كوميديا سوداء عابرة في «مشهد عابر »
حين تتوارى القيم والمبادئ خلف المصالح الشخصية, وتغيب الحقوق, ويصمت المظلومون تحت وطأة القهر والخوف, هل يمكن لهؤلاء أن يتسامحوا مع مسببات عذابهم في لحظة ما؟ سؤال جوهري نسج حوله الأديب السوري فواز حداد تفاصيل روايته الجديدة «مشهد عابر» التي صدرت اخيرا عن دار الريس في بيروت, بدأ من المسرح ومن صحفي مهمّش, هو الضحية والشاهد على حياة تعبر بنا من خيبة إلى أخرى, وانتهى في المسرح أيضا حين تماهى صوت الراوي مع صوت الضحية ليقولها بصريح العبارة: «لا لن أغفر... لا أحد يستطيع أن يعوضني حياة بطولها»... وإذا كانت الرواية الجديدة تختلف في العمارة والأسلوب واللغة عما سبقها من أعمال المؤلف, فهي تلتقي في سمة أساسية طالما ميزت كتاباته, وهي جعل الفن والمرأة مفاتيح للكشف عن انتهاكات سافرة وجرائم أخلاقية مريعة, تستدعي الوقوف مطولا والتأمل مليا والمساءلة.
الرواية التي تتوزع على أربعماية وعشرين صفحة قطع متوسط, وتضم بين دفتيها اثنين وثلاثين فصلا, تستقي مفرداتها الأساسية من فن المسرح بدءا من العنوان, وهي تفتتح أول فصولها بدعوة صحفي اعتزل الكتابة إلى عرض مسرحي يتناول موضوع الحب والكراهية, وبامرأة غريبة تجلس إلى جواره تحذره من الانتقام, وتنتهي بدعوة الصحفي إلى عرض آخر في موسم الختام يتحدث عن التسامح. وبالمرأة الغريبة نفسها التي تدعوه هذه المرة إلى الغفران, وبين شطري البداية والنهاية التي تفترضها تداعيات العرض, تتفرع الأحداث وتتقدم الشخصيات تباعاً. تظهر أولا عشيقة قديمة للصحفي, كانت ممثلة مسرح طموحة, فكتب عنها, وارتبط بها في علاقة عابرة, ثم افترقا. بعدها هجرت الممثلة المسرح, وتحوّلت إلى الإعلانات, ووثّقت علاقاتها بعدد من الأغنياء وأصحاب النفوذ. هذه العشيقة القديمة تظهر مجددا في حياة الصحفي بعد طول غياب, تهدده بالانتقام لأنه لم يتزوجها, وتتهمه باغتصاب أختها. وفي دوائر القضاء وملابسات التحقيق في الجريمة تتناسل الشخصيات, وتتطور الأحداث وتتبلور صور الفساد والرذيلة, لترسم واقعا مظلما يحاصر بطل الرواية ويقهره حيثما توجه دون سبب موجب غير نزاهته الأخلاقية التي على الرغم من سلبيتها تملي عليه مواقفه وسلوكه إزاء ما يجري حوله في السر والعلن.
وعلى أساس هذا المتن المتشابك الأبعاد والأعماق جاءت عمارة الرواية شبيهة إلى حد كبير بعمارة «ألف ليلة وليلة» فهناك حدث أولي هو الدعوة إلى المسرح, تتفرع عنه حكايا وقصص مستقلة ومترابطة في آن, كل منها يروي سيرة شخصية ما, تقود بدورها إلى سيرة أخرى, إلى أن تعود في الختام لاستكمال خطوط الحدث الذي بدأت منه, مشكّلة بذلك دورانا حلزونيا حول مركز مغلق أقطابه الضحية والجناة, فباستثناء أحمد ربيع الرجل المثقف النظيف الذي ينتمي إلى شريحة المحرومين الصامتين, والذي ساقه قدره الظالم للغوص في عوالم طالما عارضها في أعماقه, فإن بقية شخصيات الرواية هي نماذج بشرية تنتمي إلى تلك الشريحة الاجتماعية الطفيلية التي اغتنت بواسطة الكسب اللامشروع واستغلال مناصبها ونفوذها, شريحة المدّعين والفاسدين والمارقين على القانون.
وفي محاولة لرسم صورة واقعية لسلوكات تلك الشريحة الاجتماعية ومنطوقها اللغوي, لجأ المؤلف في كثير من الأحيان إلى لغة الشارع واستدرج الألفاظ البذيئة والتعبيرات السوقية. وعلى خلاف رواياته السابقة التي كانت أحيانا تستلهم الأحداث التاريخية المعاصرة, وأحيانا تشطح بجوانب تخييلية عالية, نجده في «مشهد عابر» ملتصقاً تماما بالواقع وشخوصه من دون كنايات أو مجاز. فهي المرة الأولى التي يستند فيها إلى الأسلوب الواقعي المباشر مركزا فقط على حرارة الصدق وجاذبيته. ومع أن تفاصيل الرواية ومقولتها تنطلق من الراهن واليومي وتصب فيه, فقد اتبع الكاتب تقنية الراوي الخارجي العليم الذي قصّ علينا حكاياه بكثير من السرد وقليل من الحوارات والمنولوجات, وطبيعة الأحداث والشخوص التي ساقها السرد الرشيق حملت الكثير من المفارقات والمواقف الساخرة, ووضعت الرواية في إطار الكوميديا السوداء.
ومع أن الرواية تعتمد الأسلوب الواقعي والصوت الواحد, لكنها في الوقت ذاته متعددة الطبقات غنية بشخوصها وأحداثها, مشبعة بالدلالات والرموز, مدهشة بجرأتها العالية, جرأة لم يعرفها الأدب السوري من قبل, فقد سمت الأشياء بمسياتها, وتحدثت عن حكومة الظل, وفتحت ملفات الفساد والمفسدين الذين قضوا على حيوات السواد الأعظم من البشر الضحايا المتوارين في شخصية أحمد ربيع حين قال: «لقد انسحبت من الحياة مبكرا لم أرد المشاركة في ما يجري. أردت أن أكون واحدا من هؤلاء الذين لا يسترعون الأنظار, مجرد رجل عادي تماما, لكني لم أفلح, كان بإمكانهم اقتحام حياتي ساعة يشاؤون».
الكتاب: «مشهد عابر», رواية في 420 صفحة قطع متوسط. المؤلف: فواز حداد. الناشر: دار الريس/ بيروت 2007.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد