بلال الحبشي أول إعلامي في الإسلام

09-06-2006

بلال الحبشي أول إعلامي في الإسلام

الجمل: يقول الله تعالى: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنو وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))[سورة العصر].
نبذة عن حياة بلال الحبشي (ر):
هو بلال بن رباح واسم أمه حمامة وكانت امرأة ذات حظ من المعرفة والفهم، ويكنى أبو عبد الله ، وأبو عمرو، وأبو عبد الكريم، وقد ولد في بلدة السراة في الحبشة، وتاريخ ولادته غير معلوم.
كان والده من أهالي الحبشة (والحبشة آنذاك كانت تعني السودان أيضاً) وقد حُملا كأسيرين {الأب رباح وابنه بلال} إلى شبه جزيرة العرب وفي جزيرة العرب أصبح بلال غلاماً لأمية بن خلف الذي كان يعتبر من كبار قريش. وكان بلال أسمر اللون (أقرب إلى السواد) طويل القامة نحيفها.
ومنذ بدء الدعوة بادر بلال إلى اعتناق الإسلام حيث وجد فيه ضالته فكان من السابقين، حيث قال عنه رسول الله (ص): (بلال سابق الحبشة).
وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن ابن مسعود (ر) قال: (أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله (ص) وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد رضي الله عنهم) [حياة الصحابة ج1] وقد كان مشركو مكة يمارسون ضده أشد أنواع التعذيب بهدف أن يمنعوا شباب مكة وعبيدها من اعتناق الإسلام من خلال بث الرعب والخوف في قلوبهم ولكنه لم يكن ينطق سوى كلمة "أَحَدْ" وقد تألم النبي (ص) كثيراً لوضع بلال وطلب من أبي بكر أن يسعى لعتقه فاقترح أبو بكر الصديق(ر) على أمية بن خلف شراءه أو تبديله.
وكان المشركون قد ضاقوا ذرعاً بمقاومته، فوافق أمية على بيعه لأبي بكر، وبعد أن اشتراه أبو بكر أعتقه فوراً وبذلك أصبح بلال حراً، وقد سُرَّ النبي (ص) والمسلمون بذلك أيما سرور وبعد ذلك أصبح بلال يعيش إلى جانب النبي(ص). وقد هاجر بلال إلى يثرب مع غيره قبل الرسول (ص) وفي يثرب مرض وأصابته الحمى، ومع ذلك فقد دفعه حبه لرسول الله أن يجلس عند نهاية الطريق الواصل من مكة إلى يثرب لساعات طويلة منتظراً وصول الرسول (ص) رغم مرضه الشديد.
وفي يثرب (التي أصبح اسمها المدينة) اعتبره النبي (ص) أول مؤذن في تاريخ الإسلام وذلك بعد نزول الأمر الإلهي بإقامة الأذان في السنة الأولى من الهجرة.
وكان بلال يشارك في المعارك بشجاعة ففي معركة بدر كان جيش الكفار على وشك الهزيمة وإذا بأمية بن خلف يحاول اللجوء إلى عبد الرحمن بن عوف حين شعر بالخطر على حياته إلا أن بلالاً رآه وحرض المسلمين على قتله وهجم عليه مع طائفة من المسلمين وتم قتل أمية على يد بلال كما جاء في بعض الروايات.
تزوج بلال خلال سفره إلى اليمن بفتاة من قبيلة بني ليث تدعى هند الخولانية ولكنه لم يرزق منها بأولاد. وكان فتح مكة حادثاً مهماً في حياة بلال حيث مكنه النبي (ص) أن يذهب إلى بيت عثمان بن طلحة ويأخذ منه مفاتيح الكعبة، وبالفعل نفذ بلال هذه المهمة وفتحت الكعبة وشارك بلال في تطهيرها من الأوثان. وعند الظهر أمر النبي بلالاً أن يصعد الكعبة ويؤذن. وكانت علاقة بلال بأهل بيت النبوة وثيقة جداً فقد روي أنه تأخر ذات يوم عن الأذان فسأله النبي (ص) عن سبب تأخره فقال بلال: إنه بينما كان يمر ببيت فاطمة (ر) سمع صوت بكاء الحسن (ر) فاستأذن ودخل ورأى فاطمة مشغولة بالطحن والطفل يبكي فاستأذنها أن يطحن بدلاً منها كي تنشغل بالطفل وهذا ما أدى إلى وصوله متأخراً إلى المسجد فما كان من النبي (ص) إلا أن دعا له. وفي معركة حنين كان بلال من بين الكوكبة التي تولت الحفاظ على حياة رسول الله(ص). وكانت وفاة النبي(ص)  خسارة كبيرة في حياة المسلمين عامة وفي حياة بلال خاصة حتى أنه امتنع عن الأذان بعد وفاته(ص). ثم غادر بلال المدينة إلى الشام، وتوفي فيها سنة 18 أو 20 هجرية على أثر إصابته بالطاعون وقد جاوز الستين من العمر، ودفن بمقبرة قديمة بدمشق وهي مقبرة الباب الصغير ولا يزال قبره قائماً حتى الآن، ونقلت عنه طبقات ابن سعد /44/ حديثاً.
نظرة عامة على مفهوم التبليغ: (أي الإعلام بالمعنى المعاصر):
التبليغ والإبلاغ في اللغة يعني إيصال الشيء إلى غاية هدفه وحين يستعمل التبليغ والإبلاغ ثقافياً نقصد به إيصال البلاغ عن طريق المبلِّغ إلى المخاطَب.
وفي العرف الإسلامي لا يكفي إيصال البلاغ إلى سمع المخاطَب وحواسه الظاهرية بل يجب أن ينفذ إلى عقله وأفكاره ويصل إلى روحه وأعماقه.
إن إيصال البلاغ إلى الحواس أمر سهل ولكن إيصاله إلى عقول وأفكار الناس أمر صعب والأصعب هو إيصاله إلى القلوب، بحيث ينفذ إلى أعماق روح المخاطب ليسيطر على كافة إحساساته ويمتلكها، وبناء على ذلك فإن واجب المبلِّغ في العرف الإسلامي هو إيصال البلاغ الرباني والمُثل العليا إلى أعماق الذات الإنسانية.
وللتبليغ أربعة عناصر أساسية وهي: البلاغ (مضمون الإعلام) والمبلِّغ والمخاطَب وطريقة التبليغ (الوسائل والشكل):
فالبلاغ (مضمون الإعلام) هو الفكرة والعقيدة التي يريد (الإعلامي) المبلِّغ إيصالها إلى الآخرين ويجب أن يكون البلاغ خالي من الإبهام والتعقيد ويجب أن يكون هدفه بيّن وواضح، لكي يتمكن المخاطَب التجاوب معه.
إن القرآن الكريم يعتبر أن واجب النبي هو إبلاغ البلاغ الواضح ((ما على الرسول إلا البلاغ المبين))[سورة المائدة].
أما المبلِّغ (الإعلامي) فهو عامل أساسي في نجاح التبليغ من حيث شخصيته وسعة صدره ((رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)) [سورة طه] وعلى المبلِّغ أن يكون واعياً ويشعر بمسؤولية كاملة بالنسبة لمستقبل الناس، وأن يكون صادقاً ويبرهن على صدقه من خلال سلوكه، وأن يخشى الله ((الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله)) [سورة الأحزاب].
وكذلك على المبلِّغ أن يتحلى بالصبر والتسامح وأن يكون مثالاً عينياً للقيم المطلوبة من خلال سلوكه وعمله كي يرى الناس نموذجاً حياً للمعايير والقيم التي يدعو لها، ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) [سورة الأحزاب]. ولكي يكون المبلِّغ مؤهلاً للتبليغ فإنه بحاجة إلى صفات تزيد احترامه وقدسيته في أذهان وقلوب الناس، بحيث يقر الناس له حرمة خاصة ويستبعدون عنه الرذائل والعيوب والنقائص، وينظرون إليه كشخص أرقى من الحد المألوف.
أما بالنسبة للمخاطَب (المستمع) لا بد من أخذ نقطتين بنظر الاعتبار الأولى: العمل على زيادة عدد المستمعين، والثانيةتعميق آثار البلاغ… فلا يكون مستوى البلاغ أدنى من المستوى العلمي العقلي للمخاطَبين لئلا يسبب لهم الضجر والسأم، ولا أعلى من مستواهم لئلا يسبب عجزهم عن استيعاب مفاهيمه وبالتالي عدم انتفاعهم منه.
قال الرسول (ص) (إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم).
أما العنصر الرابع والأخير فهو شكل ووسائل إيصال البلاغ:
وهو يعني اختيار الطريقة المناسبة والوسائل اللائقة للوصول إلى الهدف.
وهذه العناصر الأربعة تنصهر بمفهوم الإعلام، والإعلام المعاصر يستخدم (الكلمة والصورة) والإعلام الحقيقي والصادق  عليه أن يعطي صورة من خلال الكلمة المنطوقة أو المكتوبة . والكاتب الحق يختزن صوراً تغلي بداخله وتتفاعل حتى تنفجر كلمات تكون لدى سامعها أو قارئها عبارة عن صور وكأن العين تشاهدها لأنها تعبِّر عن حقيقة حسيّة لها مصداقيتها..
     كذلك والإعلام الحقيقي الصادق عليه أن يعطي كلمة من خلال الصورة أو الرسم ، فالمصور والرسَّام الحق يختزن مفاهيم يعبّر عنها بصورة أو رسم ، فتكون رسوماته وصوره وكأنها تتكلم بالمفاهيم التي يود طرحها على المشاهد ، مثلاً : لا يصوّر تجاعيد الوجه بل يعطينا إيحاءات هذا الوجه . وكما هو معروف أنَّ الناس يتعلمون من عيونهم أكثر مما يتعلمون من آذانهم .
     والإعلام الحقيقي والصَّادق هو الذي يخاطب العمق وليس السطح ، يخاطب الفطرة والضمير ، فينطلق من العمق ليخاطب العمق … وما خرج من القلب يصبّ في القلب ، وكلّ إناءٍ بما فيه ينضَحْ .
     وأيّ إعلامي لأيِّ نهجٍ كان ، إذا عبّر بكلماته وبصوره عمّا يعتقد به ويعتمل بداخله فإنه يكون داعية ورسالي  – إن كان له تعويض عن ذلك أم لا  – أمّا إن كان هذا الإعلامي يكتب ويصوّر بغير ذلك فيكون ارتزاقياً .
لماذا أطلقنا على الصحابي الجليل بلال الحبشي (ر) الإعلامي الأول في الإسلام؟
كل نبي مدرسة من مدارس السماءْ، أمّا الحواريون والأصحاب فهم مدارس الأنبياء ، وهذه المدارس لا تتعارض بل تتكامل ، فهي مدارس صادقة ، والصدق ملّة واحدة . ومن يعتاد ممارسة الصدق يسمَّى صادقاً ، أمَّا من يقوم بنشرِ الصدق كقدوة وسلوك وتعليم فيسمى صدّيقاً ، والصدّيقون هم في المرتبة التالية بعد النبييّن ، يقول الله تعالى :{ ومَنْ يُطع الله والرّسولَ فأولئكَ مَعَ الّذينَ أنْعمَ اللهُ عليهمْ مِنَ النبيّين والصدّيقينَ والشّهداءَ والصّالحينَ وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً }[سورة النساء].
 ومرتبة الصدّيقين ندعو الله أن يهدينا إليها في صلواتنا اليومية عندما نقول :
{….إهدنا الصِّراط المستقيم ، ِصراطَ الّذينَ أنعمتَ عليهمْ …}.
فمن هم الذين أنعم الله عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء و000
مِنْ هنا كانت مدرسة بلال بن رباح – الحبشي - . هذه المدرسة التي نشأت برعاية رسول الله صلى الله عليه وآله فكانت إعلاماً حقيقياً عن الدعوة الجديدة… إعلاماً صادقاً بقول الحق والصبر عليه . وقد استخدمت هذه المدرسة شقّي الإعلام : الكلمة والصورة.
فصورة بلال الذي كان مربوط العنق بحبل ويطاف به بين أخشبي مكّة (الأخشب هو الجبل الخشن الغليظ ؛ والأخشبين هما جبل أبو قيس وجبل الأحمر بمكة ) وينادي أحدٌ أَحدْ. وصورته وهو ملتصق الظهر بالرمضاء في هجير الظهيرة وإصراره على قول أَحدٌ أَحدْ كان لها أبلغ الأثر في المجتمع المكّي ، فنـزعت القشرة الزائفة لملأ مكة التي تظهر بسوق عكاظ وعمارة المسجد وسقاية الحاج ، بتعذيبهم لرجل يقول أَحدٌ أَحدْ . وهذا ما زعزع معتقدات الملأ وأُسقطَ في أيديهم ودفع المنصفين للاهتمام بالدعوة الجديدة وبالتالي لإعلان إسلامهم … حيثُ أعادت صورة بلال هذه إلى الذاكرة محنة المسيحيين الأوائل واستشهاد القديسين خاصّة و أنَّ قصة أصحاب الأخدود ليست بعيدة عن ذلك المجتمع المكّي زماناً ومكاناً .
  وهذا ما دفع القس ورقة بن نوفل ليقـول ( مخاطباً أمية بن خلف الذي يعذّب بلال ): أَحلفُ بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً ( أي لأجعلنَّ قبره موضع حنان : أي عطف ورحمة ، فأتمسّح به تبركاً ، كما يُتمسَّح بقبور الصالحين والشّهداء ) وزادَ الأمر قوةً، منطوق أحدٌ أحدْ المُرافق لتلك الصورة المؤثّرة ، هذه الكلمات التي تلفظها الشفاه العطشى ، إلاّ أنّها تنبع من الصميم فتدخل إلى صميم السامع المشاهد .
     هذا النداء الذي خاطب فطرة الإنسان وأخذ يحفر في ذاكرته عميقاً ليذكّره بالعهدِ والميثاق عندما كان في عالم الذّر ، يقول تعالى : { وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بني آدمَ ِمنْ ظهورهِم ذُرّيّتهم وَأشْهَدهم على أنْفسِهم ألستُ بربّكم قالوا بلى * أنْ تقولوا يومَ القيامةِ إنّا كُنَّا عنْ هذا غَافِلين }[سورة الأعراف].
 ومن جهة ثانية فإن نداء أحدٌ أحدْ يصل إلى صمدٌ صمد، التي من مداليلها الصمود ..أي نداء الحق والصبر عليه 000 { قُلْ هُوَ الُله أَحد ، الله  الصّمد …}
    وهذا ما عاشه بلال حقيقةً لا ادعاءً ، وتساوى جوانيّه وبرّانيّه… فأثمر لهجة صادقة وكلمات عذبة ، لأنَّ التعذيب عندما يُمارس على إنسان ليُكرَه على تغيير معتقده فقد يُنِتج هذا التعذيب والإكراه آثاره ، فيتحول هذا الإنسان الذي يعذّب عن عقيدته مكرهاً على ذلك ، وبهذه الحالة يصبح الإنسان كريهاً بسبب خضوعه للإكراه يقول تعالى :      { ..لا إكراهَ في الدّين قَدْ تبيّن الرّشدُ ِمنَ الَغي …} [سورة البقرة].
    وأمّا من يصمد على قول الحق ويُحبط كل وسائل الإكراه والتعذيب التي تُمارس عليه، فيتحول العذاب عنده إلى عذوبة ، ويصبح العذاب عذبٌ في سبيلِ الله . وهذه العذوبة تجعله عذباً ، فينطق بكلمات عذبة ، تخرج من القلب لتصبَّ في القلب وتفعل فعلها فيه .. وهذا ما يُعرف بصدق اللهجة .
      ربّما من مداليل – أرحنا بها يا بلال _ عند إشارة الرسول (ص) بالأذان ، أي أرحنا بكلماتك .. هذه الكلمات العذبة .. ذات اللهجة الصادقة . رُبّما !! وهناك رواية تقول: (أرحني يا بلال).
من جهة أخرى فإن دعوة الحق لا تشترط لنجاحها سوى الصبر ، فهي ليست بحاجة للعنف لإيصال رسالتها  إلى الآخر { .. َتواصَوا بالحقِّ وتواصَوا بالصبر } [سورة العصر].
فالعنفُ يؤدّي إلى إكراه الآخر وهذا ما يجعله كريهاً (منافقاً لا مؤمناً ) .
وبلال مارس اللاعنف الصامد في وجه العنف المعتدي ، أي قول الحق والصبر عليه ، بدون أن يمارس أي عنف في مواجهة الآخر ..
     وهنا لا بد من الإشارة أنَّ الله (جلّ جلاله ) عندما أرسلَ رُسلهُ وبعث أنبياءه ، لم يرسل أو يبعث عدداً كبيراً من الرسل والأنبياء في فترة زمنية واحدة ، فيكفي لدعوة الحق رجلٌ واحدٌ ليعبّر عنها ويبشّر بها ، ويتمثلها عملاً وقولاً ، فيكفي ظهور الحق ليزهق الباطل ، يقول تعالى : { وُقلْ جَاءَ الحقُّ وزهقَ الباطلَ إنّ الباطلَ كان زهوقاً }[سورة الاسراء].
     النورُ لا يحارب الظلام .. بل بمجرّد ظهور هذا النور يتلاشى الظلام ويندثر ، والمسألة مسالة صبر . وعليه فإنّ بلال كان لا عنف صامد بدعوة الحق في مواجهة الإكراه . وهذا السلاح ، سلاح اللاعنف الصامد برفع راية دعوة الحق ، لا يخيف من يحمله .. فهو سلاح حبّ وتضحية ، لإنقاذ الآخر، وإيصال الرسالة إليه من غير الأسوار المألوفة والمرئية، بل من خلال القلب والروح ، يقول تعالى : { ..ادفَعْ بالتي هِيَ أحسَنْ فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم , وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظٍ عَظيم}[سورة فصلت].
     وهذه المدرسة لها جذور عميقة في التاريخ ، وأمثلتها عديدة في القرآن الكريم بدأت مع هابيل وقابيل ، يقول تعالى : { .. لئن بسطت إليّ يدكَ لتَقتُلني ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقتلك إنّي أخافُ الله ربَّ العالمين }[سورة المائدة] وهناك شجون وشجونْ في تاريخ الرسل والأنبياء . والسيّد  المسيح (ع) في موعظـة الجبـل، قـال : "سمعتـم أنـّه قيلَ تُحـبُّ قريبك وتُبغـض عَـدوّك ، وأمـّا أنا فأقول لكم أحبـّوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم . أحسنوا إلى مبغضيكم" (انجيل متى).
     كما أنَّ رسول الله (ص) أبى أن يُطبق ملك الجبال على أهل مكة الأخشبين بقوله    ( عسى أن يخرج  من أصلابهم من يوحّد الله ). وبالفعل خرج منهم من يوحّد الله ويدعو إلى كلمة التوحيد ويصبر على الإيذاء في سبيل ذلك . وقد مارس الحسين (ر) هذا النهج طيلة حياته وتوَّجهُ في كربلاء حيثُ انتصر الدم على السيف . والمهاتما غاندي في النصف الأول من القرن العشرين مارس هذا النهج مقتدياً بالحسين (ر) فيقول : ( تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر )..  لقد كان بلال مدرسة إعلامية متميزة… ومدارس الإسلام لم تكـن نسخاً مكرّرة . والتفرّد منهج قرآني .. يُصعِّـد بالإنسان ، حتى يحقق الخلافة. يقول تعالى ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون)) [سورة البقرة].
     كان بلال فكرة تمشي على الأرض لها أيدٍ وأرجل ، فكرة حق، تقمّصت روح إنسان، فأصبح روحاً عظيمة ، ومن شأن الروح العظيمة أنْ ترتقي بمن يلامسها من الوجود إلى المعراج … والصادق الصامد على الحق ، يتحوّل إلى صدّيق ، ويصبح في المرتبة التالية بعد النبوة .
مكانة الأذان في الإسلام:
إن رفع الأذان في الإسلام له مكانة ومرتبة عالية وشريفة في أحكام الشرع المقدس، وهو خلاصة من أرقى مضامين الدين الحنيف، فهو يبدأ بذكر عظمة وكبرياء الله جل جلاله وينتهي بنفي كافة المعبودين ما عداه. ويحمل الأذان الإعتراف بوحدانية الله والإعتراف برسالة النبي الأكرم (ص). وكل جملة في الأذان لها معاني عميقة وموجهة ومعروضة بشكل بسيط وخالي من التعقيد والغموض بحيث يتفهمها كافة الأفراد بغض النظر عن مستوى إدراكهم وشعورهم.
فبلال أول من رفع الأذان بأمر من النبي (ص) في المسجد الذي شيد في المدينة المنورة واستمرار رفع الأذان لمدة تقارب العشر سنوات حيث كان أذان بلال بمنزلة إبلاغ دعوة وإعلان لأوقات الصلاة وحضور النبي (ص) في المسجد. ولو أعدنا النظر إلى صفات بلال لوجدناها تنطبق مع الصفات اللازمة لكل مبلِّغ حيث أن ماضيه المشرق والمشرّف المقرون بأعلى المُثل والقيم الإسلامية الإنسانية إضافة إلى العقيدة الراسخة والصادقة يجعل منه نموذجاً وأسوة حسنة لإنسان يتحلى بالصبر والمقاومة والشهامة والصراحة ومخافة الله وبسعة الصدر وعدم الاهتمام بمغريات الحياة.
وكذلك فإن اختيار النبي(ص) لبلال كأول مؤذن في الإسلام يشير إلى أنه لا أثر للون الجلد وبقية المعايير والقيم الظاهرية والمادية في الوصول إلى درجة التقرب من الله.
إن بلال الذي كان عبد لأحد سادة قريش أصبحنا نقول عنه سيدنا بلال رضي الله عنه.
النتيــــــــــجة:
((قل هو الله أحد …)) سورة الإخلاص وبها يتم الخلاص.
الإخلاص هو التوحيد، والإنفراد ، لا مثيل له بمعنى: الواحد، الأحد.
التوحيد وليس الشرك:
يقول تعالى: ((ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار)) [سورة يوسف] 
التوحيد أن تنتهي من الإشراك بالله بأن يكون توجهك لله وحده.
إن جغرافيا الوحدانية والتوحيد والتضامن لا يتم استيعابها والوصول إليها إلا عن طريق الابتعاد عن حضيض المذلة.
وعندما سلك رسول الله (ص) طريق المعراج، كشف بذلك لجميع المؤمنين والمسلمين عن مسلك العروج بقوله: (الصلاة معراج المؤمن)، ومعناه أن هذا هو الطريق الوحيد للترفع عن ألم الهبوط المزمن!.
حركة المعراج ليست أفقية وإنما آفاقية "كل في فلك يسبحون"[سورة يس].
إن الفسحة الزمنية المتاحة في هذه الحياة إنما هي لتحويل الأرض من جغرافيا الهبوط إلى جغرافيا المعراج.
عندما يستيقظ التوحيد في داخل الإنسان فتنتج الروح أبهى ثمارها وهي ثلاث: النور والمحبة والسلام.
النور: الذي يحل شيئاً فشيئاً محل الفوضى والظلام والأكاذيب والأوهام وبه نشعر بالحق الذي يحررنا.
أما المحبة: فهي التنكّب عن العدوانية والخوف من الآخرين، فتزول كل قوى الفرقة القابعة في داخلنا فنتحرر لكي نحب.
أما السلام: فهو وحدة النور والحب وموت العدوانية..
أيها الإخوة:
إن منهل ماء الحياة هو من نبع التوحيد والمعرفة.
(إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها) [نهج البلاغة]   
ومعناها إن القلوب والأرواح الأكثر نفعاً هي الأكثر اتساعاً واشتمالاً.
بلال رمزٌ لهذا الوعي والتوعية بموقفه الشفاف في الزمان والمكان وهذا الموقف الصلب يتجدد في حنجرة وجسم كل من يعرف لماذا كان الزمان وماذا يعني الأذان..
أحدٌ أحد، تحيا بها النفس الإنسانية ((ومن أحياها فقد أحيا الناس جميعاً)) [سورة المائدة] 
 
وختاماً:

كل من لا يعرف الزمان ليس بمؤذن، وكل من لا يعرف المكان ليس بمؤثر.
لايمكن العبور من نهر مرتين ولا يمكن لأذان أن يُسمع مرتين.
الأسود صمت الألوان لكنه أكثر ضياءً من القصور البيضاء.
ولا يوجد لون أكثر وضوحاً من صوت الإنسان.

 

 

المحامي عبد الحميد الصمادي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...