عليهم ولا جباراً، بل ولا وكيلا عليهم .. فكيف يعطي الأزهر نفسه حقا لم يعطه القرآن للرسول ..؟
وعندما قال القرآن - وكرر - "من اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها" فإنه قرر مبدأ "شخصية" و "خصوصية" الإيمان والكفر، الهدي أو الضلال وأنه أمر خاص بصاحبه فلن يفيد الله تعالي إيمانه، ولن يضره كفره، فالأمر إليه ومن ثم فلا يجوز للنظام. ولا لهيئة ولا لأشخاص التدخل في هذا الأمر إذا كان الغرض حماية العقيدة. ففي المجتمع الإسلامي من هم أكثر تأهيلا، وقدرة. للقيام بها بحكم إيمانهم. لا بحكم الوظيفة، ولا بوازع السلطان.
والحماية الحقيقية للفكر الإسلامي هي إبراز مزاياه، وتفنيد دعاوي المدعين حجة بحجة وبرهانا ببرهان. وليس بمحاكمة المؤلف ومصادرة الكتاب، ان هذا هروب من المعركة الحقيقية وتحويلها من المقولة التي يجب أن تكون محور العمل إلي القائل. ولن يمس المقول كل ما يفعل بالقائل فستظل قائمة والإجراء السليم للقضاء عليها هو إبراز خطئها وركاكتها. وبهذا تسقط اما محاكمة المؤلف فستجعله بطلاً من أبطال حرية الفكر، وأما مصادرة كتابه فستعطيه دعاية مجانية لا مثيل لها وستؤدي إلي طبعه في بلاد أخري وستدفع من ثمنه. فيا أيها الذين تدعون الإبداع كونوا دعاة لحرية الفكر عامة وفي كل المجالات.
واعلموا أن تقييد الحرية الفكرية في مجال سيتبع تقييدها في مجالات أخري   


موقع/ جود نيوز فور مي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...